وكالة الصحافة المستقلة:
2024-09-06@00:13:26 GMT

مركزية الألم في شعر الرثاء

تاريخ النشر: 20th, July 2024 GMT

يوليو 20, 2024آخر تحديث: يوليو 20, 2024

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان ، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل ، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ ( الانطفاء ) ومَرجعيةِ الحُزْنِ ( الاشتعال ) ، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ ، وتَخليدِ المَيِّتِ .

وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه ، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .

والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء ، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .

مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب ، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ ، وإعادةُ تأويل للوُجود ، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه ، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة ، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .

والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين ، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر ، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود ، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع ، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية ، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .

وإذا دَخَلَ المَوْتُ إلى فَلسفةِ اللغةِ نَصًّا ورمزًا وتَعبيرًا ، فإنَّ زاوية الرُّؤية إلى الحياة سَتَتَغَيَّر ، ويُصبح الطريقُ إلى مَعرفةِ النَّفْسِ البشرية طريقةً لتفكيك عناصرِ الوُجودِ والوِجْدَانِ معًا ، وعِندئذ يَصِير الخَوْفُ مِنَ الزَّوَالِ حُضورًا لُغويًّا طاغيًا ، ويُصبح الخَوْفُ مِنَ العَدَمِ وُجودًا قائمًا على خُلودِ الكلماتِ القادرة على حَمْلِ الإنسانِ رُوحًا وجَسَدًا ، وحمايته مِنَ الفَنَاءِ ، وحراسته مِنَ الماضي الذي لا يَمْضِي ، والزَّوَالِ الذي لا يَزُول ، والغِيَابِ الذي لا يَغِيب . ولا شَكَّ أنَّ الكلمات هي شرعيةُ البَقاءِ في عَالَمٍ لا يَبْقَى ، ومَنْبَعُ اليَقينِ والأمانِ في عَالَمٍ تُسيطر عليها الشُّكُوكُ والمَخاوفُ .

والألمُ الذي يُسَبِّبُه المَوْتُ يُصبح _ مِن خِلال التَّكثيف الشِّعْريِّ _ دافعًا إلى الخُلودِ ، وتَخليدِ اللحظة الآنِيَّة ، حَيْث يَصِير المَوْتُ في شِعْر الرِّثَاء وِلادةً جديدةً ، وانبعاثًا مُتواصلًا ، واستعادةً لزمنِ الأحلامِ الوردية مِن قَبضةِ الغِيَابِ الخَشِنَةِ .

وكُلَّمَا تَجَذَّرَ الحُزْنُ في تفاصيل البناء اللغويِّ ، تَكَرَّسَت العَلاقةُ الفلسفيةُ بَيْنَ الحَيَاةِ والمَوْتِ ، واللمعانِ والانطفاءِ ، والوُجودِ والعَدَمِ ، والبَقَاءِ والفَنَاءِ ، وهذه العَلاقةُ الفلسفيةُ تُسَاهِم في انتشالِ الذكرياتِ المَنسيةِ مِن هاوية الغيابِ السحيقة ، واستعادةِ الأحلامِ المَقموعةِ مِن مَتاهةِ الزمن القديمة ، كما تُسَاهِم في تَحديدِ الخَطِّ الفاصلِ بَيْنَ المَوْتِ بِوَصْفِه الحقيقة الوحيدة في الحياة ، والمَوْتِ بِوَصْفِه الحياة الحقيقية القائمة بذاتها . وهذا يَعْني أنَّ للمَوْتِ وَجْهَيْن : معنوي ومادي ، وبُعْدَيْن : مَحسوس وغَيْر مَحسوس .

وشِعْرُ الرِّثَاءِ يُعيد صِياغةَ العَلاقةِ بَيْنَ الألَمِ والبُكاءِ اعتمادًا على المَنظور اللغوي الرمزي ، ويُعيد تَكوينَ المَعاني الفلسفية العَميقة استنادًا إلى ثُنائية ( الخُلودِ / العَدَمِ ) . والواقعُ المَادِيُّ نَسَقٌ حياتي زائل ، والأحداثُ اليوميةُ أرشيفُ النِّسيانِ . والإنسانُ سَيُصبح طَيْفًا عابرًا ، وذِكْرَى باهتة ، كأنَّ شيئًا لَمْ يَكُنْ ، ولكنَّ اللغة تَجعل الإنسان كِيَانًا مَعرفيًّا خالدًا، وكَينونةً فِكريةً باقيةً ، لأنَّ اللغةَ خالدةٌ في قَلْبِ العَدَمِ ، وباقيةٌ في الفراغِ المُوحِش .

