كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي التوليدي طريقة كتابة الأوراق العلمية؟
تاريخ النشر: 19th, July 2024 GMT
على مدى السنوات العشر الماضية، ظهرت مجموعة واسعة من الكلمات والعبارات من الغموض إلى الاستخدام الشائع في العلوم، وهي كلمات تعكس التغييرات التي يشهدها البحث العلمي والأحداث الأوسع داخل العلم والمجتمع.
تظهر هذه التغييرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي في الأوراق والمراجعات والمقالات التي ينتجها العلماء باستمرار، وهذا يثير سؤالاً مثيرا للاهتمام حول تأثير الذكاء الاصطناعي على العلوم.
منذ إصدار "شات جي بي تي" رسميا يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أثر على العديد من جوانب حياتنا، ولم تكن الكتابة الأكاديمية والبحوث العلمية محصنة.
وتمكن العلماء منذ ذلك الحين من استخدام نماذج اللغة الكبيرة "إل إل إم إس" (LLMs) -وهي أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على فهم وتوليد لغة بشرية من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات النصية- لمراجعة جميع الأوراق العلمية التي ينتجونها وتحريرها وكتابتها أحيانًا من الصفر، ولكن مدى الاستخدام الفعلي لهذا النوع من الذكاء الاصطناعي لا يزال غير معروف.
تؤثر أنظمة الذكاء الاصطناعي على الطريقة التي يتم بها إجراء العلوم (شترستوك)
في الواقع، استكشف عدد كبير من الأبحاث بالفعل مزايا وعيوب نماذج اللغات الكبيرة، وحاول العديد من الباحثين رسم خريطة لتطور العلوم من خلال التغييرات في اللغة التي ينتجونها.
آخر هذه المحاولات قام بها عالم الأبحاث ديمتري كوباك وزملاؤه في معهد هيرتي للذكاء الاصطناعي في مجال صحة الدماغ في توبنغن بألمانيا.
وجد كوباك وزملاؤه طريقة لقياس تأثير أنظمة الذكاء الاصطناعي على الأدبيات العلمية أو العلوم المبسطة منذ عام 2022، وقارنوها بتأثير الأحداث الرئيسية الأخرى في العلوم.
بدأ كوباك وزملاؤه بتنزيل الخلاصات من أكثر من 14 مليون ورقة بحثية منشورة على قاعدة بيانات الطب الحيوي "بابميد" (PubMed) منذ عام 2010، ثم أزالوا بعد ذلك الكلمات والعبارات الشائعة التي لا علاقة لها بكتابة المؤلفين من قاعدة البيانات، مثل "حقوق الطبع والنشر" أو "كيفية الاستشهاد بهذه المقالة".
بعد ذلك، حسبوا عدد المرات التي ظهرت فيها كل كلمة أطول من ثلاثة أحرف كل عام. وأخيرًا، نظروا إلى الكلمات الـ800 الأكثر شعبية، وكيف يتغير تواترها كل عام؟ وكيف تؤثر ليس على الطريقة التي يكتب بها العلماء فحسب، بل على الطريقة التي يتم بها إجراء العلوم؟
تغييرات مفاجئةكشفت النتائج على الفور عن بعض الاتجاهات الواضحة في العلوم. على سبيل المثال، بلغ تكرار كلمة "إيبولا" (مرض يصيب الإنسان بسبب عدوى فيروسية) ذروته في عام 2015، وكلمة "زيكا" (عدوى فيروسية تنتقل عن طريق البعوض) في عام 2017.
حدث أحد أكبر التغييرات في عام 2020 مع زيادة هائلة في استخدام كلمات مثل الإغلاق والوباء والجهاز التنفسي و"ريمديسيفير" (دواء جديد مضاد للفيروسات) أثناء تفشي جائحة كورونا، وهو حدث معروف على نطاق واسع أنه كان له أحد أكبر التأثيرات على النشر العلمي والمنشآت والمؤسسات البحثية في التاريخ.
