فك الارتباط التام بين اقتصاد الصين والاقتصادات الغربية يمكن أن يكون باهظ التكلفة. فمن شأنه أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي للعالم بنسبة 7% وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. وهذه خسارة تساوي 7.4 تريليون دولار أو ما يعادل تقريبًا حجم الاقتصادين الفرنسي والألماني معًا. يتوقع صندوق النقد الدولي أيضًا أن تكون الاقتصادات النامية أكثر تضررًا إذا قطعت واشنطن وبكين روابطهما الاقتصادية.

لكن ما لا تذكره هذه الأرقام الإجمالية هو أن بعض الاقتصادات ستكسب من فك الارتباط أو من شكله الأخف نوعًا ما والذي يُطلق عليه «التخلص من المخاطر». بل في الحقيقة، بعض البلدان الصاعدة تُموضع نفسها بسرعة للاستفادة مع شروع الصين والغرب في «إعادة ربط» سلاسل التوريد. وهي تفعل ذلك مثلًا بالعمل كمراكز صناعية وتجارية بين كلا الطرفين أو بدفع طرف للتنافس مع الطرف الآخر على نحو يتيح لها الحصول على دعمه واستثماراته. أدناه خمسة اتجاهات تُسلط الضوء على الكيفية التي تستعد بها بعض البلدان. للاستفادة من التوترات الأمريكية الصينية والتشظي الاقتصادي الناتج عنها:

أولًا

تستفيد بلدان مثل ماليزيا كمركز صناعي جديد للسلع ذات الأهمية الفائقة. ربما لا تظهر جزيرة بينانج الماليزية كثيرًا في عناوين الأخبار. لكن سكانها البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة شهدوا مؤخرًا ازدهارًا اقتصاديًا. فمع تنويع الشركات متعددة الجنسيات لسلاسل توريدها لإنتاج السلع بالغة الأهمية بعيدًا عن الصين، طرحت الجزيرة نفسها كمركز صناعي محايد لأشباه الموصلات التقليدية. وفي حين يعود إنتاج ماليزيا للرقائق الدقيقة إلى 50 عامًا، إلا أن هناك اندفاعًا غير مسبوق لإقامة خطوط تجميع واختبار أشباه الموصلات في بينانج. فقد اجتذبت الجزيرة استثمارًا أجنبيًا مباشرًا بقيمة 13.5 بليون دولار في العام الماضي، أو ما يزيد عن إجمالي مثل هذه الاستثمارات في الفترة من 2013 إلى 2020. أصبحت الجزيرة بدورها موردًا رئيسيًا لأشباه الموصلات حيث زودت الولايات المتحدة بنسبة 20% من وارداتها من الرقائق في عام 2023. ويبدو أن تفوقها في مجال صناعة الرقائق الدقيقة سيشهد المزيد من النمو، فقد أعلنت شركة «إنتل» التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها للتو عن خطة بقيمة 7 بليون دولار للتوسع في الإنتاج بالجزيرة. والشركات الغربية ليست الوحيدة المهتمة ببينانج. فشركة «إكس فيوجن»، وهي فرع سابق لشركة هواوي، وشركة «ستار فايف» ومقرها في شنغهاي، تخططان كلتاهما لإنتاج الرقائق في الجزيرة.ربما لا يجب أن يكون الاهتمام الذي تبديه الشركات الصينية تجاه ماليزيا مفاجئًا. فماليزيا، على عكس الصين، ليست خاضعة للقيود الأمريكية على تصدير تقنية أو معدات أشباه الموصلات المتقدمة. وهذا ما يجعل بينانج قاعدة مثالية للشركات الصينية التي تتطلع إلى الالتفاف حول هذه القيود.

