سودانايل:
2025-02-21@21:25:04 GMT

لمحة للجاسوسية المعاصرة

تاريخ النشر: 20th, July 2024 GMT

زهير عثمان حمد

تعتبر الجاسوسية واحدة من أقدم المهن في التاريخ، لكنها في العصر الحالي اتخذت أشكالاً جديدة وأكثر تعقيدًا بفضل التطورات التقنية الهائلة. التقنيات الحديثة غيرت وجه التجسس، وجعلت منه نشاطًا أكثر دقة وتأثيرًا على القرارات السياسية والاقتصادية في مختلف أنحاء العالم.

تطور الجاسوسية عبر التاريخ
في الماضي، كانت الجاسوسية تعتمد بشكل كبير على الأفراد والتقنيات البسيطة مثل الرسائل المشفرة والرموز السرية.

كتب عديدة وثقت هذه الفترات، مثل "الحرب الباردة" لجون لو كاري، التي استعرضت كيف كانت العمليات الاستخباراتية تجري بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وتعتمد بشكل كبير على العملاء المزدوجين والرسائل المشفرة.

الجاسوسية في العصر الرقمي
مع تقدم التكنولوجيا، تغيرت ملامح الجاسوسية بشكل جذري. اليوم، تعتمد العمليات الاستخباراتية على الأدوات الرقمية مثل الإنترنت، والأقمار الصناعية، والذكاء الاصطناعي. كتاب "الفضائح الرقمية" لغاريث كوك يسلط الضوء على كيفية استخدام الحكومات لهذه التقنيات للتجسس على المواطنين والسياسيين على حد سواء.

أثر التقنيات الحديثة
الأدوات الرقمية: البرمجيات الخبيثة والفيروسات المستخدمة لاختراق الأجهزة الإلكترونية هي من أبرز الوسائل الحديثة في الجاسوسية. يمكن لهذه الأدوات استخراج بيانات حساسة ونقلها إلى الجهة المستفيدة بسرية تامة.

الذكاء الاصطناعي: يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في تحليل البيانات الضخمة المجمعة من عمليات التجسس، ما يمكن الحكومات من اتخاذ قرارات سريعة ودقيقة.

الأقمار الصناعية: توفر الأقمار الصناعية معلومات دقيقة عن تحركات الأفراد والمعدات العسكرية، مما يعزز قدرة الدول على مراقبة أعدائها وحلفائها على حد سواء.

أثر الجاسوسية الحديثة على القرار السياسي
الجاسوسية في العصر الحديث تؤثر بشكل مباشر على القرارات السياسية. المعلومات التي يتم جمعها من خلال التقنيات الحديثة تتيح للحكومات:

اتخاذ قرارات استراتيجية: مثل العمليات العسكرية والسياسات الخارجية بناءً على معلومات دقيقة ومحدثة.
التأثير على الانتخابات: من خلال عمليات التجسس الإلكتروني التي تستهدف الحملات الانتخابية.
الحماية من التهديدات الأمنية: عبر كشف المخططات الإرهابية والأنشطة التخريبية قبل حدوثها.
كتب وأعمال معاصرة
هناك العديد من الكتب الحديثة التي تتناول موضوع الجاسوسية في العصر الرقمي، مثل:

"Spycraft Rebooted" لجون بروكس، الذي يستعرض كيفية تحول الجاسوسية في ظل التكنولوجيا الحديثة.
"Data and Goliath" لبروس شناير، الذي يناقش آثار التجسس الرقمي على الخصوصية الفردية والمجتمع.
في النهاية، لا يمكن إنكار أن الجاسوسية في العصر الحديث أصبحت أكثر تطورًا وتعقيدًا بفضل التقنيات الحديثة. هذه التحولات أثرت بشكل كبير على كيفية جمع المعلومات وتحليلها واستخدامها في صنع القرارات السياسية، مما يجعل من دراسة هذا المجال أمرًا حيويًا لفهم الديناميكيات السياسية والاقتصادية الحالية.

