مأساة التهجير في قطة فوق صفيح ساخن
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
بقلم: زياد جيوسي
لعل العنوان “قطة فوق صفيح ساخن” أول ما يلفت النظر بهذه الرواية والتي هي الأولى للكاتب مراد سارة والصادرة عن جفرا ناشرون وموزعون في مئة وثلاثون صفحة من القطع المتوسط، بالطبعة الثانية 2022م والتي أشار الكاتب أنها “مزيدة ومنقحة” وإن لم تخني الذاكرة فالطبعة الأولى صدرت عن دار نشر أخرى وتمت اعادة الطباعة بعد ان أنشأ المؤلف جفرا ناشرون وموزعون في عمَّان عاصمة الأردن، ومن تصميم الغلاف يمكننا أن نعرف حول ماذا تدور الرواية ونعرف معنى العنوان، فالغلاف الأمامي ويمتد الى الغلاف الخلفي عبارة عن مشاهد متداخلة لأطفال ونساء في أزقة مخيم يضم النازحين واللاجئين الفلسطينيين باللون الموحد القريب من لون الأرض، وتتصدر الغلاف صورة امرأة فلسطينية ترتدي الثوب المطرز وتضع على رأسها الشال الأبيض، وواضح أنها تمثل المعاناة فالألم على وجهها ومعاناة الأعوام، والثوب قديم يؤكد على الفقر والمعاناة، بينما الغلاف الأخير حمل صورة ملونة للكاتب وفقرات تتحدث عن الرواية.
يلاحظ أن الكاتب كتب اهداء مطول من 434 كلمة لخص فكرة الكتاب والحياة في مخيم حطين للنازحين واللاجئين النازحين والذي تم انشاؤه بعد هزيمة حزيران 1967م والذي اعتاد الناس على تسميته مخيم شنلر نسبة لقربه من معهد شنلر والذي أخذ اسمه نسبة للقس يوحنا لودفك شنلر والمعهد مسجل وقفا خيريا في الاردن منذ وضع حجر الأساس عام 1959، وقد أرفق بالرواية عدد من الصور للمخيم بالأبيض والأسود، كي يرافق ذائقة القراءة مع الذائقة البصرية، ويحيل أحداث الرواية من خيال الكاتب لواقع المخيم، كما وضع تحت عنوان “البداية” وعلى صفحتين حالة وصفية ليوم من حياة النزوح في الغرفة اليتيمة ذات السقف من الصفيح وأخبار عن غارة لطيران الاحتلال واستشهاد عدد من الفلسطينيين، حيث بتلك اللحظة “وُلِدَت قطةٌ فوق صفيحٍ ساخنٍ”، فكان العنوان للرواية والمسرح الذي تبدأ منه الأحداث.
من بداية الرواية نلاحظ أن الكاتب أنسن الهرة وجعلها الشخصية الرئيس في الكتاب وأعاد لذاكرتي كتاب كليلة ودمنة الذي كان على لسان الحيوانات، وبالتالي أصبحت القطة راوية الحكاية بعد أن تمردت على مراد وأخذت منه دور الراوي حيث أورد الكاتب على لسان القطة قولها: “أريد أن أحملَ معاناةَ لاجئةٍ شُرّدتْ وتقطّعتْ بها السُبُل حتى سكنتْ مركزَ توزيعِ المؤنِ، أشقّ طريقَ الحروفِ وحيدةً دون أن يكون (لمراد) دور في نبش أحداثِ النهاية.”، وإن سمحت له أن يتحدث في بعض المواقع التي لا يمكن للهرة أن تتحدث عنها، كما حديث مراد عن السينما والقراءة، والقطة أصبحت وكأنها لاجئة حقيقية من المخيم، تروي حكايات الناس وتفكر وتقول: “من الذي يحبُّ الحزنَ ويقدّس العذابَ غير أمريكا وإسرائيل؟!” وتوجه النصائح بالكتابة للكاتب بإسمه وكأنها تخاطب صديقا.