ثانيًا

تشرع الصين في إعادة توجيه استثماراتها إلى أسواق صاعدة جديدة، لقد أصبحت الشركات الغربية التي تنشئ خطوط إنتاج إضافية خارج الصين مثالا مألوفًا لفكرة تخلص الشركات من المخاطر، لكنها ليست الوحيدة التي تنوع أماكن إنتاجها، فالشركات الصينية أيضا تنقل الإنتاج إلى الخارج أو تتوسع فيه هناك، تحوطًا من الخطط الغربية للتخلص من المخاطر. يفسر هذا التوجه الارتفاع الهائل في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في العديد من بلدان الاقتصادات الصاعدة، بما في ذلك المكسيك والمجر. في بداية العام الحالي، أصبحت المكسيك المقصد المفضل للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في مجال المشروعات الجديدة بقطاعي الصناعة التحويلية واللوجستيات، ويبدو أن هذا التوجه سيستمر، حيث تتوقع الجهات المعنية بالصناعة المكسيكية أن تكون هناك شركة صينية واحدة من بين كل خمس شركات تقيم منشأة لها في الحدائق الصناعية بالمكسيك في العامين القادمين، وهذه الحدائق قاعدة مثالية لإنتاج السلع التي تغطيها اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، شرق أوروبا منطقة أخرى مستفيدة من استراتيجية التنويع التي تتبعها الصين، فشركة كاتل الصينية العملاقة لإنتاج البطاريات تشيد مصنعًا بقيمة 8 بليون دولار في المجر على سبيل المثال.

وبتطويرها روابط اقتصادية مع البلدان الصديقة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كالمجر، تخطط بكين على المدى البعيد، فإذا لزمها غزو تايوان، ستسارع إلى الإشارة أن من مصلحة الاتحاد الأوروبي البقاء على الحياد (بمعنى تجنب فرض عقوبات على الصين) إذا لم يرغب في تعريض آلاف الوظائف في أوروبا للخطر.

ثالثًا

تحوِّل سياسة التخلص من المخاطر بعضَ البلدان إلى وسطاء. هذا التوجه يقترن بآثار جانبية غير متوقعة، فسلاسل الإمداد تطول وتتمدد، وفقًا لبنك التسويات الدولية الذي درس خطوط إنتاج آلاف الشركات العالمية. يبدو هذا لأول وهلة خلاف ما هو متوقع، فإذا كان التخلص من المخاطر يدفع الشركات الغربية إلى الإنتاج قريبًا من بلدانها، فمن المؤكد أن ذلك يعني تقصير سلاسل التوريد، لكن بيانات بنك التسويات الدولية توضح أن هذا المنطق البسيط لا يصمد أمام الفحص الدقيق، فبدلًا من قطع روابطها مع الصين، تواصل شركات عديدة شراء الإمدادات المصنوعة في الصين، لكنها الآن تشتريها من بلدان وسيطة تلعب دور الوكيل بين كلا الجانبين. إذا ألقينا نظرة على إحصائيات تجارة فيتنام، سنرى كيف يحدث ذلك في الواقع الفعلي، فقد تضاعفت قيمة صادرات السلع الصينية إلى فيتنام تقريبًا منذ عام 2017 إلى أكثر من 138 بليون دولار في العام الماضي. (زاد إجمالي صادرات سلع الصين بحوالي النصف فقط خلال الفترة نفسها) ومن الصعب الاعتقاد بأن السوق الاستهلاكية لفيتنام تمتص مثل هذا التدفق الهائل للمنتجات الصينية. بل بدلًا من ذلك، ينتقل العديد منها ببساطة عبرها إلى الولايات المتحدة.

يساعد هذا التوجه على تفسير ازدهار التجارة الأمريكية الفيتنامية، فقد ارتفعت قيمة صادرات فيتنام إلى الولايات المتحدة بحوالي ثلاثة أضعاف تقريبًا منذ عام 2017 مع وجود «تناسب» يكاد يكون مثاليًا بين النمو في واردات فيتنام من الصين ونمو صادراتها إلى الولايات المتحدة. على الورق، يبدو هذا وكأنه مكسب من سياسة التخلص من المخاطر للولايات المتحدة التي تستورد أقل من الصين وأكثر من فيتنام. لكن الواقع خلاف ذلك. ففي الحقيقة، يظل اعتماد الولايات المتحدة على الصين ثابتًا لا يتغير فيما يزداد طول سلاسل الإمداد.

