المستفيدون من فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين
تاريخ النشر: 19th, July 2024 GMT
فك الارتباط التام بين اقتصاد الصين والاقتصادات الغربية يمكن أن يكون باهظ التكلفة. فمن شأنه أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي للعالم بنسبة 7% وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. وهذه خسارة تساوي 7.4 تريليون دولار أو ما يعادل تقريبًا حجم الاقتصادين الفرنسي والألماني معًا. يتوقع صندوق النقد الدولي أيضًا أن تكون الاقتصادات النامية أكثر تضررًا إذا قطعت واشنطن وبكين روابطهما الاقتصادية.
أولًا
تستفيد بلدان مثل ماليزيا كمركز صناعي جديد للسلع ذات الأهمية الفائقة. ربما لا تظهر جزيرة بينانج الماليزية كثيرًا في عناوين الأخبار. لكن سكانها البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة شهدوا مؤخرًا ازدهارًا اقتصاديًا. فمع تنويع الشركات متعددة الجنسيات لسلاسل توريدها لإنتاج السلع بالغة الأهمية بعيدًا عن الصين، طرحت الجزيرة نفسها كمركز صناعي محايد لأشباه الموصلات التقليدية. وفي حين يعود إنتاج ماليزيا للرقائق الدقيقة إلى 50 عامًا، إلا أن هناك اندفاعًا غير مسبوق لإقامة خطوط تجميع واختبار أشباه الموصلات في بينانج. فقد اجتذبت الجزيرة استثمارًا أجنبيًا مباشرًا بقيمة 13.5 بليون دولار في العام الماضي، أو ما يزيد عن إجمالي مثل هذه الاستثمارات في الفترة من 2013 إلى 2020. أصبحت الجزيرة بدورها موردًا رئيسيًا لأشباه الموصلات حيث زودت الولايات المتحدة بنسبة 20% من وارداتها من الرقائق في عام 2023. ويبدو أن تفوقها في مجال صناعة الرقائق الدقيقة سيشهد المزيد من النمو، فقد أعلنت شركة «إنتل» التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها للتو عن خطة بقيمة 7 بليون دولار للتوسع في الإنتاج بالجزيرة. والشركات الغربية ليست الوحيدة المهتمة ببينانج. فشركة «إكس فيوجن»، وهي فرع سابق لشركة هواوي، وشركة «ستار فايف» ومقرها في شنغهاي، تخططان كلتاهما لإنتاج الرقائق في الجزيرة.ربما لا يجب أن يكون الاهتمام الذي تبديه الشركات الصينية تجاه ماليزيا مفاجئًا. فماليزيا، على عكس الصين، ليست خاضعة للقيود الأمريكية على تصدير تقنية أو معدات أشباه الموصلات المتقدمة. وهذا ما يجعل بينانج قاعدة مثالية للشركات الصينية التي تتطلع إلى الالتفاف حول هذه القيود.
ثانيًا
تشرع الصين في إعادة توجيه استثماراتها إلى أسواق صاعدة جديدة، لقد أصبحت الشركات الغربية التي تنشئ خطوط إنتاج إضافية خارج الصين مثالا مألوفًا لفكرة تخلص الشركات من المخاطر، لكنها ليست الوحيدة التي تنوع أماكن إنتاجها، فالشركات الصينية أيضا تنقل الإنتاج إلى الخارج أو تتوسع فيه هناك، تحوطًا من الخطط الغربية للتخلص من المخاطر. يفسر هذا التوجه الارتفاع الهائل في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في العديد من بلدان الاقتصادات الصاعدة، بما في ذلك المكسيك والمجر. في بداية العام الحالي، أصبحت المكسيك المقصد المفضل للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في مجال المشروعات الجديدة بقطاعي الصناعة التحويلية واللوجستيات، ويبدو أن هذا التوجه سيستمر، حيث تتوقع الجهات المعنية بالصناعة المكسيكية أن تكون هناك شركة صينية واحدة من بين كل خمس شركات تقيم منشأة لها في الحدائق الصناعية بالمكسيك في العامين القادمين، وهذه الحدائق قاعدة مثالية لإنتاج السلع التي تغطيها اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، شرق أوروبا منطقة أخرى مستفيدة من استراتيجية التنويع التي تتبعها الصين، فشركة كاتل الصينية العملاقة لإنتاج البطاريات تشيد مصنعًا بقيمة 8 بليون دولار في المجر على سبيل المثال.
وبتطويرها روابط اقتصادية مع البلدان الصديقة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كالمجر، تخطط بكين على المدى البعيد، فإذا لزمها غزو تايوان، ستسارع إلى الإشارة أن من مصلحة الاتحاد الأوروبي البقاء على الحياد (بمعنى تجنب فرض عقوبات على الصين) إذا لم يرغب في تعريض آلاف الوظائف في أوروبا للخطر.