مقالات ذات صلة انطلاق عروض ثلاثية أفلام زينة دكاش في “شومان” غدا 2023/08/07الهرة التي دللها مراد سارة بلقب هرهورة والتي فقأت عينها بسقوط مخرز الغجرية موزة عليها والتي رمزت اليها القطة أنها دولة الكيان المغتصب للوطن من خلال قولها: “والأممُ تبارِك لموزةَ استعمارَها وغضِّ البصر عنها”، فالهرة كانت تمثل المراقب لمعاناة المخيم وتنقل الأحداث بدون تدخل فيها، فلو كان الراوي بشرا فلم يكن بالامكان أن يراقب فقط ولا يتدخل، وكون الهرة أصبحت بعين واحدة فقد أصبحت ترى المعاناة في كل بيت تتسلل اليه وتروي بعض من حكاياته، ترويها برؤية عين واحدة تنقل الواقع كما هو، لذا نجدها تروي حكايات شخوص الرواية بتجرد وبدون مؤثرات ولكنها تسقط بين الحين والآخر بهدوء وجهات نظر سياسية أو اجتماعية، فالكتاب بأكمله يروي حكايات المخيم وشخوصه ومعاناتهم والفقر والحالة الإجتماعية وكما ورد بالرواية: “في المخيّم الكلُّ ينظرُ إليكَ بنظراتٍ موجعة، تحدثّك بسكينةِ الألم عن انسحاقِ القلوبِ داخلَ الصدورِ المظلمةِ، أجسادٌ لا تستطيعُ أن تخفي نحولَها وقد حاولتْ مراراً أن تنفصل عن الموت الذي كان ملاصقاً لكآبتهم، ليالٍ سوداء سلبت من الوجوه ما جمعتَه في الأيام البيضاء، وطمستْ بالنكبة بشاشتهم”.
من الشخصيات الثانوية المهمة بالسرد شهلا التي تعيش بغرفة قذرة وكذلك أبو هاشم يسكن بجوار مركز توزيع المؤن ويعمل حلاقا وتاجرا ولا يأخذ أجرة الحلاقة من الفقراء ويرفض أن يشتري أرض قرب المخيم وينتظر أن يعود لقريته المحتلة، وهذه اشارة لمسألتين وهما التمسك بحق العودة ورفض فكرة أن يكون هناك وطن بديل، وأيضا وداد زوجة الشهيد التي تدعو الله ان يحفظ اطفالها من الجوع ويرحمها من ذل السؤال، والتي تهتم بها شهلا حين تجدها خرجت بالبرد لتبحث عن لقمة خبز لأطفالها، وأيضا وصف حالة اجتماعية نجد بسمة ويوسف وحكاية حب رغم كل ظروف المخيم، وحين يمسك والدها رسالة منه معها ينتقل بأسرته الى مخيم البقعة ليبعدها عن يوسف، و سعاد من سكان المخيم تمثل اللذة المصطنعة في العلاقة مع زوجها في بيوت تفتقد الخصوصية لتلاصقها، إضافة لعشرات الأسماء التي حفلت بها الرواية بحيث يشعر القارئ أن الكاتب لم يترك شخصا من المخيم له حكاية ولو بسيطة الا أورد اسمه ومنها على سبييل المثال لا الحصر موزة الغجرية وأبو ابراهيم البهلول والحاج المصري حلاق المخيم وأبو خضر بائع الكاز وأم عبد الله الداية وأبو عثمان مجبر الكسور ودنيا الطباخة في مخيم الوكالة وأبو ناصر الذي كسر أقفال بيت المؤن لصالح الجياع وكان يحرضهم على الثورة ويخطب بهم:”هم اليومَ كالخراف ونحنُ الذئاب فما عليكم إلا أن تذهبوا إليهم وتسترجعوا أرضكم”، وهذه النماذج التي اخترتها من ضمن العشرات من الأسماء توضح كيف يتحول المخيم من شتات اللاجئين والنازحين إلى مجتمع متكامل. إضافة للإشارة للمستنقع الذي عرف بإسم “بركة البيبسي والحديث عنه بالقول: “وجلبتْ البعوضَ والحشراتِ القاتلِةِ وهوايةَ الموتِ السريعِ بدونِ تذاكرَ عبورٍ إلى السماءِ أو حواجزَ تحرِمُ القتيلَ ركوب الماء” .
الكاتب استخدم حكايات أسطورية من التراث مثل حكايات ابو رجل مسلوخة وغيرها، وأما قصة قط مخبز جبل الجوفة الذي كان من الجن فهي قصة تتكرر في مناطق مختلفة وقد استمعت لها أنها جرت في مدينة نابلس بجوار المقبرة من شاعر من نابلس وسكانها بنفس الكلمات وسياق آخر، وفي الجانب الاجتماعي نجد الكاتب أشار للتكاتف الاجتماعي رغم الفقر فهم يهبون للنجدة ومد يد العون لإعادة بناء سقف الحاجة خضرة وجدار بيت أبو أسامة، وفي المقابل أشار الكاتب لسلوكيات اجتماعية شاذة كحادثتي اغتصاب وهيبة المشلولة وحرق أم العبد التي كانت تجمع المال لترسل زوجها السكير والذي لم يعرف الدين يوما للحج، فيلفها بالبطانية ويحرقها وهو في لحظات غياب للعقل بسبب الخمر، فتموت هي ويسجن زوجها ويرسل الأطفال الى مبرة أم الحسين للأيتام.
