بعد انسحاب 3 دول منها.. هل تنهار منظمة إيكواس؟
تاريخ النشر: 20th, July 2024 GMT
اكتسبت القمة غير العادية للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" التي استضافتها أبوجا عاصمة نيجيريا في السابع من هذا الشهر؛ أهمية خاصة لاعتبارات عدة أهمها توقيت انعقادها بعد يوم واحد من القمة التي عقدها قادة الانقلاب في كل من مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو؛ وأعلنوا خلالها المضي قدمًا في تشكيل اتحادي كونفدرالي فيما بينهم "تحالف دول الساحل"؛ وتأكيد قرارهم في يناير/كانون الثاني الماضي بالانسحاب الفوري من الإيكواس.
وهو ما شكّل تحديًا لإحدى أهم المنظمات الإقليمية في القارة؛ والتي حقّقت نجاحات معتبرة على الصعيد الاقتصادي، خاصة ما يتعلق بحرية تنقل الأشخاص والبضائع بين دول المنظمة الـ 15 بجواز سفر موحّد؛ فضلًا عن كونها أول منظمة أفريقية تركز على البعد الأمني وأهميته لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
إذ كانت سباقة في صياغة بروتوكولات أمنية مثل عدم الاعتداء 1978؛ والمساعدة الجماعية في حالة الدفاع 1981؛ ثم استحداث آلية لمنع وإدارة وتسوية الصراعات وحفظ السلام والأمن 1999، التي كان من أهم بنودها توسيع قاعدة تدخل قوات المنظمة في الصراع الداخلي في حالة التهديد بحدوث كارثة إنسانية؛ أو وجود أعمال عنف تنتهك حقوق الإنسان وحكم القانون بصورة كبيرة، أو في حالة الإطاحة بحكومة منتخبة.
وقد ساهمت المنظمة من خلال هذه القوات المتدخلة التابعة لها في تسوية الصراعات والحروب الأهلية في ليبيريا، وسيراليون، وغينيا بيساو (في تسعينيات القرن الماضي)؛ وساحل العاج (2002-2010)، ومالي (2013)، وغامبيا (2016)، وبحلول عام 2017، باتت جميع دول المنظمة لديها حكومات دستورية بقيادة مدنية.
هذا الانسحاب الثلاثي الأخير يطرح تساؤلين أساسيين: الأول، عن التحديات المترتبة عليه، والثاني عن مستقبل المنظمة، والسيناريوهات " أو البدائل "المتوقعة لتعاملها مع هذه الأزمة.
تحديات أساسيةيمكن القول إن عملية انسحاب الدول الثلاث من الإيكواس، تجعل المنظمة أمام 3 تحديات أساسية: أمنية، واقتصادية، واجتماعية، عبّر عنها بوضوح رئيس مفوضيتها عمر توراي في القمة الأخيرة، بقوله عن التحدي الاقتصادي: إن حرية الحركة والسوق المشتركة التي تضم 400 مليون نسمة، باتت معرضة للخطر حال انسحاب الدول الثلاث؛ وإن تمويل مشروعات اقتصادية بقيمة تزيد على 500 مليون دولار في بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، ربما يتوقف.
فمن شأن هذا الانسحاب إلغاء اتفاقية التجارة الحرة وانتقال السلع والخدمات، والعمل بدون تأشيرة وإعادة الحواجز الجمركية بين دول المنظمة ودول الساحل الأفريقي؛ كما سيؤثر على اقتصادات دول الساحل الأفريقي التي تعتمد على الواردات بصورة كبيرة؛ فضلًا عن كونها دولًا حبيسة؛ كما سيعرقل جهود الإيكواس كمنظمة للبحث عن عملة مختلفة عن الفرنك الفرنسي الأفريقي الذي تتعامل به 8 دول في المنظمة "الدول الفرانكفونية"، في حين تتعامل باقي دول المنظمة بعملتها الوطنية.
لذا كانت هناك مناقشات داخل المنظمة بإقامة منطقة نقدية متكاملة تستخدم العملة الموحدة (إيكو). ولا شك أن انسحاب الدول الثلاث "وهي فرانكفونية"، وبحثها عن عملة بديلة موحدة، يجعلنا أمام 3 مناطق نقدية داخل المنظمة الواحدة؛ ما قد يعوق عملية التكامل الاقتصادي، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أكثر من نصف الدول الأعضاء بالمنظمة "ومنها الدول الثلاث" تصنف حسب بيانات البنك الدولي العام الماضي ضمن الدول ذات الدخل المنخفض؛ أما باقي الدول فتصنف في خانة الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض.