إنَّ الألَمَ لَيْسَ شُعورًا هُلاميًّا مُجَرَّدًا ، وإنَّما هُوَ نظامٌ فلسفي ، وشكلٌ مِن أشكالِ الانبعاثِ الدائم ، ومَركزيةُ الألَمِ في شِعْرِ الرِّثَاءِ تَجعل للمَوْتِ بُعْدًا جَمَالِيًّا ، حَيْثُ تَؤُول لحظةُ الفِرَاقِ إلى لِقَاء مُتَجَدِّد معَ الماضي والحاضرِ ، وتَصِير لحظةُ النهايةِ نُقْطَةَ انطلاقٍ لبداية جديدة ، وتُصبح غُربةُ الرُّوحِ في البَدَنِ زَمَنًا مُتَدَفِّقًا في الهُوِيَّةِ المَعرفية للوُجود الإنسانيِّ ، وَيَتَحَوَّل اغترابُ الجَسَدِ في التُّرَابِ إلى تَجربةٍ شِعْريةٍ لها أسرارُها المُستمدة مِن الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدهِشة ، ولها عوالمُها القائمةُ على الدمعِ المُضِيء في نظام استهلاكي مادي مُعْتِم ، ولها جُذورُها الراسخة في الروابط الإنسانية النبيلة . وكأنَّ صَدْمَةَ المَوْتِ تُولِّد أزمنةً جديدةً للحياة ، وتَفْتَح الماضي على الوَعْي بالحاضر ، مِن أجْلِ حِمايةِ مَاهِيَّةِ التاريخ مِنَ الانكسار ، وحِمايةِ سُلطةِ الحضارة مِنَ الانهيار .

وإذا امْتَصَّ الإنسانُ صَدْمَةَ المَوْتِ ، وفَرَّغَ ألَمَه وحُزْنَه في اللغةِ، فَإنَّ اللغةَ سَتُعِيد اكتشافَ أسرارِ الوُجود التي تَنْمُو في داخلِ الإنسانِ ، وتُعِيد تَرتيبَ العلاقاتِ الاجتماعية في الأحداث اليومية ، فَيُصبح المَوْتُ بِدايةً جديدةً للأحلامِ والذكريات ، وتأمُّلًا دائمًا في الحياةِ باعتبارها الفُرصة الوحيدة للإنسان كَي يَترك بَصْمَتَه في رُوحِ التاريخ ، ويَترك أثَرَه عَلى جَسَدِ الحضارة .

 

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: الم و ت الع د م الح ز ن

إقرأ أيضاً:

لغة الخطاب الاعلامي في ظل التحولات الرقمية.. إصدار جديد لجامعة المستقبل

سبتمبر 4, 2024آخر تحديث: سبتمبر 4, 2024

المستقلة/-حامد شهاب/.. صدر عن قسم الاعلام بكلية الاداب في جامعة المستقبل ببابل كتاب وقائع ملتقى المستقبل الاعلامي الحواري الثالث .

الكتاب يضم ما يقرب من 22  بحثا أو ورقة بحثية تم تقديمها في الملتقى الذي عقد في رحاب جامعة المستقبل بتاريخ ١٩ / ٣ / ٢٠٢٣ وناقش واقع الخطاب الاعلامي العراقي في وسائل الإعلام العراقية المعطيات والآفاق المستقبلية وتوج الملتقى جهده بأن أصدره في كتابه هذا .

وكان عنوان الباحث الإعلامي حامد شهاب في هذا المؤتمر قد كرس لموضوع جديد وغير مطروق في الوسط الإعلامي وهو: (الزمن.. ودلالات استخدامه في اللغة الصحفية) حيث أشر أكثر من مرة في حوارات وملتقيات صحفية لكوادر قيادات صحفية وأساتذة إعلام من جامعات عراقية مختلفة عن موضوعين شغلا إهتمام المهتمين بالشأن الإعلامي والصحفي وهما الخبر الصحفي والقصة الصحفية وموضوعة إستخدام الزمن في الصياغات الصحفية والإعلامية.

ولفت الباحث أنظار رواد الصحافة ومن القيادات التي تعمل في الحقل الصحفي والإعلامي وفي ميدان التدريس الأكاديمي لكليات وأقسام الإعلام في الجامعات العراقية الى أهمية ودور الصحافة في تطوير اللغة العربية وكيفية إستخدام الزمن في اللغة الصحفية.

كما اوضح في البحث ايضا أن أغلب المختصين باللغة العربية وقواعدها منذ عشرات السنين أو أكثر كانوا قد قسموا الفعل الى ثلاثة أقسام هي : الفعل الماضي وفعل المضارع (الحالي) وفعل الأمر وقد وجد من خلال التمعن في إستخدامات الزمن للفعل ولمتطلبات إستخدامه في اللغة العربية عموما أو اللغة الصحفية على وجه التحديد أن الفعل ينقسم الى ستة أقسام هي: الفعل الماضي / الفعل المضارع / فعل الطلب / فعل الأمر / الفعل المستقبلي / الفعل المبني للمجهول/ بالرغم من أن لديه ملاحظة بشأن تسمية الفعل المبني للمجهول ووظائفه اللغوية لأنه أحيانا يأتي بصيغة المبني للمعلوم ..كما اوضح الفرق بين الخبر الصحفي والقصة الصحفية ..