وجهات نظر سياسية تسللت كعبارات في ثنايا الكتاب حيث انتقد الفصائل الفلسطينية بعبارة “لدرجةِ أنَّ الثلجَّ لم يتماسك، وأعلن الانفصالَ كحال كلِّ الكتائبِ والحركاتِ الثوريّةِ الفلسطينيةِ”، كما هاجم منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الفلسطينية بقوله: “تأخرَ البريدُ القادمُ من السماءِ وسرقَتْ منظمةُ التحريرِ كُلَّ الهباتِ والعطايا، ولم يتجرأَ أحدٌ على (رشيدة مهران) و(أم ناصر) ، وبقيت (أم حسين) تحتسبُ إلى الله حتى فقدتْ لقمةَ الخبز”، وهذه الانتقادات السياسية تكررت في الكتاب ما بين المباشرة والايماء.
كما تكرر الإنتقاد للهيئة التي أنشأتها الأمم المتحدة تحت مسمى هيئة اغاثة وتشغيل اللاجئين والمتعارف عليها باختصار حروف البدء في كلماتها باللغة الانجليزية “أونروا”، ومن هذه الانتقادت على سبيل المثال العبارة التالية: “أعمدةٍ تعودُ للخيمةِ التي صُرِفتْ بدلَ فاقدٍ لوطن ، واعتبرتها (الإونروا) حقاً مشروعاً لكلِّ لاجئٍ بغضّ النظرِ عن فلسطينِ .”، وأشار لاغتصاب فلسطين والوضع الذي أصبح عليه المهجرين إلى المخيم بإستخدام إسم وهيبة المشلولة والتي جرى اغتصابها فيقول “جسدٌ تبادلَ على نهشِهِ الإنسانُ والقوارضُ بعد مصيبةٍ حلّت عليها باغتصابها وفلسطين.”، كما أشار لذلك بعبارة قوية وتحمل دلالات بالقول: “”الفقرَ كان كبيراً، وهذا هو سلاحُ إسرائيل.. الفقرُ ما يميت شرفَ المرأة، ويحيي شهوتَها”، كما كان هناك تساؤل مهم على لسان الهرة الراوية للحكاية وهي تشير فيها إلى دولة الإحتلال بالقول: “هل أشنُّ حرباً غير متكافئة على (موزه) والعالم يقبع تحتَ الظلم والاستعمار؟”.
ونجد أن الرواية في محتواها العام تعتمد على رواية حكايات المخيم واستخدام نماذج كثيرة فيها من سكان المخيم، وتروي حكايات وحكايات بحيث نجد أحيانا أن الحكايات منفصلة عن بعضها ولا يربطها ببعضها سوى أنها حكايات الناس بالمخيم، بحيث أنه لو جرى شطب بعض الحكايات التي كانت عناوين الفصول فلن يتأثر السرد الروائي ولن يشعر القارئ أنه قد نقص شيء من الكتاب، ويلاحظ أن الكاتب لجأ أحيانا لاستخدام اللهجة المحكية لإضفاء طابع مختلف على الرواية، لكن من وجهة نظري لا أحب الخلط بين الفصحى والعامية وأشعر أنه أسلوب يضعف الرواية أو القصة، إضافة أن الكاتب خرج عن مفهوم الرواية بشكلها التقليدي وخرج عن المألوف فيها، فروايته سرد لحكايات وافتقدت التصاعد من البداية للوصول إلى نقطة التأزم للوصول الى النهاية سواء كانت نهاية مفتوحة أو مغلقة، وكانت النهاية المفتوحة بعد الحكايات عبارة عن وجهات نظر وإشارات مختلفة وخاصة الإشارات السياسية، وعدم انهاء الكتاب بنهاية مغلقة تسجل لصالح الكاتب فحكاية المخيم مكان الإقامة الإجبارية تبقى قائمة ومستمرة حتى العودة للوطن.
وافتقدت الرواية الحبكة القصصية التي تحتوي على السرد والحوار والمناجاة وإن حافظ على التعليق برأي الكاتب، وإن حافظ على المكان والزمان كفضاء للرواية اضافة للشخصيات الرئيسة وهي الهرة ومراد إضافة للشخصيات الثانوية والتي تختلف وتتباين بدورها في الرواية بين ثانوية رئيسة وثانوية عابرة، وحافظ الكاتب على الأبعاد الاجتماعية والسياسية ووحدة الفكرة في روايته بصور بسيطة أحيانا وصور عميقة في أحيان أخرى.