وبالنسبة للتحدي الأمني أشار رئيس المفوضية إلى أن انسحاب الدول الثلاث سيشكل ضربة قوية للتعاون الأمني، لا سيما تبادل المعلومات المخابراتية والمشاركة في الحرب على الإرهاب.
ومن المعروف أن منطقة غرب أفريقيا، وخاصة هذه الدول الثلاث، تواجه تصاعدًا في عمليات الجماعات المسلحة بها بعد الانقلابات الأخيرة، وباتت أوضاعها غير المستقرة تهدد دول الجوار أعضاء الإيكواس؛ وصارت المنطقة بصفة عامة تحتل المكانة الأولى عالميًا في العمليات المسلحة؛ لذا إذا كان موضوع الإرهاب أحد أسباب خروج هذه الدول من تجمع الساحل الذي أقامته فرنسا قبل حوالي 10 أعوام، فإنه بات يشكل تحديًا لها ولدول المنظمة، بعد الفراغ الذي أحدثه انسحابها مؤخرًا.
أما بالنسبة للتحدي الاجتماعي، فأوضح رئيس المفوضية أنه قد تكون هناك أيضًا إجراءات جديدة لفرض حصول مواطني هذه الدول الثلاث على تأشيرات لدخول دول أخرى في المنطقة. وهذا سيشكل تحديًا اجتماعيًا وليس اقتصاديًا فحسب، في ظل وجود العديد من الإثنيات الممتدة في أكثر من دولة، مما قد يعرقل عملية حركتها، وارتفاع تكلفة تنقلها.
بدائل وسيناريوهاتهذه التحديات تطرح تساؤلًا حول البدائل والسيناريوهات المطروحة أمام المنظمة للتعامل مع موضوع الانسحاب.
السيناريو الأول: السعي لعودة هذه الدول الثلاث مرة أخرى للمنظمة. ويمكن أن يتم ذلك عبر جهود الوساطة، إذ كلّفت المنظمة رئيسَي السنغال وتوغو بالقيام بذلك في إطار علاقتَيهما الوطيدة مع المجالس العسكرية في دول التّحالف لإقناعهم بالعودة مرة أخرى للمنظمة. وفي هذا الصدد يمكن للمنظمة "عبر الوسطاء" القيام بأمرَين:
الأول: إعادة النظر في الشروط التي وضعتها المنظمة للمجالس العسكرية في دول التحالف ومنها الفترة الانتقالية القصيرة، وعدم ترشح قادة الانقلابات في الانتخابات القادمة؛ لأن من شأن هذه الشروط تشدد القائمين على هذه الانقلابات؛ كما ترتب عليها تأجيل الانتخابات التي كان يفترض إجراؤها في مالي، وبوركينا فاسو، في مارس/آذار، ويوليو/تموز من هذا العام وفقًا لترتيبات الإيكواس؛ ونفس الأمر بالنسبة للفترة الانتقالية؛ حيث تم تمديدها في بوركينا فاسو خمس سنوات أخرى تنتهي في 2029؛ مع النص على حق الرئيس العسكري الانتقالي إبراهيم تراوري في الترشح.
وهو الأمر ذاته في مؤتمر الحوار الوطني" المؤدلج "في مالي، والذي طالب بتمديد الفترة الانتقالية ثلاثة أعوام أخرى تنتهي عام 2027؛ مع أحقية رئيس المجلس العسكري آسيمي غويتا في الترشح في الانتخابات؛ في حين أن قادة انقلاب النيجر لم يحددوا أصلًا موعدًا للفترة الانتقالية وبالتالي الانتخابات.
لكن هناك خشية من أن يؤدي ذلك إلى تجرؤ العسكريين على قواعد الديمقراطية في باقي الدول الأعضاء، تمامًا كما حدث في النيجر؛ عندما تراجعت الإيكواس عن شرط إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم للحكم؛ حيث لم يقم العسكريون بإطلاق سراحه حتى الآن. وهنا قد يمكن الوصول لحل وسط من خلال تمديد معقول للجداول الزمنية الحالية للفترة الانتقالية، بما في ذلك في النيجر، مع تحديد واضح للخطوات التالية، وتعهّد الإيكواس بالمساعدة في تحقيق أهداف المرحلة الانتقالية وَفق الإطار الزمني الجديد.
