تطرح السياسة الخارجية المغربية مجموعة من التساؤلات المرتبطة أساسا بالنجاعة، والقدرة على تدبير الجوار الصعب الذي فرضته تحولات جيوسياسية، سواء تعلق الأمر بالتفاعلات الإقليمية القريبة، أو بالتحولات الدولية الكبرى التي مست النظام الدولي برمته، مما فرض نوعا من التحول في الدبلوماسية المغربية، طور من أدائها وحضورها، وعدل من توجهاتها الكبرى، بل ووضع مرتكزات مبتكرة وجديدة لتدبيرها، برز ذلك في تدبير العلاقة مع الجزائر، وخلال الأزمة المغربية الإسبانية، والتوتر مع ألمانيا وفرنسا، وأيضا خلال تدبير جائحة كوفيد-19، وغيرها من المحطات البارزة في علاقات المغرب الدولية.

وبالنظر لمضمون كلمة الملك محمد السادس في القمة المغربية – الخليجية المنعقدة بالرياض بالمملكة العربية السعودية في 20 أبريل 2016، يتضح أن هناك سقوفا جديدة وضعها صانع القرار في السياسة الخارجية المغربية، واعتمد توجهات لم تكن معتادة في الممارسات السابقة، مثل تنويع تصريف هذه السياسة بالخصوص في الجانب الاقتصادي، نحو وجهات جديدة، مثل روسيا والصين والهند… مع الحفاظ على الوجهات الكلاسيكية التي تمثلها أساسا دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

وفي الملف السياسي المتعلق بقضية الصحراء المغربية أصبح التوجه الجديد نحو الشركاء الاستراتيجيين للمملكة، هو الأخذ في الاعتبار كل الملفات دون تجزيء، وأصبح المغرب يشترط لاستمرار هذه العلاقات بشكل طبيعي، اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه من قضية الصحراء المغربية، وهو ما أكده الخطاب الملكي في الذكرى 69 لثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 2022، حين عبر على أن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات.

إن صنع القرار في السياسة الخارجية الذي يمارسه الملك، بصفته الدستورية، وفق منهجية وتصور جديدين، انعكس على أداء باقي الفاعلين خصوصا الفاعل الحكومي، من خلال جهاز تنفيذ السياسة الخارجية المتمثل في عمل الحكومة ككل، وتحديدا قطاع الشؤون الخارجية والتعاون، وأيضا الفاعل البرلماني الذي برز كشريك ذو أدوار مقدرة في تجسيد فاعلية أهداف السياسة الخارجية، سواء في المواقف المعلنة، أو من خلال الفعل والتواصل بخصوص القضية الوطنية، عبر بعض المحطات التي طبعت علاقة المغرب بالإتحاد الأوروبي، خصوصا ظهور البرلمان كمؤسسة دستورية تتفاعل مع الأهداف الوطنية الكبرى، جنبا إلى جنب مع الأداء الحكومي.

الفاعل الاقتصادي والفاعل الحزبي وفعاليات المجتمع الأكاديمية والعلمية وكذا فعاليات مغاربة العالم، أصبح دورهم يتنامى في الاهتمام بالشأن الدولي، وفي التفاعل مع قضايا الأمة، خصوصا في دعم الطرح الوطني لحل نزاع الصحراء، كما أن دستور المملكة لسنة 2011 الذي يحدد الاختيارات الكبرى للسياسة الخارجية للبلاد وأولوياتها، شكل مظهرا من مظاهر اعتماد المملكة على الانخراط الدستوري كمرجع فعال وداعم للتوجهات الدبلوماسية للبلاد.

ثم إن الزيارات التاريخية التي قام بها الملك محمد السادس لعدد من الدول المؤثرة، خلقت إشعاعا ودعما لمواقف وقرارات السياسة الخارجية للمملكة، حيث ساعد ذلك في تحقيق الأهداف الدبلوماسية، من خلال القمم الثنائية التي جمعت جلالة الملك مع العديد من ملوك ورؤساء وأمراء الدول الصديقة والشقيقة، ومشاركاته النوعية في العديد من القمم المتعددة الأطراف، وداخل المنظمات الدولية الحكومية خصوصا داخل هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة الاتحاد الإفريقي.