وأنهي الحديث بعبارة وردت في الرواية على لسان الرواية تلخص الفكرة بالقول: “هل تسمعُ السماءُ مَنْ وقف أمامها متظلماً شاكياً ..؟”.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: على لسان
إقرأ أيضاً:
تنصت على حكايات الجدران.. ثورة السجون في ممرات تونس
ربما تكون هي المرة الأولى التي نرى فيها فنانة تشكيلية تدخل سجنا عربيا على سبيل الزيارة لتُنصِت لحكايات الجدران، تتأمل أوضاع العالم المعزول الذي فتح لها أبوابه على مصراعيه ولم يحرمها من وطأة قدم بأي بقعة داخله، تلمس الإنسانية في أوج تناقضاتها بين جريمة خطيرة يعاقب عليها الضمير قبل القانون وبين بؤس وشقاء يعيشه مرتكبها مستدرا عطف زائرته لعذاباته وحريته المقيدة، تستمع لشهادات السجناء وسجانيهم على السواء، تلتقط صورا بالكاميرا تصرخ في صمت لرموز وحوائط، أقفال وعنابر وأسلاك، للمنسيين خارج الكوكب بينما تثور تونس في الخارج، لتخرج بمعايشة فريدة وثرية تنقلها خارج الأسوار.
هذا ليس خيالا أو رواية من أدب السجون، بل تجربة واقعية عاشتها الفنانة التونسية هالة عمار عندما زارت 12 سجنا في بلادها من مجموع 28 عام 2011 ضمن لجنة تقصي حقائق رسمية برئاسة توفيق بودربالة، الرئيس الشرفي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمحامي بمحكمة التعقيب، وذلك في أول تصريح رسمي بزيارة تونسيين لسجون بلادهم.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فاز بجائزتي كتارا ونجيب محفوظ.. محمد طرزي: لا أعرف إبداعا أدبيا ارتبط بالفرحlist 2 of 2مأزق المسرح بلا جمهور.. دعوات لإصلاح الإبداع المغربيend of listهالة، من مدينة قرطاج وهي اليوم في العقد السادس من العمر، ليست فنانة فقط، بل محامية أيضا وأستاذة جامعية بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، رغبت في دراسة الفنون لكن أسرتها كلها تعمل بالمحاماة؛ مما دفعها إلى اللحاق بهم. عندما التقيناها، عرّفت نفسها بداية بأنها امرأة ثم مواطنة ثم محامية ثم فنانة. "لو كنت فنانة فقط، لم أكن لأستطيع الدخول"، هكذا بدا الأمر محسوما.
إعلانبعد 14 عامًا مرت على ذكرى الثورة التونسية وزيارة هالة ضمن لجنة نسائية للسجون على مدار ستة أشهر، نعرض كتابها الذي صدر بالفرنسية في صيف 2015 بعنوان "Corridors" أو "ممرات". كما نستدعي بعضا مما جاء في تقرير اللجنة المكون من 1041 صفحة، الذي قدم للرئاسة التونسية في مايو 2012. يعبر الكتاب في ذاته عن ممرات فاصلة بين العالمين الموازيين على جانبي السور وثورة خارجية أحدثت تمردا داخليا عبر 130 صفحة وعشرات الصور المركبة بشكل أبيض في أسود لتحفظ ما بقي للمساجين من كرامة.
لم يكن الكتاب هو العمل الفني الوحيد للمحامية التونسية فقد سبقه معرض عن بيئة السجون ضم مواد سمعية وبصرية عام 2012. احتوى الكتاب على كلمة ختامية لصادق بن مهنى، الناشط اليساري والسجين السياسي السابق، وصدر بدعم من المفوضية العليا لحقوق الإنسان، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، والمعهد الفرنسي، وسفارة سويسرا.
كان الغرض من عمل اللجنة هو الوقوف على حجم الانتهاكات التي وقعت منذ حرق محمد بوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. وجدير بالذكر أن السجناء الذين التقتهم اللجنة هم سجناء جنائيون وليس بينهم أي سجناء سياسيين فقد أُفرج عن هؤلاء بعفو تشريعي عامّ بعد شهر واحد من الثورة.
هالة عمار في زيارات السجون (صورة من الكتاب)في دردشة خاطفة معها بعد أشهر قليلة من صدور كتابها، قالت هالة: "الثورة مكنت المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال حقوق السجناء من الحديث حول ظروف السجون وانتقاد المعاملة السيئة. لم يكن هذا الحديث ممكنا قبل الثورة فزيارة السجون كانت مقتصرة على الصليب الأحمر الذي يصدر تقارير سرية. وهكذا تتغير العقلية شيئا فشيئا مع غرس ثقافة حقوق الإنسان ومنهم السجناء؛ فشهدنا على سبيل المثال عروضا سينمائية لمهرجان قرطاج داخل السجون وتحسنا في التشريعات بالنسبة للسجناء وتطويرا في المنظومة السجنية من الداخل. التغيير عملية طويلة لكن الإرادة موجودة". وتتبع المنظومة السجنية في تونس وزارة العدل خلافًا لغالبية الدول العربية التي تتبع فيها وزارة الداخلية.