الثاني: قيام المنظمة بتكثيف جهودها في مجال مكافحة الإرهاب عبر تفعيل تلك المبادرة التي تمت الموافقة عليها نهاية 2022، حيث أعلنت الإيكواس قبل شهرين توفير الترتيبات اللازمة لهذه القوات بمدينة لونجي في سيراليون؛ والاتفاق على خطط لتعبئة قوة احتياطية إقليمية لمكافحة الإرهاب قوامها 5000 فرد؛ مع تخصيص 2.4 مليار دولار لها؛ تقوم الدول الأعضاء بتوفير مليار دولار ابتداء.
وبالتالي يمكن من خلال هذه الآلية تعزيز جهود مكافحة الإرهاب في محاولة لاستمالة هذه الدول من جديد، خاصة أن هذه الانتقادات "عدم كفاءة مواجهة الإرهاب " كانت موجهة للإيكواس وفرنسا معًا؛ وكانت أحد الأسس التي استندت إليها الزمرة العسكرية في الدول الثلاث لتبرير خروجها من الإيكواس.
السيناريو الثاني: قيام المنظمة بالتصعيد ضد هذه الدول الثلاث، خشية قيام قيادات عسكرية في دول أخرى بإجراءات مماثلة؛ ما قد يؤدي إلى انهيار المنظمة وانفراط عقدها. وهي تستند في ذلك إلى أن التحالف الثلاثي الجديد قد ينهار سريعًا بسبب ضعف الأسس التي يقوم عليها، فضلًا عن التحديات الأمنية التي تواجه دوله، والتي لم تفلح – في ظل تحالف هذه الدول مع فرنسا وأوروبا وفي وجود مظلة من مجلس الأمن- في وقف العمليات الإرهابية.
وكذلك التحديات الاقتصادية فهي دول حبيسة ذات دخل منخفض؛ وتحتاج للتعامل مع العالم الخارجي تصديرًا واستيرادًا؛ ناهيك عن التحديات الاجتماعية المتعلقة بانتقال المواطنين لدول الجوار.
وفي ظل هذا السيناريو، يمكن أن تقوم المنظمة بعدة خطوات:
الأولى: استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدول الثلاث، مع إمكانية عودة فرض العقوبات التي تم رفعها جزئيًا عن النيجر؛ والتي قد تؤثّر بصورة كبيرة على اقتصاد هذه الدول المتأزم أصلًا. وفقًا لمجموعة دخل البلدان التابعة للبنك الدولي لعام 2023، تقع هذه الدول الثلاث ضمن فئة الدول الأقل دخلًا.
كما أن كونها دولًا حبيسة يفاقم من معاناتها الاقتصادية، وإمكانية خنق هذه النظم اقتصاديًا؛ وهو ما قد يسبب مع استمرار الهجمات المسلحة مزيدًا من تدهور الأوضاع بها؛ وقد أدى وقف نيجيريا على سبيل المثال تزويد النيجر بالكهرباء بعد الانقلاب؛ إلى دخول البلاد في ظلام دامس في ظل اعتمادها بنسبة 70% على كهرباء نيجيريا.
الثانية: إمكانية فرض قيود التأِشيرة على دخول مواطني هذه الدول إلى دول المنظمة؛ ما يعني حرمانها من أسباب العيش من ناحية؛ فضلًا عن إمكانية قطع الروابط الإثنية لهذه الدول الثلاث مع دول الجوار.
الثالثة: تفعيل الإطار المؤسسي للإيكواس، خاصة ما يتعلق بالتصديق على بروتوكولها بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد الذي تمّ التوقيع عليه في ديسمبر/كانون الأول 2001؛ والذي يحظر الإطاحة بالنظم المنتخبة، لكنه لم يدخل حيز النفاذ حتى الآن؛ لأنه يتطلب تصديق 9 دول عليه.
لقد أظهرت القيادة السنغالية الجديدة التزامًا بإصلاح منظمة الإيكواس؛ ومن خلال تسليط الضوء على مخاطر الانقلابات، يمكنها إقناع القادة الآخرين بالتصديق على البروتوكول.