تطور الفكر الجاسوسي الصيني خلال العقد الماضي
شهد الفكر الجاسوسي الصيني تطورات كبيرة خلال العقد الماضي، مما جعل الصين واحدة من أبرز القوى الاستخباراتية على مستوى العالم. هذا التطور لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج استراتيجيات معقدة وتوظيف للتكنولوجيا الحديثة بأساليب مبتكرة.

استخدام التقنيات الحديثة
الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة: واعتمدت الصين بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات هائلة من البيانات التي تم جمعها من خلال وسائل مختلفة مثل المراقبة الإلكترونية والتجسس السيبراني. هذا النوع من التحليل يساعد في تحديد الأنماط والاتجاهات التي يمكن استخدامها لتحقيق أهداف استخباراتية.
التجسس السيبراني , خلال العقد الماضي، كثفت الصين من جهودها في التجسس السيبراني، حيث استهدفت شبكات الكمبيوتر في الحكومات والشركات الكبرى حول العالم. هناك تقارير عديدة توثق هذه الأنشطة، مثل تقرير "FireEye" الذي كشف عن عمليات تجسس إلكترونية استهدفت مئات الشركات حول العالم بهدف سرقة الأسرار التجارية والتكنولوجية.
الأقمار الصناعية وتقنيات الاستشعار عن بعد: تطورت قدرات الصين في استخدام الأقمار الصناعية لجمع المعلومات الاستخباراتية. الأقمار الصناعية الحديثة يمكنها تقديم صور عالية الدقة لمناطق حساسة، مما يعزز قدرة الصين على المراقبة والتجسس.
الابتكار في الأساليب
استخدام الجواسيس غير التقليديين: لجأت الصين إلى توظيف مواطنيها في الخارج، بما في ذلك الطلاب والباحثين ورجال الأعمال، لجمع المعلومات الاستخباراتية. هذا التكتيك يسمح بجمع معلومات قيمة دون الحاجة إلى استخدام وسائل تقليدية يمكن كشفها بسهولة.
تطوير التكنولوجيا الحيوية: من ضمن استراتيجيات الصين الحديثة، الاستثمار في التكنولوجيا الحيوية لجمع معلومات حساسة. التقارير تشير إلى استخدام عينات الحمض النووي (DNA) لأغراض تجسسية، مثل جمع البيانات البيولوجية للأشخاص لتحليلها واستخدامها في الأبحاث الاستخباراتية.
الأثر على القرار السياسي
تطور الفكر الجاسوسي الصيني لم يكن له تأثير كبير فقط على المستوى الأمني، بل أثر أيضًا على القرارات السياسية في العديد من الدول. على سبيل المثال:

السياسات التجارية: تمكنت الصين من الحصول على معلومات حساسة حول التقنيات المتقدمة، مما منحها ميزة تنافسية في الأسواق العالمية.
العلاقات الدولية: اكتشاف الأنشطة التجسسية الصينية أدى إلى توتر العلاقات بين الصين والعديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا.
كتب وأعمال توثق التطور
عدة كتب وأبحاث صدرت حديثًا تناولت هذا الموضوع، منها:

"The Perfect Weapon: War, Sabotage, and Fear in the Cyber Age" لديفيد سنجر، الذي يناقش فيه كيف أصبحت الهجمات السيبرانية أداة قوية في يد الصين.
"Chinese Cyber Espionage: A Public Policy Perspective" لجوناثان هوليوود، الذي يسلط الضوء على السياسات والأنشطة السيبرانية الصينية وتأثيرها على الساحة الدولية.
خاتمة
تطور الفكر الجاسوسي الصيني خلال العقد الماضي يعكس تحولاً كبيرًا في أساليب جمع المعلومات وتحليلها. مع الاعتماد الكبير على التكنولوجيا الحديثة والابتكار في الأساليب، أصبحت الصين قادرة على تحقيق أهدافها الاستخباراتية بفعالية أكبر، مما يؤثر بشكل مباشر على القرارات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم. Understanding these dynamics is crucial for anticipating future trends and responding effectively to the challenges posed by modern espionage activities.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: على القرارات السیاسیة خلال العقد الماضی الأقمار الصناعیة التقنیات الحدیثة الذکاء الاصطناعی بشکل کبیر على تطور ا