إعلانوأضافت هالة: "العقلية العربية ترى في السجن عقابا غير كافٍ فلا بد من أن نزيد عليه التعذيب وسوء المعاملة وهذا نتيجة غياب مبدأ احترام الذات البشرية. برامج التأهيل مثلا موجودة لكن هل هي فعالة؟ هل هناك إرادة حقيقية في تأهيل السجناء أم أن الرأي الغالب هو أن المجرم مكانه خارج المجتمع؟ نفس هذه العقلية ترى الفن حاجة ترفيهية لا تعالج مشاكل اجتماعية ولهذا فالفن ملوش حظ في عالمنا".
فكيف كان يعيش السجناء في تونس وقت الثورة؟ في الخارج "العالم المدني" كما يسميه السجناء وفي الداخل يقبع أحياء أموات.
أحد المساجين ممن رسم "وشما" على قدمه يحمل اسم "انتقام" مستخدما إبرة وعلبة زبادي محروقة (صورة من الكتاب) مدرسة للجريمةبين جدران السجن، وجدت هالة خليطا غريبا؛ شبابا مع أولاد صغار سويا مع مجرمين خطرين ارتكبوا كل أنواع الجرائم، وهو ما يتنافى مع المعايير الدولية التي تذهب إلى الفصل بين السجناء حسب نوع الجريمة. وجدت مجرمين صدرت عليهم أحكام مع محبوسين حبسا احتياطيا.
تساءل أحدهم: كيف يُسجن شخص بتهمة إصدار شيك بدون رصيد فيجد نفسه بصحبة قتلة؟ تعجبت من تحول السجن إلى مدرسة للجريمة وليس إلى مكان للتأهيل، يتعلم فيها السجين كيفية الغش والسرقة وحتى القتل. فرض عليك أن تكون رئيس عصابة أو منتميًا لعصابة تحميك فهنا يسود قانون الغاب ويبقى الأقوى الذي يأخذ مال ودخان الضعيف ويغرقه بسخافات ومضايقات. إذا زُجّ بأحد ظلما ولم يكن مجرما فسيتعلم الإجرام داخل الأسوار مع هذه الصحبة، هكذا قال سجين رسم "وشما" على قدمه يحمل اسم "انتقام" مستخدما إبرة وعلبة زبادي محروقة.
المعتاد أن يصدر حكم القضاء قبل انتهاء فترة الحبس الاحتياطي وهي ستة أشهر، لكنه أحيانا يتأخر عن ذلك.
للسجن لغته وقاموسه الخاص، فكما في مصر قضايا "الآداب" هي مرادف لقضايا مرتبطة بسوء السلوك الاجتماعي، ففي تونس قضايا "الأخلاق" مرادفا للجرائم الجنسية و"الروح" مرادفا للقتل، و"كونفا" مرادف للترحيلات التي يعاقب بها السجناء فيُنقلون إلى سجون بعيدة ليحرموا من رؤية ذويهم في الزيارات ممن لا يملكون تكاليف الانتقال فضلا عن المشقة وعدم الثقة في إتمام الزيارة التي قد تلغيها إدارة السجن بعد انتظار الأهالي ساعات. يفترض أن يتم توزيع السجناء على السجون حسب أماكن سكنهم لكن هذا لا يحدث. الـ"كونفا" حالة دائمة، كما تقول هالة.
الكاتبة تروي أن السجناء عرفوا بما يحدث في خارج السجن عبر التليفزيون الذي يعرض لهم اختيارات الإدارة، لتشجعهم أخبار الثورة على التمرد (صورة من الكتاب)تقتصر الزيارات على أقارب الدرجة الأولى من جد أو حفيد أو أخت، أما الأم فتأتي غالبا بالأطعمة المحببة لابنها من غير الطواجن والمحاشي التي لا يسمح بإدخالها بعد أن أتت بعض الأمهات بـ"المرهوجة"، وهي أكلة تونسية عبارة عن العجة التقليدية مع إضافة مادة الزطلة المخدرة، في الزيارة لإرضاء إدمان أبنائهن السجناء؛ فأصبحن "محل شك". البعض يستغل الزيارات لتهريب أقراص المخدر في حبات البازلاء، أو أمواس في الخبز وكعب الحذاء لتُستخدم سلاحًا داخليًّا، كما ذكر الكتاب.