رابعًا

يستغل موردو المواد الخام شديدة الأهمية صراع الطرفين لصالحهم، ففي يونيو 2023، أعلنت بوليفيا بجرأة توقيعها اتفاقيات مع الشركة النووية الروسية العملاقة المملوكة للدولة «روساتوم» ومجموعة سيتيك غوان الصينية لاستغلال الترسبات الكبيرة في أراضيها لمعدن الليثيوم، وهو أحد المدخلات الحيوية لصناعة البطاريات ومعدات التقنية النظيفة الأخرى. مرت الصفقات دون أن تثير اهتمامًا يذكر، لكنها توضح استمرار السباق لاستغلال الاحتياطيات الضخمة من المواد بالغة الأهمية في أمريكا اللاتينية، بما في ذلك الليثيوم والنحاس والمعادن النادرة. بل يصل الأمر أحيانًا حتى إلى تعاون الشركات الصينية والغربية، ففي الأرجنتين، تشترك شركتان صينية وكندية في ملكية منجم كاوشاري - أولاروز لتعدين الليثيوم. وهو مشروع استثمار مشترك تبلغ قيمته بليون دولار.

لن يقتصر سباق الشرق والغرب من أجل الحصول على المواد الخام الحيوية على أمريكا اللاتينية. فإندونيسيا (وهي لاعب رئيسي في تعدين النيكل) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (التي تهيمن عالميًا على إنتاج الكوبالت) وتركيا (التي بها أكبر احتياطيات لمادة الجرافيت في العالم) تُموضع نفسها للاستفادة من البحث العالمي عن المواد بالغة الأهمية. فحسب وكالة الطاقة الدولية، ارتفع الإنفاق العالمي على استكشاف هذه المواد بنسبة 50% منذ عام 2021. وتعلم البلدان الغنية بالموارد أنها ستكون قادرة على الفوز بأفضل الصفقات، بما في ذلك الحصول على التقنية وعلى اتفاقيات تجارية مفصلة خصيصًا لها وتمويل ميسر إذا استثمرت في صراع الطرفين.

خامسًا

تلجأ البلدان الصاعدة باطراد إلى الاستفادة من مانحين غير غربيين جدد. في أبريل ومايو، تعرضت ولاية ريو غراندي دو سول في جنوب البرازيل إلى أمطار غزيرة وفيضانات مهلكة أدت إلى نزوح حوالي 700 ألف شخص. مثل هذه الكوارث عادة ما تعقبها موجات من التعهدات الغربية بتقديم الدعم الإنساني وإعادة البناء. لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا فقد أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنهما سيرسلان مبلغًا شحيحًا لا يتعدى مليون دولار لكل منهما. في الأثناء، أعلن بنك التنمية الجديد الذي تدعمه بلدان البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا وبلدان عديدة أخرى) أنه سيحول حزمة مساعدات بقيمة 1.1بليون دولار. دولار على الفور. يُسلِّط مثال البرازيل الضوء على واقع مالي جديد، فبعد عقود من الاعتماد على المؤسسات التي يقودها الغرب، مثل البنك الدولي، تتجه البلدان الصاعدة باطراد نحو مانحين جدد. يُجسِّد الحراك المالي لمجموعة دول البريكس هذا الاتجاه، فمصرفها التنموي لديه سلفًا محفظة ديون بقيمة 33 بليون دولار، وخصصت المجموعة خطوط تبادل للعملات بقيمة 100 بليون دولار للطوارئ. هذا يعني أن بلدان الاقتصادات النامية يمكن أن تكون لديها خيارات أخرى غير اللجوء إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي الأوروبي للحصول على أموال طوارئ، وإلى ذلك، منح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية «الصيني» قروضًا بحوالي 50 بليون دولار منذ تأسيسه في عام 2013.

احتدام التنافس بين المانحين خبر سعيد للبلدان الصاعدة، فهو يعزز قدرتها على «التسوق» وسط مختلف المانحين لتأمين صفقات أفضل، وعلى الرغم من أنه سيكون هناك خاسرون عديدون من التشظي الاقتصادي، إلا أن بلدانًا قليلة أعدت نفسها للاستفادة من التحولات العديدة التي ترتبت عن التنافس الأمريكي الصيني.

أما البلدان الرابحة فهي التي ستتمكن من موضع نفسها كمراكز صناعية وتجارية وتقنية تربط الشرق بالغرب بسبب موقعها الجغرافي وقوتها العاملة المدربة جيدًا وقدرتها على الحفاظ على علاقات جيدة مع كلا الجانبين، وستلحق بها تلك التي تملك احتياطيات كبيرة من المواد الخام بالغة الأهمية أو قادرة على اجتذاب السخاء المالي من الطرفين المتنافسين. لكن في الحقيقة، هنالك عدد قليل فقط من بلدان الاقتصادات الصاعدة التي يُرجَّح أن تستوفي هذه المعايير، مما يوحي بأن تحذيرات صندوق النقد الدولي حول المخاطر الاقتصادية المرتبطة بسيناريوهات فك الارتباط قد يعلو صوتها في السنوات القادمة.