إقرأ أيضاً:

العوالم المتوازية بين الخيال العلمي ونظريات الفيزياء الحديثة

يأتي مصطلح «العوالم المتوازية» مشكلا أحد أكثر التصوّرات إثارةً للجدل العلمي؛ فمحاولتنا في فهم وجود واقعٍ آخر موازٍ لواقعنا يحتمل أن تحكمه نفس القوانين الفيزيائية أو تختلف عنها اختلافًا جذريًا، سيثير فضولَ الإنسان ويقدح شرارته الفلسفيّة والمعرفيّة، وهذا ما يتمثّل في جدلية ما يُعرف بـ«العوالم المتوازية» التي تجاوزت سردية الخيال العلمي لتكون من ضمن السردية العلمية؛ فمع تزايد التطوّرات العلمية والنظريات الحديثة، بدأت هذه الفكرة تخرج من حيّزها الأسطوري وسرديتها الأدبية العلميّة التخيّلية لتدخل حيّز النقاش الأكاديمي وجدله المستند إلى الرياضيات والفيزياء المتقدّمة. في هذا المقال، سنحاول الاقتراب من مفهوم العوالم المتوازية من جوانب عدّة: أولًا، سنمر على جذور هذه الفكرة في الخيال العلمي والفلسفي، وثانيًا، سنستعرض أهم النظريات التي طُرحت في الفيزياء الحديثة لتفسير إمكانية وجود عوالم موازية؛ وأخيرًا سنناقش آلية التوفيق بين ما يُثار في الأوساط العلمية وبين الأسئلة الوجودية والفلسفية التي تنبع من هذا التصوّر، وتحديات البحث العلمي المستقبلية.

السردية التاريخية والفلسفية لمفهوم العوالم المتوازية

شغلت فكرةُ الوجود المتعدد الذهنَ الإنساني منذ القدم؛ فتداولت الحضارات الشرقية القديمة أفكارا بشأن مستوياتٍ متعددة للوجود، بعضُها مرئيٌّ وبعضُها خفيٌّ -ميتافيزيقي. كذلك تصوّر الفلاسفة الإغريق، مثل أفلاطون وأرسطو فرضيات مختلفة بشأن «عوالم المُثُل» أو انفصال العالَم المحسوس عن عالم الماهيات والمُثل، وإنْ لم يكن أمثال هؤلاء يتحدثون حرفيًّا عن عوالمٍ موازية بالمفهوم الفيزيائي الحديث، إلا أنّ تأملاتهم المتعلقة بتعدديّة المستويات الوجودية وماهية الحقيقة شكّلت البِنية الأولى لمناقشاتٍ لاحقة في الفلسفة والعلوم.

مع بزوغ العصور الوسطى، انبثقت أفكارٌ ميتافيزيقية تُشير إلى تعددية الأبعاد والوجود، وفي بعض المفاهيم الصوفية والمعتقدات الروحية وتأويلاتها ثمّة عوالم أخرى موازية لعالمنا، ولكنّها عوالم غيبية، وأدخلت مثلُ هذه الأفكار -مع فقدانها للطابع العلمي- إلى الإنسان مفاهيم أوّليّة عن إمكانية وجود ماهيات أخرى للوجود وأبعاده سواءٌ كانت مادية أم روحانية. لكن بدأ التحول الجذري مع عصر النهضة العلميّة وتطوّر المنهج التجريبي.

فمع بروز نظريات الفلك والفيزياء، بدأ العلماء بتجاوز حدود التصوّرات التقليدية للعالم مثل مركزية الأرض؛ فأضحى الإنسان ينظر إلى الكون باعتباره فضاءً شاسعًا يحوي مليارات المجرّات، ورغم ذلك، ظلت فكرة العوالم المتعددة بعيدةً عن الزاوية العلميّة الصارمة لفترةٍ طويلة؛ واقتصرت سرديتها على الأدب الخيالي أو الفلسفة المثالية.