إعلانأما الزوجة فتذهب لزيارة زوجها وبداخلها مشاعر الحرمان والاشتياق، لكن العلاقات الزوجية من المحظورات لا يتحدث عنها أحد لا السجناء ولا السجانين ولا الزائرين بالطبع، رغم أنها تؤرق الكثيرين. لم تعد بعض الممارسات غير الأخلاقية سرا فقد طالب البعض بمكان خاص لهم وهو ما حدث بالفعل في سجن "مورناجيا" كما قال أحد الحراس لهالة.
تقر بعض الدول حق السجين في زيارة زوجية خاصة، لكن كيف تحدث في سجون تونس والزيارة تكون بالنظر إلى عيني السجين فقط من خلف القضبان؟ حتى جسمه لا يرى فقط جزء من وجهه. بعض السجناء الذين يتلقون معاملة خاصة يحصلون على مكان للزيارة تكون فيه الرؤية أوضح عبر الزجاج بلا قضبان ويكون التواصل فيه عبر التليفون. البعض أيضا يحصل على غرفة زيارة يقابل فيها ذويه وجها لوجه ويستطيع ملامستهم. مدة الزيارة في هذه الغرفة لم تكن تزيد عن 20 دقيقة وفي وجود حارس.
الانتحار أيضا من المحظورات. بعض المحاولات نجحت وبعضها فشل. الكيفية؟ إيذاء النفس باستخدام الأدوات المهربة حتى يتم احتجازهم من قبل قسم التمريض ويحاولون من هناك الهرب.
"الحبسة بتجنن. تعقد فيها صداقات مع الصراصير والنمل فهي المؤتمن الوحيد على الأسرار والرابط الوحيد بالعالم الخارجي لأنها تتمتع بحرية الحركة" هكذا ملخص الحال.
سجن النساء (صورة من الكتاب) سجن النساءسجن "منوبة" للنساء هو الوحيد المخصص لهن، وقد تم بناؤه حديثا أما باقي السجون فبها أقسام للنساء، وهو أفضل حالا من السجون الأخرى فلكل سجينة سريرها الخاص كما تشخصن كل منهن "مطرحها" بحاجيات وألوان بسيطة.
تشكو سجينة من أن المرأة في السجن "وصمة عار" على الأهل الذين ينقطعون عن زيارة ابنتهم بعد فترة بعكس السجناء الرجال الذين تسامحهم أسرهم.
"تعالي شوفي البق"هكذا استقبل المساجين هالة في عنابرهم. عشرات المساجين مكدسون بأمتعتهم وحاجياتهم في غرف بلا تهوية أو ضوء سوى فتحات ضيقة في السقف. في الصيف ومع اشتداد الحرارة، تجد بعض المساجين جالسين على جرادل مقلوبة ونصفهم العلوي عارٍ يلمع من العرق. يقول أحدهم: "كأننا في ساونا. الفرق أننا نعيش فيها بشكل دائم".
إعلانوتعاني السجون التونسية من نقص الإمكانيات خاصة أن معظمها بني في بدايات القرن العشرين، وبعضها تحول إلى سجن وقد أنشئ لأغراض أخرى، أي أن متطلبات السجون لم تراعَ عند البناء، مثل سجن "برج الرومي" ببنزرت الذي أنشئ عام 1965 ثكنةً عسكرية إبان الاستعمار، وتم تحويله إلى سجن في أعقاب الاستقلال.
سجن "برج الرومي" (صورة من الكتاب)تقول هالة إن كل السجون تستوعب ضعف طاقتها، أسِرّة حديدية لاصقة في الحوائط من دورين وثلاثة يضم كل سرير أكثر من نائم في حين لا يجد البعض مساحة فتكون الأرض منامه، وممر ضيق يؤدي إلى الحمام الذي يكون أحيانا بلا باب. الاستحمام مرتان أسبوعيا، هكذا تقول النظرية لكن الواقع العملي شيء آخر؛ مما تسبب في انتشار الأمراض الجلدية ومشاكل التنفس. الأكل والدخان يكون داخل العنابر أيضا لغياب "الكانتين" أو صالة الطعام. بعض المساجين خلعوا حديدًا من الأسرة واستخدموه سلاحًا ضد الحراس؛ ليتم خلع كل الحديد من الأسرة بعد ذلك بقرار من إدارة السجون.
يختلف سجن "المهدية" بعض الشيء فتدخله إضاءة جيدة، كما أن باب السجن الحديد ملون وتزينه بعض اللوحات، ربما ليتماشى مع طبيعة مدينته السياحية سيدي بوسعيد.
ثورة وتمردكانت بعض السجون مسرحا للاضطرابات المصاحبة للثورة؛ فهرب منها أكثر من 10 آلاف سجين وشهدت أعمال حرائق وسرقات وعنف واغتصاب راح ضحيتها البعض. عرف السجناء ما يحدث في "العالم المدني" (أي خارج السجن) عبر التلفزيون الذي يعرض لهم اختيارات الإدارة من برامج دينية ومسلسلات وأخبار، لتشجعهم أخبار الثورة على التمرد، كما تروي هالة.