ومن نتائج ذلك، أن السياسة الخارجية المغربية ساهمت في دعم العديد من المبادرات والواجبات على المستوى الدولي، سواء فيما تعلق بإعفاء عدد من الدول الإفريقية من الديون المستحقة للمملكة، أو في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين، أو في تفعيل التعاون الدولي للمغرب، من خلال الوقوف إلى جانب عدد من الدول لمواجهة تداعيات جائحة كوفيد_19، أو في مجال إبداع تصورات قارية ودولية، عبر مبادرات استراتيجية، كالسعي إلى مأسسة جهود الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، وتوحيد جهودها، أو باقتراح إطلاق مبادرة على المستوى الدولي تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، وهو ما أعلن عنه في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء يوم 06 نونبر 2023.

ومنذ انضمام المملكة للاتحاد الإفريقي في يناير 2017، ساهمت بفعالية في تعزيز الموقع التفاوضي للقارة خصوصا في البعد الاقتصادي، وتمكن المغرب من اكتساب مكانته في النقاش الإفريقي حول مجمل القضايا والإشكالات المطروحة، معبرا عن تشبثه بقيم التضامن الإنساني التي رسخها عبر العديد من النماذج بالأماكن التي عانت وتعاني من الكوارث الطبيعية أو من الأزمات جراء التوترات والحروب وغيرها، وبخصوص الهجرة العالمية لابد من التذكير باختيار القادة الأفارقة للملك محمد السادس رائدا للاتحاد الإفريقي للهجرة.

ثم إن اصطفاف المملكة المغربية إلى جانب القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بما يتطلبه الوضع من دعم موصول للشعب الفلسطيني في مواجهة الظروف الصعبة التي تواجهها القضية الفلسطينية، انطلاقا من العمل الذي تقوم به لجنة القدس، وذراعها الميداني الذي تمثله وكالة بيت مال القدس، ما يظهر بشكل جلي التزام السياسة الخارجية المغربية بقيم الحق والشرعية والمشروعية والسلام.

وبخصوص مكتسبات القضية الوطنية، واضح أن السياسة الخارجية للبلاد طورت دبلوماسية هجومية، وقوية، وذات نتائج ملموسة في الدفاع عن مغربية الصحراء، وتصحيح مسار تداوله وتدبيره على المستوى الدولي، ولعل من أبرز ملامحها تلك المكتسبات السياسية والدبلوماسية والقانونية التي تجسدها التمثيليات القنصلية لأكثر من 30 دولة في مدينتي العيون والداخلة، وإقرار العديد من الدول بسيادة المملكة على كل ترابها الوطني، وفي طليعتها الإقرار الأمريكي بمغربية الصحراء المعلن عنه سنة 2020، ومواقف دول مجلس التعاون الخليجي الداعمة للوحدة الترابية للمملكة، والتعديل المهم في الموقف الإسباني والألماني من مغربية الصحراء، بالإضافة إلى اصطفاف مجلس الأمن تدريجيا إلى جانب الشرعية والمشروعية من خلال تثمين قراراته الدورية للمبادرة المغربية للحكم الذاتي، ووصفها في كل مرة بالمبادرة الجادة وذات المصداقية…

ومن معالم السياسة الخارجية للمغرب في عهد الملك محمد السادس المتسمة ب « الطموح والوضوح » كما عبر عن ذلك جلالته في خطاب المسيرة الخضراء سنة 2018، الوضوح والطموح المقرون بالجرأة في تناول المواضيع الدولية ذات الاهتمام العالمي، ودعم مجال التعاون الدولي بشأن قضايا الإرهاب والمخاطر الأمنية، وقضايا البيئة، والهجرة، والقضايا المرتبطة بحقوق الإنسان، وفي مجال الجريمة العابرة للحدود… وكلها أمور تشكل نوعا من الانتصار لفكرة جنوب- جنوب، والترافع عن قضايا دولها، والعمل المكثف على تعزيز موقعها التفاوضي.

إن مضمون هذا المقال يدخل ضمن الأهداف والاهتمامات الكبرى للمركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، الذي يعتزم فتح نقاش علمي حول موضوعه في القادم من الأيام، توثيقا لمرحلة هامة من تاريخ تفاعل المملكة مع محيطها الإقليمي والدولي، والخروج بدراسات وأبحاث تعزز التراكم الحاصل في هذا المجال.

*أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة القاضي عياض بمراكش
رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات بالرباط

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: محمد السادس العدید من من الدول من خلال

إقرأ أيضاً:

انطلاق فاعليات الملتقى العربي الدولي العاشر للصناعات الصغيـرة والمتوسطة بالمملكة المغربية

افتتحت اليوم الأربعاء فعاليات الملتقى العربي الدولي العاشر للصناعات الصغيرة والمتوسطة الذي تعقده المنظمة العربية للتنمية الصناعية بمدينة أكادير المملكة المغربية.

واستهل المدير العام للمنظمة المهندس عادل صقر الصقر كلمته الافتتاحية بالترحيب بجميع المشاركين في أعمال هذا الملتقى مؤكدا علي أن تنظيم هذا الملتقى الدوري الذي يعقد هذا العام تحت شعار "الاقتصاد الرقمي ومستقبل المشروعات الصغيرة والمتوسطة " يأتي ضمن الجهود المتواصلة للمنظمة وشركائها للنهوض بهذا القطاع الهام وتعزيز استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تفتح آفاقا جديدة لهذه المشروعات، مما ينعكس إيجابا على خدماتها ومنتجاتها وقدراتها الابتكارية والتسويقية.

وأضاف أنه تبعا لأهمية وضرورة العمل على تسريع وتيرة التحول الرقمي في القطاع الصناعي، فقد اتجهت العديد من الدول والمنظمات الاقليمية والدولية إلى إطلاق المبادرات لترسيخ ثقافة التحول الرقمي واستثمار الفرص التي يُتيحها لفتح آفاق جديدة للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا السياق بادرت المنظمة إلى إنشاء منصة طلبات وعروض المنتجات الصناعية والتعدينية "APIP.online"، لتصبح أول منصة رسمية صناعية متخصصة تشمل بيانات أكثـر من 60 ألف شركة صناعية وتعدينية في 21 دولة عربية بمختلف أنواعها وتصنيفاتها.

 وتتيح المنصة للشركات الصناعية والتعدينية العربية ومن بينها تلك الصغيرة والمتوسطة العديد من المزايا التي تمكنها من التعريف بمنتجاتها وخدماتها المختلفة ومنحها فرصا ترويجية وتسويقية كبيرة من خلال المتاجر الإلكترونية المخصصة لها.

وشدد المهندس الصقر أن هنالك آمالا كبيـرة تعقد على هذا الملتقى للخروج  بتصورات بناءة من خلال ما يعرض من أوراق عمل وما يثار حولها من نقاشات وآراء للوصول إلى نتائج إيجابية تصب في اتجاه دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة العربية وتسريع وتيرة التحول الرقمي في كافة المجالات الصناعية.

مقالات مشابهة

  • بنما تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع "البوليساريو" دعمًا لمبادرة الحكم الذاتي المغربية
  • ما الدول التي يواجه فيها نتنياهو وغالانت خطر الاعتقال وما تبعات القرار الأخرى؟
  • الخارجية تُجدّد شكرها لليونسكو والدول الأعضاء فيها على دعمهم مطالب لبنان واحتياجاته
  • انطلاق فاعليات الملتقى العربي الدولي العاشر للصناعات الصغيـرة والمتوسطة بالمملكة المغربية
  • بن براهيم الوزير المكلف بالإسكان: المعرض الدولي للبناء منصة لعرض التجربة المغربية
  • رئيس مركز بحوث الصحراء يفتتح ملتقى مصر الدولي للتمور
  • رئيس مركز بحوث الصحراء يفتتح ملتقى مصر الدولي للتمور لزيادة الصادرات
  • “نرجسية” ترامب وهوسه بـ”الولاء الشخصي” يُطيحان باستقرار السياسة الخارجية .. فهل يستبدل “بن غفير الأمريكي”؟
  • مفوض السياسة الخارجية الأوروبية: تغيير بوتين للعقيدة النووي غير مسؤول
  • بعد دعم كوبنهاغن للحكم الذاتي.. شركة الطاقة الدنماركية تفتح مكتباً في عمق الصحراء المغربية