الرابعة: توثيق المنظمة العلاقةَ مع فرنسا والولايات المتحدة كخيار أخير لمواجهة النفوذ الروسي الداعم لهذه الدول الثلاث؛ لاسيما ما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب وتعزيز عمل قوة الإرهاب الجديدة المعلن عنها مؤخرًا؛ فضلًا عن استغلال النفوذ الأميركي والفرنسي في المؤسسات الاقتصادية العالمية كالبنك والصندوق الدوليين؛ لمنع تدفق المساعدات إلى هذه الدول الثلاث.
لا شك أن إيكواس في مفترق طرق الآن، وتواجه تحديات صعبة، والتعامل معها بنجاح يضمن لها الاستمرار والبقاء، أما الفشل في مواجهتها، فقد يؤدّي إلى ضعفها، ثم انهيارها لاحقًا؛ وهو الأمر الذي ستكون له ارتداداته السلبية على باقي المنظمات الإقليمية في القارة، خاصة في وسطها وشرقها.
وبالتالي عودة ظاهرة الانقلابات والتراجع الديمقراطي في دول القارة من جديد؛ ما قد يؤثر كذلك على فاعلية الاتحاد الأفريقي الذي يرفض ميثاقه التغييرات غير الدستورية عبر الانقلابات، لكن يبدو أنه بات يكتفي بتعليق عضوية الدول التي تشهد هذه الانقلابات في مؤسساته لحين قيام قادة الانقلابات بإجراء انتخابات جديدة تكرس حكمهم في صورة مدنية بعد خلعهم البزّة العسكرية تحت مرأى ومسمع من الجميع!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات هذه الدول الثلاث دول المنظمة فضل ا عن من خلال فی دول
إقرأ أيضاً:
في المنطقة «ج».. قلوب تنهار تحت مطرقة جرافة الاحتلال ولهيب الاسيتطان
في فجر يومٍ قاتمٍ من أبريل 2025، اجتاحت جرافات قوات الاحتلال بلدة نعلين، شمال غرب رام الله، مصحوبة بآليات ثقيلة تستنفر قلبَ كل زاوية. كان الدكتور رائد سرور وأخيه نائل يقفان أمام منزليهما المشيدين بتعب السنين، ينظر إلى جدرانهما اللاتي ارتوت بذكريات العمر، عندما سمعت أخاه نائل صراخَ تنبيه الهدم.
لم تكن صرخة تضجّ بحمايةٍ من الموت؛ بل تحذر من تدمير المأوى. ارتعدت أركان المنزل تحت وطأة المطرقة الميكانيكية، وتهاوى الجدار الشمالي لمنزل رائد خاضعًا لقانون القوة، التي زلزلت بيت نائل، وسوته بالأرض.
رائد، الذي قضى الليل يحلم بطفله الصغير يركض في باحة المنزل، وجد نفسه أمام سحابة من الغبار تنبعث من تعبّد حاضره وهموم مستقبله. قال بصوتٍ مبحوح: «كل حجرٍ كان يعنيني. سقط الحجر وسقط أملنا». وفي ركنٍ بعيد، تسللت دمعة صامتة على وجنة نائل، فاتحًا نافذة الماضي التي سكنت بين صدى الضحكات وصدى الأحلام.
حجارة الهدم تصيب القلب
نهال شكري، زوجة رائد التي وقفت يوم الهدم أمام الباب تتحدى الأيادي الغليظة، تسرد بحسرة: «حسبي الله ونعم الوكيل. شو بدي أقول؟ مقدرش أقول أي شيء! مقدرش أقول: دارنا وانهدت. ولادنا بقوا في الشارع». وتنهش الكلمات قلبها قبل أن تتوقف، والطرقات الحديدية تغلّق باب الأمس في وجه أهله.
صوت الانهيار تردد في قلب البلدة، كنبضٍ يمتدّ عبر حيِّ نعلين الصاعد غارقًا في الصمود. «سنتين بنسمع في أخبار غزة وتعبانين نفسيًا، فيجي علينا لسه أشياء ثانية أكبر. والله صعبة. والله كأن الحجارة كانت بتنزل في قلبي» هكذا نظرت نهال حيث رحل الأمان، وظلت السماء تراقب أهل نعلين.
وفي المساء ذاته، حل الظلام على أطلال المنزلين، فاختزل البيت قصصه في أطلالٍ وصدى. جلست نهال على ركام ما تبقى، واضعةً وسادة طفلها الملونة على رأسها، وعقدت العزم أن تنام على باب الدار المهدم، تجربةً ما عاشه أطفال غزة.