سجل سجن "المنستير" أعلى معدلات الوفاة في السجون التي شهدت 86 حالة وفاة وقت الثورة حين ملأ بعض السجناء المراتب بالزيت وحرقوها بالولاعات على أمل إحداث فوضى تخرجهم مما هم فيه لكنهم لم ينجحوا وكانت النتيجة موت 49 سجينا بين محروق ومخنوق، أما المصابون فلم يأت أحد لمداواتهم وكان كل علاجهم معاجين الأسنان التي اشتروها من السجن لتهدئة الحروق. ما زالت الآثار واضحة على هؤلاء تحتفظ هالة بها في ذاكرتها.
إعلانالسجينات أيضا حاولن الهرب مع خوفهن من أصوات ضرب النار بالخارج فحاولن إشعال النار في المراتب لكنهن فشلن، فلم ينتظرهن سوى العقاب. جاءت الحارسة وجردت إحدى السجينات من ملابسها وأتت بحراس رجال صبوا عليها ماء باردا (كان الوقت شتاء) وأشعروها بالخوف لما يمكن أن يفعلوه بها. هذا فضلا عن الحبس الانفرادي.
صورة للحبس الانفرادي بأحد السجون (صورة من الكتاب)في سجن "برج الرومي"، استولى بعض المساجين على المنشطات من صيدليات السجون وسرقوا السكاكين وأنابيب الغاز وضربوا الحراس بالقضبان الحديدية الخاصة بالأسرة وبلوكات الصابون التي ركبوا لها الأمواس المهربة حتى أصبحت سلاحا فعالا. اندلعت اشتباكات واسعة في السجن استمرت عدة أيام أطلق فيها الحراس قنابل الغاز داخل غرف السجناء ومارسوا عليهم حرب تجويع لم تستمر أكثر من ثلاثة أيام بعدها أعطوهم الخبز الناشف من فتحات السقف. مات الكثيرون ومن بقي وثبت تورطه في هذه الاحتجاجات تم اقتياده لغرفة منعزلة ربط فيها من يديه ورجليه بالسلاسل في الحائط. هكذا كان العقاب الشديد لاحتجاجات السجون.
في "برج الرومي" أيضا، حدثت واقعة اغتصاب لسجين صغير كان ضحية اغتصاب جماعي، وجرت واقعة أخرى في سجن "المسعدين"، الذي تعرض قسم النساء فيه لحريق ثم هجوم من سجناء رجال اغتصبوا فيه سجينة. الواقعتان تكذبهما إدارة السجنين وقد شهد الحراس بوقوع الواقعة الثانية إلا أنهم عادوا فنفوا ذلك.
الحراس يشكون أيضاهم يرون أن نظام السجون فاسد والتعيين والترقي يعتمد على "الواسطة"، ولا يجدون سوى السجناء متنفسا فيصبون غضبهم عليهم وتقع مشاجرات كثيرة، كما تقول هالة، حتى إن بعض الحراس يغارون من بعض المساجين "المهمين" المرفهين. ليس لديهم صالة طعام ولا راتب مجزٍ. السجانة في نظر المجتمع هي "عشماوي" وليست "حامية للبلد". التدريبات تخصص للأعلى درجة وليس للجميع. ترى هالة أن هناك مبالغة في الشكوى مع إدراك الضغوط الاجتماعية على السجانين.
إعلانيقول أحدهم: "أنتم لا تهتمون سوى بالمساجين وتنسونا. أحيانا يحصل المساجين على معاملة أفضل منا، عندما يحتاجون لرعاية طبية يوفرها السجن مجانا وقد يغطي لهم مصاريف إجراء عمليات في أفضل المستشفيات دون مقابل، وهو امتياز لا يحق لنا وكأننا أقل منهم".
العنابر (صورة من الكتاب) حياة وراء الجدرانتروي هالة: بعض السجون مثل "المهدية" و "هوارب" و"القيروان" و"السرس" و"الكاف" صُمّمت لكي تكون مفتوحة وفيها أنشطة خارجية كالزراعة وتربية النحل وغيرهما، لكن المساجين فقدوا خوفهم من السلطة ولم يعودوا يطيعون أوامر سجانيهم كما كانوا؛ فخشي الحراس مصاحبتهم في الأنشطة الخارجية؛ مما أدى إلى وقفها.