الخيال العلمي وصياغة المفاهيم المبكّرة للعوالم المتوازية

مع بدايات القرن العشرين، بدأت لدى كتّاب الخيال العلمي ملامح توظيف مفهوم «العوالم المتوازية» باعتباره عنصرًا مهما في أدب الخيال العلمي؛ فتصوّر كتّابٌ مثل «إتش. جي. ويلز» (H.G. Wells) و«إسحاق أسيموف» (Isaac Asimov)عوالمَ موازية يوصل إليها عبر ثقبٍ دوديّ (Wormhole) أو تغيّرٍ في النسيج الزمكاني. في تلك الفترة الزمنية. كانت تعتبر مثل هذه الأفكار محض تخمينات أدبيّة مشوّقةٍ لجذب القارئ، دون أن تستند إلى أيّ أساسٍ علمي فيزيائيّ أو تجريبيّ. مع تطوّر الخيال العلمي ونسيجه الكتابي تحديدا مع منتصف القرن العشرين الذي يعدّ حقبة زاوجت بين المعرفة العلميّة المتاحة والاستشرافات المستقبلية؛ فطفت على الساحة تأملاتٌ كثيرة في مفهوم الأكوان المتعددة أو العوالم المتوازية؛ فنلمح ترسيخا لأعمالٍ أدبية شهيرة أسست لأفكار علمية عميقة تفترض حدوث أحداثٍ وجودية يمكن أن تحدث بالتوازي في «خطوطٍ زمنيّةٍ» متعددة، وبقدر ما ساعد هذا الخيال العلمي على عبور مثل هذه الأفكار بين القرّاء؛ فإنّه أيضا مهّد الأرضية لنقل النقاش إلى أروقة البحث العلمي ومختبراته، خصوصًا مع تطوّر نظريات الفيزياء الحديثة مثل ميكانيكا الكوانتم والنظرية النسبية العامة.

النشأة العلمية للعوالم المتوازية

مع منتصف القرن العشرين، برزت تطوّراتٌ كبيرة في الفيزياء غيّرت نظرتنا إلى مفاهيم الزمن والمكان والجسيمات تحت الذرية، ويمكن أن نتأمل أهم ثلاث نظريات أو انبثاقات علمية في الفيزياء الحديثة تقترح إمكانيّة وجود عوالم موازية:

1.ميكانيكا الكوانتم وعلاقتها بفكرة العوالم المتوازية:

يتبنّى الفيزيائي «هيو إيفريت الثالث» (Hugh Everett III) عام 1957 تفسيرًا لميكانيكا الكوانتم يُشير إلى أن كل احتمالٍ كوانتمي يمكن أن يتحقّق في «عالمٍ» أو «فرع» مختلف من الكون. يأتي مثل هذا التفسير ليتجاوز إحدى أهم المشكلات الفيزيائية في عالم الكوانتم «انهيار دالة الموجة» (Wave Function Collapse)؛ فوفقَ منطلق «إيفريت» لا يحدث انهيار للدالة الموجية، ولكن يتشعّب الكون في كل مرةٍ لتجسيد كل احتمالٍ كوانتمي، ويفترض هذا التفسير وجود عددٍ لا نهائي من الأكوان يتفرع باستمرار؛ حيثُ توجد في كل منها نسخةٌ منا تقوم بخياراتٍ مختلفة. رغم ما يمكن لهذا التفسير أن يثيره من جدل، لكنه بمنزلة الشرارة العلمية الأولى للعوالم المتوازية؛ ليعاد طرحها بموضوعية علمية بواسطة كبار الفيزيائيين أمثال «جون ويلر» (John Wheeler) و«برايس ديويت» (Bryce DeWitt).