الكاتبة زميل أول سياسات في الاقتصاد الجغرافي بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤلفة كتاب بعنوان «نتيجة عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد مصالح الولايات المتحدة».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة بالغة الأهمیة فک الارتباط هذا التوجه من بلدان بلدان ا

إقرأ أيضاً:

هكذا تقوض منافسة القوى العظمى الاستقرار العالمي

ترجمة: أحمد شافعي -

في عالم يتزايد اصطباغا بالصبغة الهوبزيانية (نسبة إلى توماس هوبز صاحب «اللويثان») ويبدو أنه في طريقه إلى الخروج عن السيطرة، ثمة حاليا قرابة خمسين صراعًا بين دول، وهو أكثر مما شهدناه من صراعات في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن قبل وقت غير بعيد كان قد نشأ إجماع على أهمية الاستجابة المشتركة الفعّالة للاضطرابات سواء اتخذت شكل عنف أو انهيارات كبيرة في النظام العام أو هجرات جماعية أو أزمات إنسانية. وتجسد هذا في تصريحات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في مقدمة «استعراض الدبلوماسية والتنمية الرباعية» لعام 2010، إذ كتبت فيها «إننا سوف نجمع بين الشعوب والأمم متماثلة العقليات لنحل المشكلات الملحة التي نواجهها». وتأكد الزخم الذي اكتسبته تلك الحقبة التوافقية بالهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وهو «تعزيز المجتمعات المسالمة والاحتوائية من أجل التنمية المستدامة، وإتاحة العدالة للجميع، وتكوين مؤسسات فعّالة وخاضعة للمساءلة وشاملة على جميع المستويات».

غير أن هذه المبادرات نادرًا ما أسفرت عن نتائج أفضل. ومثلما قالت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة أمينة محمد عن الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة في مايو: «إننا ننظر في العالم اليوم، فنرى هذه المثل العليا تبتعد يوما بعد يوم».

ومع ذلك، فإن الاعتقاد الراسخ بأن الدول الهشة والفضاءات غير الخاضعة للحكم تشكل تهديدًا للأمن العالمي، وبالتالي تهدد المصالح الوطنية للولايات المتحدة، قد انعكس في تفكير صناع السياسات في الولايات المتحدة بشأن الأمن القومي خلال أغلب العقدين الأولين من هذه الألفية. وقد أدى هذا إلى إجماع دولي دائم نسبيًا قائم على الزعامة الأمريكية، أدى بدوره إلى جهود مستدامة لحل النزاعات، كانت من بينها أجندة الأمم المتحدة الطموح لحفظ السلام. وقد كانت المساحات غير الخاضعة للحكم تعد بمثابة أرض خصبة وملاذ آمن لمن تحدوا النظام الدولي، ومنهم المتمردون والإرهابيون وتجار البشر وتجار المخدرات. ودعم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها السياسات والبرامج الرامية إلى تحقيق السلام والأمن في هذه المناطق.

وبموجب هذه الحسابات الأمنية نفسها، عرضت أجزاء كثيرة من المجتمع الدولي الأوسع نطاقًا دعمها أيضا. فبذل العديد من الشركاء جهودًا مكملة أو موازية لما قادته الولايات المتحدة من جهود. ومن ذلك أن الأمم المتحدة على سبيل المثال كثَّفت جهودها في مجال تحقيق السلام والوساطة وحماية المدنيين. بل إن خصوم الولايات المتحدة لم يعرقلوا تلك الجهود وإن لم يبادروا فيها بأنفسهم. فعلى سبيل المثال، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العديد من القرارات والبيانات الرئاسية التي أيدت مسؤولية حماية المدنيين. وبناء على إجماع الدول الخمس دائمة العضوية بشأن التدخلات الإنسانية التي تأسست في نهاية الحرب الباردة، تضمنت هذه الجهود، كما هو الحال في الصومال والبوسنة، مجموعة أوسع من المهام التي تتجاوز حفظ السلام التقليدي. كما عززت بعض المنظمات الإقليمية متعددة الأطراف، من قبيل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، جهودها للمساعدة في إصلاحات الحكم في الدول السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى وجنوب شرق أوروبا.