أما من أثبت "حسن سير وسلوك" أو "أرضى الإدارة" في بعض السجون فلهم أن يدرسوا ويحصلوا على الدبلومات ومنهم من يطور مهاراته لكي يصبح نجارا أو حرفيا أو فني كمبيوتر أو حلاقا. في سجون قليلة، يشتغل السجناء بالموزاييك. وفي سجن "مرناق"، جُهزت صالتا تنس الطاولة والكمبيوتر لكنهما بقيتا كالديكور خاليتين من أي سجناء. كذلك الأمر بالنسبة للأجهزة الرياضية في سجن "منوبة" النسائي.
بعض السجون تضم مكتبات لكن الإقبال ضعيف على القراءة؛ لأن الكتب المتاحة فيها موضوعاتها غير جذابة والمساجين معظمهم أميون أو تعليمهم محدود. يستعيض مسؤول الأنشطة الثقافية عن ذلك بتوزيع الكوتشينة أو الدومينو وأحيانا يلعبون كرة القدم، ويكون ذلك في حالات محدودة؛ لأنها تشعل المشاجرات بين المساجين كما أن الأرضية بلاط وربما تتسبب في إصابات بالغة للاعبين. لكل سجين نزهة صباحية ومسائية في الحوش، وأحيانا تكون واحدة فقط، والأحواش بعضها أعلاه مفتوح إلى السماء وبعضها له سقف حديد.
في سجن "المنستير"، لا يوجد زي رسمي للسجناء ويظلون بملابسهم التي دخلوا بها السجن، أما الملابس التي توزع في بعض السجون فلا تقي من برد الشتاء؛ مما يدفع السجناء الأغنياء إلى العطف على زملائهم الفقراء. الطعام كمياته قليلة يوضع في جردل مرتين يوميا ويخلو من الخضار الطازج، والفاكهة ويمكن للسجناء شراؤها من السجن. لا توجد لحوم إلا قطع أجنحة يقول السجناء إنها مجرد عظام.
إعلانتبيع السجون كوبونات الدخان والمشروبات الغازية والأكل والمنتجات الصحية لسجنائها الذين يحصلون على المال من ذويهم في الزيارات. وفي سجن "منوبة" يمكن عمل طلبات بيتزا. تقول إحدى الحارسات إن السجن لا يملك مالا أصلا، لكنه يجني ثروة وهو مكان تجارة لأن هناك محلات بالسجون. ويعد سجن "المرناقية" هو الأغلى.
قيود السجن (صورة من الكتاب) وانتظار للموتعند زيارة اللجنة، كان عدد المحكوم عليهم بالإعدام 140 سجينا وقد نقلوا جميعا إلى سجن "المرناقية" لقضاء ما بقي لهم من عمر في "ممرات الموت" التي عزل فيها بعضهم أكثر من 20 عاما وأصاب الجنون البعض. هم هزلاء، لا يزورهم طبيب السجن إلا نادرا، نسوا لون السماء، وأشكال أحبائهم، ذكرياتهم يمحوها مرور الوقت.
عادة ما يحوّل حكم الإعدام الصادر نظريا إلى السجن المؤبد عمليا أي أن التنفيذ "موقوف"، فمنذ عام 1991 لم ينفذ حكم إعدام في تونس كما عبر زين العابدين بن علي صراحة عن رفضه لهذا الحكم إثر توليه السلطة في 1987. وبحلول ذكرى الثورة التونسية كل عام، يتم العفو عن مزيد من المحكوم عليهم بالإعدام لتخفف العقوبة إلى السجن المؤبد.
زيارة اللجنة أحدثت هرجا بين المساجين، واختلفت ردودهم، فحاول "فوزي" الأمي، المحكوم عليه بالإعدام لقتله طفلة، أن يسرب خطابا إلى هالة أثناء الزيارة ليبيّن لها أنه بريء لكن الخطاب صودر من إدارة السجن، بينما رفض البعض الحديث لشعورهم بالتهديد قائلين "لما نخرج نبقى نحكي". بعض السجناء قالوا إنهم أبرياء وإنه تم انتزاع اعترافاتهم تحت تأثير التعذيب، وإنهم لم يملكوا مالا كافيا لتوكيل محامين.
Au Revoir"" هكذا ودع سجين في العشرين من العمر هالة عند انتهاء الزيارة التي لم تتكرر؛ فبعد مرور عام واحد على عمل اللجنة، حاولت هالة مجددا عبور الأسوار إلى الداخل في إطار عمل حقوقي تابع لإحدى المنظمات التونسية غير الحكومية فلم يُسمح لها بذلك، لتكون الزيارة الأولى والأخيرة كأنها حلم عابر.
إعلانواليوم، بعد 14 عامًا، هل يمكن للمنظمات التونسية غير الحكومية زيارة السجون؟
————————————————————————————–
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة. شكر خاص من المحررة إلى المترجمة: ندى صفوت، لمساعدتها في الترجمة من الفرنسية.