ثالثًا
تحوِّل سياسة التخلص من المخاطر بعضَ البلدان إلى وسطاء. هذا التوجه يقترن بآثار جانبية غير متوقعة، فسلاسل الإمداد تطول وتتمدد، وفقًا لبنك التسويات الدولية الذي درس خطوط إنتاج آلاف الشركات العالمية. يبدو هذا لأول وهلة خلاف ما هو متوقع، فإذا كان التخلص من المخاطر يدفع الشركات الغربية إلى الإنتاج قريبًا من بلدانها، فمن المؤكد أن ذلك يعني تقصير سلاسل التوريد، لكن بيانات بنك التسويات الدولية توضح أن هذا المنطق البسيط لا يصمد أمام الفحص الدقيق، فبدلًا من قطع روابطها مع الصين، تواصل شركات عديدة شراء الإمدادات المصنوعة في الصين، لكنها الآن تشتريها من بلدان وسيطة تلعب دور الوكيل بين كلا الجانبين. إذا ألقينا نظرة على إحصائيات تجارة فيتنام، سنرى كيف يحدث ذلك في الواقع الفعلي، فقد تضاعفت قيمة صادرات السلع الصينية إلى فيتنام تقريبًا منذ عام 2017 إلى أكثر من 138 بليون دولار في العام الماضي. (زاد إجمالي صادرات سلع الصين بحوالي النصف فقط خلال الفترة نفسها) ومن الصعب الاعتقاد بأن السوق الاستهلاكية لفيتنام تمتص مثل هذا التدفق الهائل للمنتجات الصينية. بل بدلًا من ذلك، ينتقل العديد منها ببساطة عبرها إلى الولايات المتحدة.
يساعد هذا التوجه على تفسير ازدهار التجارة الأمريكية الفيتنامية، فقد ارتفعت قيمة صادرات فيتنام إلى الولايات المتحدة بحوالي ثلاثة أضعاف تقريبًا منذ عام 2017 مع وجود «تناسب» يكاد يكون مثاليًا بين النمو في واردات فيتنام من الصين ونمو صادراتها إلى الولايات المتحدة. على الورق، يبدو هذا وكأنه مكسب من سياسة التخلص من المخاطر للولايات المتحدة التي تستورد أقل من الصين وأكثر من فيتنام. لكن الواقع خلاف ذلك. ففي الحقيقة، يظل اعتماد الولايات المتحدة على الصين ثابتًا لا يتغير فيما يزداد طول سلاسل الإمداد.
رابعًا
يستغل موردو المواد الخام شديدة الأهمية صراع الطرفين لصالحهم، ففي يونيو 2023، أعلنت بوليفيا بجرأة توقيعها اتفاقيات مع الشركة النووية الروسية العملاقة المملوكة للدولة «روساتوم» ومجموعة سيتيك غوان الصينية لاستغلال الترسبات الكبيرة في أراضيها لمعدن الليثيوم، وهو أحد المدخلات الحيوية لصناعة البطاريات ومعدات التقنية النظيفة الأخرى. مرت الصفقات دون أن تثير اهتمامًا يذكر، لكنها توضح استمرار السباق لاستغلال الاحتياطيات الضخمة من المواد بالغة الأهمية في أمريكا اللاتينية، بما في ذلك الليثيوم والنحاس والمعادن النادرة. بل يصل الأمر أحيانًا حتى إلى تعاون الشركات الصينية والغربية، ففي الأرجنتين، تشترك شركتان صينية وكندية في ملكية منجم كاوشاري - أولاروز لتعدين الليثيوم. وهو مشروع استثمار مشترك تبلغ قيمته بليون دولار.
لن يقتصر سباق الشرق والغرب من أجل الحصول على المواد الخام الحيوية على أمريكا اللاتينية. فإندونيسيا (وهي لاعب رئيسي في تعدين النيكل) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (التي تهيمن عالميًا على إنتاج الكوبالت) وتركيا (التي بها أكبر احتياطيات لمادة الجرافيت في العالم) تُموضع نفسها للاستفادة من البحث العالمي عن المواد بالغة الأهمية. فحسب وكالة الطاقة الدولية، ارتفع الإنفاق العالمي على استكشاف هذه المواد بنسبة 50% منذ عام 2021. وتعلم البلدان الغنية بالموارد أنها ستكون قادرة على الفوز بأفضل الصفقات، بما في ذلك الحصول على التقنية وعلى اتفاقيات تجارية مفصلة خصيصًا لها وتمويل ميسر إذا استثمرت في صراع الطرفين.