2. نظرية الأكوان التضخمية المتعدّدة:

قدّم الفيزيائيّ «آلان غوث» (Alan Guth) في أوائل الثمانينيات نظرية «التضخم الكوني» (Inflation Theory)؛ لتحدث ثورة جديدة في علم الكون الحديث، وتتلخص النظرية في مفهوم يُشير إلى حدوث توسع هائل للكون في لحظةٍ مبكّرة من زمن تشكّله، وافترضت المستجدات العلمية التي تعلقت بالنظرية -في وقت لاحق- بأنّ هذا التضخم ليس حالةً مؤقتة، ولكن توسّعه مستمر؛ فينشأ عن كلّ «فقّاعة تضخّم» كونٌ منفصلٌ بقوانينه ومتغيراته الفيزيائية الخاصة. وفقَ هذا الافتراض، يكون «المتعدد الكوني» (Multiverse) أشبه برغوة كونيّة تتولّد فيها أكوانٌ بشكل مستمر، وأن بعضها يحتمل أن يشبه كوننا الذي نعيش عليه، وبعضها يختلف جذريًّا، ورغم أنّ هذا الطرح لا يزال في حيّز الجدل العلمي، لكنه يحظى بدعم بعض النماذج الرياضية، مثل نموذج «التضخّم الأبدي» (Eternal Inflation).

3. نظرية الأوتار الفائقة والأبعاد الإضافيّة:

تهدف نظريّة الأوتار الفائقة إلى توحيد قوى الكون الطبيعية الرئيسة: (الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية) في إطارٍ رياضي واحد، ولهذا يراها بعضُ العلماء بأنها من النظريات العلمية المؤهلة في توحيد النظريات الكونية في نظرية واحدة تعرف بـ«نظرية كل شيء». تقترح النظرية أنّ الجسيمات الأساسيّة ليست نقاطًا بل أوتارًا متناهية الصغر تهتزّ بترددات مختلفة، وتستدعي هذه النظرية ضرورة وجود أبعادٍ إضافيّة تتجاوز الأبعاد الأربعة (ثلاثة للمكان وواحد للزمن) الشائعة في الفيزياء الكلاسيكيّة، ولهذا من الممكن أن يصل عدد الأبعاد في بعض نماذج نظرية الأوتار إلى عشرة أو أحد عشر بُعدًا، وفي بعض صيغ هذه النظرية، تُطرَح احتماليّة تفرّع عوالم أو أكوان موازية موجودة في هذه الأبعاد الإضافية، ولا يمكن رصدها مباشرةً بسبب محدوديّة حواسّنا وأدواتنا الحالية، ورغم بقاء نظريّة الأوتار في حيّز الدراسات النظريّة دون تأكيدٍ تجريبيّ حاسم، لكنها تطرح تساؤلات مشروعة عن وجود واقعٍ أعمّ وأشمل من النمط التقليديّ.

الأدلة الرصدية والاختبارات التجريبيّة

بجانب ما تحويه فرضية العوالم المتوازية من دهشة جاذبة، يتوّلد سؤال صعب مفاده: ما مدى قدرة العلم على برهنة وجود العوالم المتوازية بصورةٍ تجريبية تقطع الشك باليقين؟ ولنجيب على هذا السؤال علينا أن نفطن إلى حقيقة مفادها أنّ كثيرًا من نماذج الأكوان المتعددة -حال افترضنا وجودها- يصعب اختبارها مباشرةً؛ لانفصالنا عنها بشكلٍ يجعل رصدها مستحيلًا بالتقنيات الحالية رغم ما تشير إليه بعض الدلائل غير المباشرة إلى أنّ الكون الذي نعرفه يحتمل ألا يكون وحيدًا، ومن هذه الاستدلالات:

• قياسات إشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّة: رصد العلماء عبر استعمال القمر الصناعي بلانك (Planck Satellite) وWMAP تبايناتٍ دقيقةً في إشعاع الخلفيّة الكونيّة؛ فثمّة نماذج نظريّة تفسّر بعض خصائص هذه التباينات على أنّها آثار تصادمات أو تداخلات محتملة بين كوننا وفقاعاتٍ أخرى في المتعدد الكوني.

