كان صلاح عبدالصبور يقول إن الموت لا يقهره إلا الحجر والكلمة، وأن الكلمة أطول عمراً من الحجر وأصلب على الزمن، وأقدر على مغالبته. وقد يأكل الزمن المتطاول من الأهرامات حجراً فحجراً، ولكنه لن يسقط من كتاب الموتى كلمة واحدة. أما الدكتور خالد منتصر فيقول لنا إن الكتابة والكلمة هى أمضى سلاح لمواجهة الذاكرة المراوغة والتصدى لبخلها، والإمساك بتفاصيلها، قبل أن تذوى فى سراديب النسيان.
عاش خالد، سمى خالد بن الوليد، وخالد جمال عبدالناصر كما أخبره والده، طفولته وصباه فى قرية الشعراء فى دمياط. محافظة أسطوات صناع الأثاث المهرة الموهببين على امتداد تاريخها، قبل أن تضربها فى مقتل هزيمة يونيو، وتشيعها إلى مثواها الأخير سياسات الانفتاح وتلقى بتفردها وبحرفييها وسمعتها الدولية الناصعة، فى براثن محتكرى الاستيراد.
مأساتان كبيرتان شكلتا طفولته وطبعتا روحه بحزن مقيم، موت أخته الصغيرة الوحيدة غرقاً فى الترعة، وموت أمه الشابة بمرض القلب، ليصبح يتيماً وحيداً وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، لاسيما بعد الزواج الثانى لأبيه الموظف الكبير فى أبحاث التزييف والتزوير بمصلحة الطب الشرعى بوزارة العدل، وسفره للعمل كخبير فى مجاله إلى ليبيا. وفى رعاية عمه وخاله فى قرية الشعراء، التى عشق كل تفاصيلها ونجح فى التعامل مع مناخها الاجتماعى المحافظ، صارت القراءة ملاذاً للونس ورفيقاً لوحدته وساحة لتفوقه الدراسى. وأنقذته صدفة عابرة من الإصابة بمرض البهارسيا عندما فشل فى تعلم السباحة. وساعدته الوحدة على اكتساب فضيلة التأمل فى الأمراض الاجتماعية التى أسفرت عن ظواهر التدين الشكلى التى أشاعها التيار الدينى، وتم ربطها بسيل من الخرافات، بينما هدفها النهائى هو السعى للهيمنة، للمتاجرة وجنى الثروات.
يقدم الكتاب تجربة المؤلف الفريدة بكل ما رافقها من شقاء وألم ومحبة وصدق، وهو بجانب ذلك يروى سيرة للأماكن التى عاش فيها وارتادها وهو يحاور بعين الدهشة ماضيه، ويتساءل بقلقل حاضره، وعينه شاخصة نحو المستقبل. من القرية إلى الجامعة التى سيطرت عليها الجماعة الإسلامية, إلى كلية الطب التى غرقت فى التقييمات العبثية للترقى الوظيفى، وباتت تقييمات تحفل بالأمزجة والمجاملات والفساد. وتدنت نحو المشاعر الطائفية، حين حظرت على الطلاب المسيحيين الالتحاق ببعض أقسامها.
يكشف الكتاب عن مفاتيح شخصية مؤلفه العنيدة، التى تؤكد أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى ما يريد بقوة إرادته. ففى طفولته يتمسك بالبقاء فى مصر وعدم السفر مع والده إلى ليبيا وينجح فى مسعاه. وفى شبابه يلتحق بكلية الطب، ربما تعويضاً لفشل والده فى الالتحق بها، رغم عشقه للكتابة وللعمل الصحفى، لكنه بالمثابرة والتراكم الثقافى والمعرفى ينجح فى الجمع بين الحسنيين: المهنة والهواية. وإذ ينهى خالد منتصر كتابه، يعمد إلى استثارة وحب استطلاعنا بالإيحاء إلينا بجزء آخر لتلك السيرة، ليدخلنا فى شغف الانتظار.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على فكرة خلف خطوط الذاكرة أمينة النقاش الأهرامات مجلة صباح الخير
إقرأ أيضاً:
الشهداء فى الذاكرة.. والدة الشهيد وائل كمال: وصى أخوه يدفنه مع منسى
في قلب كل شهيد، قصة بطولة لا تموت، وتضحية نقشها التاريخ بحروف من نور، في هذه السلسلة، نقترب أكثر من أسر شهداء الشرطة والجيش، نستمع إلى حكاياتهم، نستكشف تفاصيل حياتهم، ونرصد لحظات الفخر والألم التي عاشوها بعد فراق أحبائهم.
هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم دفاعًا عن الوطن، لم يرحلوا عن ذاكرة الوطن ولا عن قلوب ذويهم من خلال لقاءات مؤثرة، نروي كيف صمدت عائلاتهم، وكيف تحولت دموع الفقد إلى وسام شرف يحملونه بكل اعتزاز.
هذه ليست مجرد حكايات، بل رسائل وفاء وتقدير لمن بذلوا أرواحهم ليحيا الوطن.
" مكنش قايل ليا أنه مش بيخدم في سيناء، وبعد أتفجئت أنه كان من ضمن كتيبة الرجالة اللى كانوا مع منسى الأسطورة، ووصى أخوه وأخو منسى أنه يدفن معاه "، بهذه الكلمات بدأت والدة الشهيد الرائد وائل كمال حديثها عنه، مضيفة أن نجلها الشهيد لقى استشهاده أثناء قيامه بعملية مداهة لمجموعة من العناصر التكفيرية في سيناء، موضحة أنه أثناء قيامه بالتعامل مع هؤلاء التكفريين أصيب إصابة مباشرة لقى أستشهاده على اثرها.
وتضيف والدة الشهيد، أنها تلقت خبر أستشهاد نجلها من شقيقه، مضيفة أن الشهيد كان ضمن كتيبة الأبطال 103 صاعقة كتيبة العقيد أركان حرب " منسى " والذى أستشهد هو الأخر في سيناء " كمين البرس "، موضحة أن نجلها كان يقوم بعملية تمشيط للمنطقة بعد العملية الإرهابية الفاشلة التي استهدفت مطار العريش، لافتة إلى أن الشهيد أثناء عملية التمشيط هو وقواته، رصد مجموعة من التكفيرين أثناء محاولتهم الهرب بدراجات بخارية، فقام بملاحقتهم وأثناء مطاردتهم والتعامل معهم أصيب إصابة مباشرة أستشهد على أثرها.
ووجهت والدة الشهيد رسالة لنجلها متمنية أن يكون في أعلى الدرجات في الجنة كما وعد ألله تعالى الشهداء، كما وجهت رسالة لجميع الشهداء قائلة " ستظلون في القلب إلى أن نلقاكم ".
مشاركة