الإجماع الدولي المتداعي

تبدو هذه الحقبة الآن وكأنما طواها النسيان. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة، في لهفتها على الإطاحة بالحكومات دونما إمعان التفكير في تحديات الحكم الناتجة عن ذلك، تتحمل مسؤولية كبيرة عن الفوضى الناجمة. زد على ذلك أن ظهور المنافسة المتزايدة بين القوى العظمى من جديد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد أدى إلى تقويض الإجماع العالمي على الحاجة إلى السلام والأمن. وإذا بما كان في يوم من الأيام شبه احتكار لـ«دولة لا غنى عنها» يبدأ في التفتت.

وإذا بالتأثير العملي لتهالك هذا الإجماع الدولي يبدو أكثر وضوحًا في العقد الثاني من الألفية، إذ واجهت الدول الفاشلة أو الهشة مزيجًا سامًا من التحديات التي بدت مستعصية على الحل، ومن تلك التحديات الفقر المدقع، والنزوح القسري، وتغير المناخ، وجائحة كوفيد 19، والمؤسسات منخفضة القدرات. وكثير من تلك الدول، من قبيل أفغانستان وبعض دول إفريقيا في جنوب الصحراء الكبرى، قاومت الجهود الخارجية لبناء مسارات للحكم الفعّال. ولم تتمكن الاستجابات الدولية الفاترة وقصيرة النفس من تحقيق حلول دائمة للصراعات عميقة الجذور. وكما ذكر مؤشر الدول الهشة التابع لصندوق السلام لعام 2018، «... يستمر الصراع في الاشتعال... وتستمر علامات الاضطراب المستمر والصراع المحتمل في العديد من أجزاء العالم». وقد أشار البنك الدولي في مراجعته العامة الصادرة بعنوان (الهشاشة والصراع والعنف) في مايو 2024 إلى أنه «بحلول عام 2030، سيعيش ما يقرب من 60% من فقراء العالم في بلاد متضررة من الهشاشة والصراع والعنف».

تجدد ظهور منافسات القوى العظمى

مع احتدام تنافس القوى العظمى، كانت الاضطرابات المدنية في ليبيا نقطة محورية، وخاصة بالنسبة لعمل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فالدعم الدولي المتضافر للعمل على كبح جماح الزعيم الليبي معمر القذافي أعقبته عملية حلف شمال الأطلسي التي بدت بأثر رجعي أكثر عدوانية وتدخلا مما كان يمكن أن تساق موسكو وبكين وغيرهما إلى تصديقه. وقد توسع تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011، الذي استند إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دفعت به المملكة المتحدة وفرنسا وباركته واشنطن ضمنيا ـ حتى أصبح عملية أكبر حجما، أسفرت عن تغيير النظام، وفوضى مستمرة، وحرب أهلية دولية، مما جعل موسكو تشعر أنها تعرضت للتضليل.

شجعت تجربة ليبيا الصين الصاعدة وروسيا الجريئة على تحدي ما بدا لهما نظاما دوليا متشرذما تهيمن عليه الولايات المتحدة. كان نهج موسكو في العمل الدولي المشترك في سوريا في عام 2012 مختلفا بشكل ملحوظ عن نهجها في ليبيا -حيث عرقلت التعاون الدولي الفعّال مع دعمها لبشار الأسد. ولقد أثر هذا على الجهود المشتركة، حيث فشلت الجهود الدولية الفعّالة والمستدامة للاستجابة للأزمات في دول من قبيل السودان وجنوب السودان وهايتي على الرغم من التهديدات الخطيرة العابرة للحدود من قبيل الإرهاب وتدفقات اللاجئين.

خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تمكنت هذه الاختلافات المتزايدة بين القوى العظمى بشأن تعزيز السلام والأمن من التعايش مع الأشكال التقليدية للتعاون بين القوى العظمى بشأن بعض المخاوف الأمنية الرئيسية. فعلى سبيل المثال، دأبت روسيا والصين على الموافقة على التمديدات السنوية لبعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، إذ رأتا، وبخاصة الصين، أنها يمكن أن تخدم أهدافهما ومطامحهما العالمية. ومع ذلك، ازدادت الدول الخمس الدائمة العضوية استعمالا لحق النقض في منع اتخاذ موقف دولي استباقي تجاه الحكم وحقوق الإنسان. وسعت الصين إلى إعلاء مصلحتها الوطنية الأضيق، وغير الحميدة دائما، من خلال آليات موازية بديلة، من قبيل مبادرة الحزام والطريق، مما أدى إلى ارتباك، وبخاصة في الدول الإفريقية، وأدى في بعض الأحيان إلى طريق مسدود. كما أدت السياسة الحمائية الأمريكية إلى تفاقم هذه النزعة، مما جعل الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول العالم.

وقد صاحب ذلك تزايد الوعي في موسكو وبكين وبعض العواصم الأخرى بأن الأوضاع الهشة أو الفضاءات «ذات الحكم المنخفض»، بدلا من أن تشكل تهديدا للأمن القومي، تتيح فرصة لتوسيع النفوذ وإضعاف الإجماع الدولي على الاستقرار بقيادة الغرب. فبالنسبة لموسكو، اتخذ ذلك الوعي شكل الدعم الأكثر عدوانية وعلنية، وغالبا من خلال وكلاء، لتكون أكثر حزما في تحدي الجهود الدولية المتضافرة لدعم المؤسسات الحاكمة في أماكن بعيدة من قبيل سوريا وليبيا وغرب إفريقيا، حيث أدى تورط مجموعة فاجنر إلى تحول ملحوظ في الديناميكية السياسية الإقليمية. وانتهجت الصين نهجا أكثر دهاء من خلال توسيع استثمارات البنية الأساسية في بعض البلاد التي تواجه السلطات الحاكمة فيها مشكلات مع الشرعية العامة والمصداقية. وغالبا ما تكون الدول العميلة، الخاضعة لأنظمة أكثر استبدادا، مستعدة لرفض الجهود واسعة النطاق لتقليل الصراع والاضطراب ومقبلة على الإفراط في استخراج الموارد الطبيعية بما يعود بالنفع على فئة جديدة من النخب الحاكمة.

يظهر نجاح روسيا الأخير في الاستفادة من هذه الديناميكية واضحا في عدد من الأماكن، وأبرزها غرب إفريقيا، حيث طولبت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بمغادرة مالي (بعد رحيل فرنسا في عام 2022). وفي الوقت نفسه، وافقت الولايات المتحدة أخيرا على طلبات نيامي بإغلاق قاعدتها العسكرية في النيجر. وفي كلتا الحالتين، كانت القوات الروسية بالوكالة، ومنها مجموعة فاجنر، حاضرة في كل مكان ومن المتوقع أن تجني ثمار زيادة الاضطراب وانخفاض الرقابة. في الوقت نفسه، لم يوافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على الرغم من تمديد معظم بعثات حفظ السلام الحالية، على أي بعثات جديدة منذ عام 2017، ويرجع ذلك جزئيا إلى إحجام روسيا عن مواجهة القوى والحركات التي تقوض شرعية الهيئات والمؤسسات الحاكمة القائمة. وقد دفعت موسكو ثمن نشاطها العسكري الجديد، إذ أسفر القتال في مالي في أواخر يوليو 2024 عن مقتل خمسين من الروس.

غيرت الصين مسارها، باستخدام القوة الاقتصادية الناعمة في الجنوب العالمي من خلال التجارة ومبادرة الحزام والطريق لتقديم رؤية بديلة للنظام العالمي. والنية المعلنة لبكين من ذلك هي المساعدة في تحديث القارة وتعزيز التعاون «المربح للجانبين»، برغم أن كثيرا من جهود الصين تركز على استخراج المعادن الحيوية للصناعة الصينية. وقد استشهد المنتدى الاقتصادي العالمي، في تقرير حديث، باستثمار صيني تراكمي يبلغ إجمالا تريليون دولار في مائتي مشروع عبر مائة وخمسين دولة. حيث إن الديون المتزايدة التي تراكمت على الدول الإفريقية للصين، إلى جانب الديون الناجمة عن زيادة الإنفاق الصحي لمكافحة الوباء، تقيد الآن بشدة التمويل العام لأولويات أخرى وتؤثر سلبا على شرعية تلك الحكومات.