• البحث عن تسريبات الجسيمات أو الطاقة: في حال وجود أبعادٍ أخرى؛ فمن الممكن ظهور مؤشرات في مصادم الهادرونات الكبير (LHC “Large Hadron Collider”) عبر رصد اختفاء طاقةٍ أو جسيماتٍ بطريقةٍ لا يمكن تفسيرها بالفيزياء وأدواتها الحالية، وهذا ما يشي بتسرّبها إلى عوالم متوازية، ولكن حتى زمننا الحاضر لم تُرصد إشاراتٌ تؤكد مثل هذا التسريب.

• الدراسات الرياضية الخاصة بالثوابت الكونية: تلمح بعضُ الحسابات الرياضية إلى حال حدوث اختلافات بسيطة في ثوابتنا الفيزيائية مثل: كتلة الإلكترون وشحنة البروتون لما أمكن تشكّل الحياة أو المجرّات؛ ليطرق باب نظرية «الضبط الدقيق» (Fine Tuning)، والتي يمكن أن تُدعم بفرضية الأكوان المتعدّدة؛ حيث تتغيّر القيم في كلّ كون، ونحن حينها في أحد الأكوان القابلة لدعم الحياة.

تظل مثل هذه الاستدلالات في محل ظنٍ لا يمكن أن يُبنى عليها دليلٌ علميٌ قاطع.

الإشكاليات الفلسفية والمعرفية

حال ثبوت وجود العوالم المتوازية؛ فإنها لن تعتبر امتدادا جغرافيا أو مكانا إضافيًّا، ولكنها تحمل تبعاتٍ وجودية ومعرفية عميقة؛ فتطرح إشكاليةً تتعلق بمفهوم الحقيقة: أنأخذ الحقيقة بصفتها النسبية أم المطلقة؟ وهل الحقيقة سلسلةٌ من حقائق متزامنة نتلقّى منها حزمات منتقاة محدودة؟ كذلك يمتد التساؤل عن الهُويّة الشخصيّة والذات الإنسانيّة؛ فإذا كانت هناك نسخٌ أخرى من كلٍّ منّا في أكوانٍ مختلفة؛ فكيف نحدد مفهوم الأنا ووحدتها والأنا الآخر؟ وهل يكون للقرارات إرادة حرة سواء بنسبية أو بشكل مطلق حال افتراض كلّ احتمالٍ يتحقّق في فرعٍ منفصل من هذه الأكوان؟

وفقَ المنظور المعرفيّ (الأبستمولوجيا)، تنطلق تساؤلات كثيرة تتعلق بوجود عوالم متوازية خصوصا فيما يتعلق بقدرة العلم على الإحاطة بالواقع كلّه، وإمكانية التحقّق التجريبيّ؛ فتُحصر بعض الفرضيات العلمية في دائرة «اللامفند» (Non-Falsifiable)، لتظلّ خارج نطاق الدليل أو الدحض؛ فتتحوّل إلى قضايا أقرب للطرح الميتافيزيقي منها إلى العلم التجريبي. لكن لا يمكن أن نغفل عبر تاريخ العلم أن أفكارا ولدت بصورة غير قابلة للتحقق والوجود؛ لتصبح بعد فترة زمنية واقعا علميا نتيجة تطور أدوات العلم القادرة على تجاوز الحاجز التجريبي للفكرة، ولنا -مثلا وليس حصرا- في نظرية النسبية والكوانتم مثالا على ذلك.