واشار الدكتور محمد رضا مبارك وهو أحد أساتذة اللغة والنقد الادبي في العراق، ضمن بحثه في هذا الكتاب الى أهمية التزام من يعمل بالشأن الإعلامي بضوابط اللغة العربية وقواعدها واصولها اللغوية، لافتا الى أن هناك حالتين يتضمنهما الخطاب الاعلامي هما المضمون الظاهر للخطاب والمضمون المضمر مبينا ان المحكيات أصبحت هي الاخرى جزءا من الخطابات المستخدمة في اللغة العربية وهي أما معربة أو مبنية.

وتناولت الورقة البحثية المنشورة في الكتاب للدكتورة ريا قحطان أحمد رصد الأخطاء اللغوية في عينة من منشورات الفيسبوك والتك توك.

وبينت أن الاخطاء اللغوية في منشورات التك توك أكثر بكثير من منشورات الفيسبوك ذلك لأن اللغة العامية هي المستخدمة أكثر من اللغة العربية الفصحى وإن الأكبر سنا من الكتاب هم الأقل خطأ من الشباب وهو ما يجعل فهم الشباب للغة العربية الفصحى صعبة نوعا ما مستقبلا.

من جانبها أوضحت الدكتورة ابتسام إسماعيل من جامعة السليمانية في بحثها ضمن الكتاب تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على اللغة الكردية.

فيما تناول ا.د. جليل وادي من جامعة ديالى آلية مقترحة لمعرفة تأثير النصوص التواصلية في اللغة العربية.

اما أ.د. عبد القادر صالح الحديثي من كلية المأمون فقد تناول لغة الإعلان الالكتروني وأساليبه في مواقع التواصل الاجتماعي في حين أشار الدكتور كامل القيم الاستاذ بقسم الاعلام بجامعة بابل ضمن بحثه بالكتاب الى أهمية تطوير واقع الخطاب الاعلامي العراقي وبخاصة الرقمي وتحديث وسائله لافتا الى أهمية ما تلعبه الصورة والظل والحركة واستخدام الرموز في عملية نقل الخبر.

وحذر الأستاذ الدكتور محسن عبود من الجامعة العراقية مما يتعرض له الخطاب الاعلامي العراقي من شيوع الاخطاء اللغوية وانعكاساتها السلبية على المتلقي وما يشاع من أنماط اعلامية منحرفة في توجهاتها في أغلب وسائل التواصل الاجتماعي حيث نلحظ انحدار مضامين هذا الخطاب واللغة المستخدمة الى مستويات متدنية.

أما الاستاذ الدكتور جمال عبد ناموس من الجامعة العراقية فقد عبر بحثه عن قلقه من الأنماط غير المنضبطة في الخطاب الاعلامي العراقي التي راجت مؤخرا وهي تؤثر سلبا على توجهات هذا الخطاب محذرا من أن شيوع مظاهر الفوضى في أخبار المواقع الالكترونية يصيب الاعلام العراقي بإخفاقات.

أ.م.د نزار عبد الغفار السامرائي التدريسي بقسم الاعلام في جامعة الإسراء ببغداد أشار ضمن بحثه الذي جاء بعنوان: “لغة الاعلام الرقمي وشعبوية الخطاب” الى أن التحول الرقمي وتسارع الوسائل الرقمية في مختلف مجالات الحياة أدى الى ظهور نمط جديد من الاعلام يتعامل مع الادوات الرقمية بالشكل الذي انتج اندماجا بين الاشكال المعروفة للاتصال (المقروء والمسموع والمرئي) عبر ما يعرف بالوسائط المتعددة او الاندماج الاعلامي.

وعرض عدد من الأساتذة والباحثين من الجامعات العراقية الحكومية والاهلية ضمن هذا الإصدار الجميل القيم أوراقهم البحثية متناولين اللغة وتداولها في الخطاب الإعلامي والاشكالات العديدة التي بدأت تظهر وتنتشر، ما يستدعي أن يكون هناك إجراءات واضحة للحفاظ على اللغة وبناء الخطاب الإعلامي بشكل صحيح.

مقالات مشابهة

  • للمرّة الأولى.. ابتكار جهاز دماغي يعالج آلام الجسم المزمنة
  • ابن روبن نيفيز يتحدث اللغة العربية .. فيديو
  • مدارس بلجيكا تُدرّس اللغة العربية للوقاية من خطر "الإسلام السياسي"
  • بن حبتور والرهوي يشاركان بفعالية مركزية لاحياء المولد النبوي
  • اختتام المركز الصيفي للغة الإنجليزية بالعوابي
  • لغة الخطاب الاعلامي في ظل التحولات الرقمية.. إصدار جديد لجامعة المستقبل
  • انتزاع المكان في اللغة
  • الحردلو (20) الشعر البدوي والذائقة الجمالية..!
  • خطة لابتعاث 500 معلم لدراسة اللغة الصينية في جامعة بكين 
  • «التعليم» تكشف شروط التحويل بين التخصصات لسد العجز في المعلمين