عززت هذه النسخة الأحدث من المشاركة الروسية والصينية في الجنوب العالمي خلال العقد الماضي علاقة الراعي بالعميل، وضخَّم نزعات عدم المساواة القائمة في الشمال العالمي. وليس الاضطراب المتزايد وهشاشة بلاد الجنوب العالمي شديد الفقر إلا تكاليف لازمة، إن لم تكن سمة صريحة، لهذه النزعة. وتعتقد دول الجنوب العالمي الفقيرة التي شهدت تراجعا في نمو حصتها الضئيلة من الدخل العالمي أن الغرب عاجز أو عازف عن العمل من أجل تغيير هذه النزعات وأنها تسعى إلى تحقيق مصالحها من خلال التعامل مع الصين وروسيا.

ولكن موسكو وبكين تدركان الآن التكاليف المترتبة على نشر الفوضى والانقسام. فهما قد تبتهجان بنظام دولي لم تعد الولايات المتحدة تقوده، ولكنهما تدركان أيضا أن الفوضى التي قد تترتب على ذلك قد تفرض ثمنا باهظا على جميع اللاعبين من خلال تعزيز الاضطراب وانعدام اليقين. فقد أدركت زيمبابوي على سبيل المثال في عام 2014 أن الصين استغلت النبذ الغربي في العلاقات التجارية لتشكيل علاقة تجارية شهدت بيع السلع الصينية في مقابل موارد زراعية ومعدنية. وعلاوة على ذلك، سعى ساسة أفارقة، كما في كينيا وزيمبابوي، إلى استخدام هذا ميزة انتخابية، بأن أداروا حملاتهم السياسية ضد بكين.

دور واشنطن

يجب أن تستخدم واشنطن نفوذها لتحفيز المجتمع الدولي على تجديد الاهتمام بالدول الفاشلة من خلال تأطيرها بوصفها تهديدا دائما للأمن القومي. ولكن الولايات المتحدة لم تكن محصنة ضد تنامي الهشاشة العالمية، الأمر الذي أدى إلى تآكل الإجماع السياسي المحلي بشأن السياسات التي ينبغي اتباعها. ومع ذلك، فإن الحفاظ على النفوذ العالمي للولايات المتحدة على المدى الطويل أمر بالغ الأهمية في تحقيق نتائج ينبغي أن تقاس بالعقود لا بالسنوات. ولا ينبغي للصين وروسيا وغيرهما من خصوم الولايات المتحدة أن تقبل استمرار هيمنة الولايات المتحدة قبولا أعمى. ومع ذلك، فإن النهج الصفري الذي تغذيه منافسة القوى العظمى يمكن أن يقوض التعاون الدولي لإدارة المخاطر المشتركة مثل الإرهاب أو تدفقات المهاجرين الجديدة التي يمكن أن تعرض الاستقرار السياسي والاقتصادي للخطر.

أندرو هايد كاتب المقال هو مدير وزميل أول في برامج الدبلوماسية المالية المتعددة الأطراف وتعزيز السلام في مركز ستيمسون.

عن ناشونال إنتريست

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة تصادر طائرة الرئيس الفنزويلي من جمهورية الدومينيكان.. وتنقلها إلى فلوريدا
  • أسعار النفط تواصل خسائرها وسط ضعف الطلب في الصين والولايات المتحدة واحتمالات زيادة إمدادات أوبك بلس
  • هكذا تقوض منافسة القوى العظمى الاستقرار العالمي
  • السجن لرجل هرّب فسيفساء هرقل من سوريا إلى الولايات المتحدة
  • الصين تدعو الاتحاد الأوروبي للتحلي بالموضوعية والحذر في تصريحاته بشأن بحر الصين الجنوبي
  • لأول مرة المحيط الهادئ بلا حاملات طائرات أمريكية الولايات المتحدة تقرر التخلي عن تواجدها في البحر الأحمر
  • كامالا هاريس تخطط لأكبر حملة إعلانية رقمية في تاريخ الولايات المتحدة
  • 5 مشاريع صينية عملاقة في أفريقيا قد تقلب الموازين وتغير الأحداث في عدة دولة
  • «المستوردين»: الصين أكبر شريك تجاري لمصر خلال الـ10 سنوات الماضية
  • قطاع الطاقة الشمسية في الصين يواجه تحديات كبيرة