منظور بعض كبار علماء الفيزياء

شهدت العقود الأخيرة جهودًا بحثيّة موسّعة، يشارك فيها باحثون معروفون مثل «ماكس تيغمارك» (Max Tegmark) الذي قدّم تصنيفًا لأنواعٍ مختلفة من الأكوان المتعدّدة (من المستوى الأوّل حتى المستوى الرابع)؛ فيفترض «تيغمارك» أنّ ما نعتبره «قوانين رياضيّة» يمكن أن يكون وصفًا دقيقًا لكل نماذج الواقع؛ ليسوق الذهن إلى فكرة أن الكون ليس إلا بنيةً رياضيةً دقيقة، ويقترح الفيزيائي «شون كارول» (Sean Carroll) في دراساته إمكانية تفاعل التفسيرات المختلفة لميكانيكا الكوانتم؛ فيتصور فرضية العوالم المتعددة باعتبارها حلا معقولا لألغازٍ عدة في فيزياء الكوانتم. في المقابل، ثمّة أصواتٌ فيزيائية كبيرة تحذّر من مخاطر ما يمكن أن نسميه بـ«الهروب المفرط» نحو نماذج العوالم المتعددة، في ظل عدم امتلاكنا أدوات تجريبية رصينة؛ فيلتزم هؤلاء بالحفاظ على المنهج العلمي الصارم الذي يجعل أيّ فرضيةٍ عُرضةً للتفنيد أو التصحيح عبر التجربة والرصد، وألا تتحوّل الأفكار الفيزيائية الطموحة إلى نوعٍ من «الميتافيزيقا» المتستّرة بالمظهر العلمي «الزائف».

تحدّيات البحث العلمي مستقبلا

رغم عدم تحقق الإجماع الكافي بين علماء الفيزياء بشأن صحة وجود عوالم متوازية، لكن يظهر الإجماع النسبي في أنّ النماذج الرياضيّة والنظريّات الحديثة تدفع نحو معقولية هذه الفرضية بجدّية متصاعدة، ويكمن التحدّي الأكبر في استحداث طرق جديدة للتجربة والقياس يمكن أن تسمح برصد أدلّة مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ يحتمل أن يأتي الدليل العلمي من معالجةٍ ذكيّة للبيانات الكونيّة أو من ظواهر الكوانتم حين تجتمع مع فيزياء الجاذبية في «الجاذبية الكوانتمية» التي أيضا لا تزال لغزًا غير واضح المعالم.

لكن في ظل التقدّم العلمي المتسارع خصوصا في عالم الثورة الرقمية الذكية؛ فإننا نرى مستقبلا واعدا يبشّر بحل هذه الألغاز نفيا أو تأكيدا؛ حيث يمكن للحواسيب فائقة السرعة والقدرة محاكاة ظواهر كوانتمية معقّدة التي تتضمّن تشعّبات العوالم بطريقةٍ رياضيّة، وكذلك توجد محاولات مختبرية حثيثة لرصد موجات الجاذبية (Gravitational Waves) الناجمة عن أحداثٍ كونيّة فائقة الطاقة (مثل اندماج الثقوب السوداء والنجوم النيوترونيّة)؛ فيحتمل أن تسهم دراسات التشوّهات الضئيلة في هذه الموجات إلى فهمٍ أفضل لبنية الزمكان وأبعاده التي يمكن أن تفتح لنا نافذة علميّة لمفهوم العوالم المتوازية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

مقالات مشابهة

  • قائد الحرس الوطني يطلع على أحدث التقنيات
  • د. كهلان الخروصي: القانون الدولي الإنساني يواجه ازدواجية المعايير في النزاعات المعاصرة
  • قائد الحرس الوطني يطّلع على أحدث التقنيات في "آيدكس ونافدكس"
  • رئيس طاقة النواب: أتوقع انتهاء أزمة انقطاع الكهرباء في مصر بشكل نهائي
  • وزير التعليم: دمج التقنيات الحديثة بالمناهج وتدريب المعلمين على استخدامها
  • وزير التعليم: نعمل على إدماج التقنيات الحديثة في المناهج التعليمية
  • هل الرياضيات الحديثة بديل للرياضيات التقليدية ؟!
  • حمدان بن محمد يطّلع على أحدث التقنيات الدفاعية خلال زيارته معرض آيدكس 2025
  • حمدان بن محمد يطّلع على أحدث التقنيات الدفاعية في معرض آيدكس 2025
  • العوالم المتوازية بين الخيال العلمي ونظريات الفيزياء الحديثة