قالت بعزمٍ مشتعل: «أنا الليلة بدي أنام على باب الدار، ولا ممكن أسيب هاي المنطقة. أنام هنا. أجرب زي ما ناموا. أنام في العراء زيهم».
هجمات وتجريد وإرهاب يومي
المنطقة (ج) في الضفة الغربية تحددها اتفاقيات أوسلو لتخضع للسيطرة المدنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة، مما يجعلها ساحة مفتوحة لسياسات الاحتلال في اقتلاع الفلسطينيين. امتدت في هذه البقاع خريطةُ هدمٍ وتجريفٍ وحرقٍ، لتعكس صراعًا يستهدف قلب الوجود. تتراكب في هذه القرى حقول الزيتون على أطلال الأمل، بينما تواصل الجرافات رسم معالم الاستيطان الجديد.
الاحتلال لا يكتفي بهدم المنازل، بل يتجاوز ذلك ليمتدّ إلى تجريف الأراضي وحرمان المزارعين من موسم الزيتون. ففي قرى نعلين، وسنجل، ودير جرير، قُطع الربيع قبل أوانه، وظلّت الأيادي الفلسطينية معلقة بين حجر وسنبلة، تراقب الحروق تحت أشعة الشمس. الماءُ الملوّث والريحُ العاتية باتت من تبعات التوسع الاستيطاني، يقف الفلسطيني أمام جذوره بلا دفاع
لا تقل اعتداءات المستوطنين تحت غطاء الحماية عن وحشية الجيوش النظامية، فهم يأتون في الليل ليلتهموا أجزاء من حياة الأهالي، يركضون بين بيوت القرية ويشعلون العزب حرقًا. يختزل هذا الإرهاب اليومي معاناةً مستمرة فارضةً واقعًا مريرًا على السكان، من أطفالٍ وأمهاتٍ وكبار في السن.
تفحم عزب (سنجل) بنيران الاستيطان
في ليلةٍ سوداءٍ بضوء القمر الخافت، اجتاح مستوطنون بلدة سنجل شرق رام الله. أحرقوا عزبًا ومنازل تعود لأهالي المزرعة الشرقية، تاركين وراءهم دخانًا أسود يتصاعد في السماء، كقصة تنتهي قبل أوانها.
قال أحد السكان الذين فوجئوا باحتراق منزل، في غيبة أهله، على يد فرقة من المستوطنين، وقد ارتجت كلماته بين غضب وحسرة: «جاءوا فجأةً، أحرقوا البيت وكل أغراضه بداخلها؛ لم نكن هنا لنواجههم، كل شيء في المنزل تفحم». لم تكن تلك الكلمات مجرد سرد لمشهد مروع، بل صرخة حارقة تعكس حرمان أهل البلدة من ملاذِهم الآمن.
وروى شابٌ من العائلة المجاورة كيف تسلل نحو الموقع فور سماع دوي الحرائق، فتفاجأ بعشرين مستوطنًا يحرقون المكان دون اكتراثٍ لصرخات الجيران.
يقول الشاب علاء اشتية، ووجهه يحمل آثار الدخان: «لو كنا موجودين لما وصلوا إلى البيت، لكنهم أحرقوه بسرعةٍ فائقة حتى قبل أن يتسنى لنا الوصول». وحملت صرخته تساؤلاً عن غياب أي ردّ فعلي من قوات الاحتلال التي صمتت أمام اعتداءٍ بلغ حدّ التجزئة المنهجي للحياة الفلسطينية.
رجل مسن كانت يقف على بعد أمتار، اختلج صمته عند سؤاله عن دور المجتمع الدولي. أشار بيده نحو الأفق وقالت بصوتٍ متهدج: «هذا اضطهادٌ للشعب الفلسطيني... نُلاحق في أرضنا، في دورنا، في بيوتنا وأحلامنا. إلى متى نظلُ بلا حماية؟ أين الصوت الذي يدافع عن حقوقنا؟». كانت نظراته مليئة بمرارةٍ تشي بأن سنواتٍ من الانتظار لم تحمل سوى مزيدٍ من الصمت.