خامسًا
تلجأ البلدان الصاعدة باطراد إلى الاستفادة من مانحين غير غربيين جدد. في أبريل ومايو، تعرضت ولاية ريو غراندي دو سول في جنوب البرازيل إلى أمطار غزيرة وفيضانات مهلكة أدت إلى نزوح حوالي 700 ألف شخص. مثل هذه الكوارث عادة ما تعقبها موجات من التعهدات الغربية بتقديم الدعم الإنساني وإعادة البناء. لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا فقد أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنهما سيرسلان مبلغًا شحيحًا لا يتعدى مليون دولار لكل منهما. في الأثناء، أعلن بنك التنمية الجديد الذي تدعمه بلدان البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا وبلدان عديدة أخرى) أنه سيحول حزمة مساعدات بقيمة 1.1بليون دولار. دولار على الفور. يُسلِّط مثال البرازيل الضوء على واقع مالي جديد، فبعد عقود من الاعتماد على المؤسسات التي يقودها الغرب، مثل البنك الدولي، تتجه البلدان الصاعدة باطراد نحو مانحين جدد. يُجسِّد الحراك المالي لمجموعة دول البريكس هذا الاتجاه، فمصرفها التنموي لديه سلفًا محفظة ديون بقيمة 33 بليون دولار، وخصصت المجموعة خطوط تبادل للعملات بقيمة 100 بليون دولار للطوارئ. هذا يعني أن بلدان الاقتصادات النامية يمكن أن تكون لديها خيارات أخرى غير اللجوء إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي الأوروبي للحصول على أموال طوارئ، وإلى ذلك، منح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية «الصيني» قروضًا بحوالي 50 بليون دولار منذ تأسيسه في عام 2013.
احتدام التنافس بين المانحين خبر سعيد للبلدان الصاعدة، فهو يعزز قدرتها على «التسوق» وسط مختلف المانحين لتأمين صفقات أفضل، وعلى الرغم من أنه سيكون هناك خاسرون عديدون من التشظي الاقتصادي، إلا أن بلدانًا قليلة أعدت نفسها للاستفادة من التحولات العديدة التي ترتبت عن التنافس الأمريكي الصيني.
أما البلدان الرابحة فهي التي ستتمكن من موضع نفسها كمراكز صناعية وتجارية وتقنية تربط الشرق بالغرب بسبب موقعها الجغرافي وقوتها العاملة المدربة جيدًا وقدرتها على الحفاظ على علاقات جيدة مع كلا الجانبين، وستلحق بها تلك التي تملك احتياطيات كبيرة من المواد الخام بالغة الأهمية أو قادرة على اجتذاب السخاء المالي من الطرفين المتنافسين. لكن في الحقيقة، هنالك عدد قليل فقط من بلدان الاقتصادات الصاعدة التي يُرجَّح أن تستوفي هذه المعايير، مما يوحي بأن تحذيرات صندوق النقد الدولي حول المخاطر الاقتصادية المرتبطة بسيناريوهات فك الارتباط قد يعلو صوتها في السنوات القادمة.
الكاتبة زميل أول سياسات في الاقتصاد الجغرافي بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤلفة كتاب بعنوان «نتيجة عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد مصالح الولايات المتحدة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة بالغة الأهمیة فک الارتباط هذا التوجه من بلدان بلدان ا
إقرأ أيضاً:
رسالة حادة من واشنطن للدول التي تدعم الأطراف المتحاربة بالسودان عسكريا
وجه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن رسالة حادة إلى الدول التي تقدم الدعم العسكري للأطراف المتحاربة في السودان قائلا "يكفي هذا".
وقال بلينكن أمام اجتماع حول السودان بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "استخدموا مواردكم لتخفيف معاناة السودانيين وليس تعميقها، استخدموا نفوذكم لإنهاء الحرب وليس إدامتها، لا تكتفوا بالزعم بأنكم مهتمون بمستقبل السودان، بل أثبتوا ذلك".
واندلعت المعارك في السودان منتصف أبريل/نيسان 2023 بين الجيش بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وقد خلفت هذه الحرب عشرات آلاف القتلى، وشردت أكثر من 11 مليون سوداني، وتسببت -وفق الأمم المتحدة- في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث، في ظل اتهامات متبادلة بين طرفي الصراع بارتكاب جرائم حرب عبر استهداف المدنيين ومنع المساعدات الإنسانية.
دعم إضافيوخلال الجلسة، أعلن وزير الخارجية الأميركي عن تخصيص بلاده مبلغا إضافيا بقيمة 200 مليون دولار لمواجهة الأزمة الإنسانية في السودان، ليرتفع بذلك إجمالي المساعدات الأميركية إلى 2.3 مليار دولار، مضيفا أن الولايات المتحدة عملت كثيرا مع الشركاء لتوفير المساعدة إلى السودان.
إعلانوأشار بلينكن إلى أن التمويل سيوفر الغذاء والمأوى والرعاية الصحية للسودان الذي يتعين توصيل مزيد من المساعدات إليه بشكل آمن وسريع.
وأضاف أن الولايات المتحدة ستستخدم كل وسيلة -مثل فرض مزيد من العقوبات- لمنع الانتهاكات في السودان ومحاسبة مرتكبيها، ودعا الآخرين إلى فرض إجراءات عقابية مماثلة على المتسببين في تفاقم الصراع.
وعلى صعيد متصل، حذّر برنامج الأغذية العالمي من أن السودان قد يشهد أكبر مجاعة في التاريخ الحديث، حيث يعاني 1.7 مليون شخص من الجوع أو يواجهون خطره المباشر، كما يعاني نحو 26 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء البلاد.
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية قد طالب بتوفير مساعدة بقيمة 4.2 مليارات دولار لتلبية حاجات السودانيين في 2025.