تجريف قوت الناس في دير جرير
مع بزوغ شمس اليوم التالي، خرجت جرافة الاحتلال من مخابئها لتجرف هدوء قرية دير جرير الواقع شرق رام الله. وقف المزارع محمود أبو زيد على بقايا أرضه المقلوبة، والأكوام الترابية تعلو حيث كانت تثمر أشجار الزيتون.
يقول بصوتٍ متهدجٍ وقد ارتعش له لسانه: «رأيتُ الجرافة تلتهم أرضي بشراهة، كأنها تريد أن تمحو هويتي قبل جذوري. حين حاولت الصراخ لأوقفها، وجدتُ نفسي وحيدًا أمام آلة لا تعرف الرحمة».
لم يكتفِ المستوطنون بإغلاق المدخل الرئيسي للقرية؛ بل انتقلوا إلى قلع الأراضي الواقعة غرب جبل تل العاصور، حيث زرع أجداد الأهالي زيتونهم قبل عقود.
تذكر أيمن علوي، رئيس المجلس القروي لدير جرير، كيف احتشد المستعمرون بصمتٍ غريبٍ، ثم أنزلوا الجرافة وسط الطريق الرابط بين سلواد والدير.
ويوضح علوي متألمًا: «لاحقوا الحياة هنا بخبث؛ أغلقوا المدخل وأحكموا الحصار على السكان، ثم شرعوا في تجريف الأراضي حتى لا يبقى للفلسطيني مكان يعود إليه».
تركت عمليات التجريف آثارًا عميقة على الأهالي، إذ فوجئوا بأطنان من التربة تحاصر بساتينهم بلا إنذارٍ مسبق. تقول فاطمة غنيمات، التي كانت تملك قطعة أرض صغيرة لتأمين قوت أسرتها: «عندما جئت لأجدّ الماشية، رأيت الأرض مشتعلةً بالتربة، وكأنهم يريدون أن يدفنوا حاضرنا. لم أكن أتخيل أن يتجرؤ أحد على انتزاع لقمة العيش من يدي».
وبينما استمرت الآليات في حفر الأرض، توافد سكان دير جرير لمراقبة قلب مزارعهم، يحملون فوق أكفهم لهيب غضبٍ يرفض الخضوع. تردد صدى أصواتهم بين أكوام الأتربة: «لن نترك أرضنا. ستبقى شجرة الزيتون رمز صمودنا».
وفي الأفق بدا أن الحبر الملطخ على خريطة القرية قد تغير مسار الأحياء، ولكن عزيمة الأهالي تبقى ثابتة، تنبئ بأن زمام الأرض لم يزل في قبضة ساكنيها الأصليين.
مخطط (ج): الفلسطينيون أقلية
تُظهر البيانات الصادرة عن مركز الميزان الفلسطيني لحقوق الإنسان في تقريره الصادر بتاريخ 15 مارس 2025 أن محافظة رام الله والبيرة قد شهدت خلال الفترة من 1 مارس 2024 حتى 28 فبراير 2025 هدمًا لـ 350 منشأة سكنية وتجارية، وتعريض أكثر من 500 دونم للحرائق والتجريف برعاية قوات الاحتلال والمستوطنين.. إذ تهدف خطة التوسع الاستيطاني إلى ربط مستوطنات كتلة رام الله–البيرة ببؤر جديدة، تمتد من شمال سنجل حتى جبال البيرة الجنوبية، لتفصل شمال الضفة عن وسطها.
يستهدف مشروعُ «الطوق الاستيطاني» المحيط برام الله إقامة بلوك استيطاني ضخم يضم أكثر من 20 بؤرة استيطانية جديدة، ويستوطنها ما يزيد على 15 ألف مستوطن خلال السنوات الخمس المقبلة. ويؤكد محللون فلسطينيون وإسرائيليون أن الهدف هو تقليل الكثافة السكانية الفلسطينية في هذه المنطقة لتصبح أقلية في ديارها، مع قطع خطوط الاتصال المثلى بينها وبين باقي محافظات الضفة الغربية.
الاحتلال يصدر قرارات وضع يد على مساحات شاسعة، إذ تم اعتماد خطة ضمّ 30 دونمًا في شمال سنجل كمرحلة أولى، وفتح مناقصات لإنشاء طرق التوصيل للمستوطنات الجديدة، إلى جانب مخطط لربط بؤرة «موشاف هار جيلو» بمستوطنة «بيت إيل» عبر شبكة طرق معزولة، لتسهيل حركة المستوطنين وتأمينها.