وللمفاجأة، حدث تغيير أكبر في عام 2024 مع زيادة في كلمات مثل "حاسم ومهم ومحتمل". ومن الغريب أن هذه الكلمات ليست مرتبطة بالمحتوى العلمي للورقة البحثية، بل بأسلوب الكتابة.
في الواقع، يشير الباحثون إلى أن هذه هي بالضبط نوعية الكلمات التي تفضلها نماذج اللغة الكبيرة المدرَّبة مسبقًا على كميات هائلة من البيانات، والتي يقولون إنها "تغير الخطاب العلمي على نطاق غير مسبوق".
ويقول كوباك وزملاؤه إن الزيادة غير المسبوقة في الكلمات النمطية الزائدة في عام 2024 تسمح باستخدامها دلالة على استخدام "شات جي بي تي"، ويشيرون إلى أن وتيرة تكرار مئات الكلمات زادت بشكل مفاجئ بعد أن أصبح "شات جي بي تي" متاحًا ومستخدمًا على نطاق واسع جدًا حيث وصل إلى 100 مليون مستخدم نشط غير مسبوق بعد 3 أشهر من إصداره، ويعتبر أحد المعالم الرئيسية لنماذج اللغة إلى جانب "جي بي تي-4".
أوراق بحثية بالذكاء الاصطناعيوضع كوباك وزملاؤه حدًا أدنى لعدد الأوراق البحثية التي تأثرت بنماذج اللغة الكبيرة. تشير البيانات إلى أن ما لا يقل عن 10% من الأوراق البحثية المنشورة على موقع "بابميد" الطبي للأبحاث في عام 2024 قد تأثرت بهذه الطريقة.
وخلص الباحثون إلى أنه "مع فهرسة 1.5 مليون ورقة بحثية حاليًا في موقع بابميد سنويًا، فإن هذا يعني أن نماذج اللغة الكبيرة تساعد في كتابة ما لا يقل عن 150 ألف ورقة بحثية سنويًا".
تساعد نماذج اللغة الكبيرة في كتابة آلاف الأوراق البحثية سنويا (شترستوك)
لاحظ الفريق أن مساعدة الذكاء الاصطناعي كانت أكثر شيوعًا في الأبحاث المقدمة من البلدان التي لم تكن اللغة الإنجليزية هي لغتها الأولى، والتي غالبًا ما تتم معاقبة باحثيها لأن أوراقهم تبدو أقل احترافية من أقرانهم الذين يكتبون بالإنجليزية.
قد يشير ذلك إلى أن غير المتحدثين بالإنجليزية يستخدمون أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحقيق تكافؤ الفرص في الكتابة العلمية، أو أن المتحدثين باللغة الإنجليزية يستخدمونها بالقدر نفسه لكنهم أكثر مهارة في إزالة تأثيرها من أوراقهم البحثية قبل النشر، وفي كلتا الحالتين، يبدو أن استخدام نماذج اللغة الكبيرة منتشر على نطاق واسع.
وإذا كان النشر العلمي يؤخذ مثالا على تأثير الذكاء الاصطناعي، فمن المحتمل أن تواجه مجالات النشر الأخرى القائمة على العلوم الاجتماعية والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تحديات أيضًا، ويكون لها نتائج مماثلة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الذکاء الاصطناعی على نطاق جی بی تی فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
مترجمون يناقشون مستقبل الترجمة في عصر الذكاء الاصطناعي
في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، أصبحت الترجمة عبر الذكاء الاصطناعي موضوعا يثير جدلا واسعا بين المتخصصين. بينما يُنظر إلى هذه التقنيات كأدوات تُسهّل العمل وتسهم في تسريع العملية، يبرز التساؤل: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينقل الروح الإنسانية للنصوص كما يفعل المترجم البشري؟
في هذا الاستطلاع، نتحدث مع مجموعة من المترجمين من مختلف الخلفيات الثقافية حول رؤيتهم لهذه القضية. يناقشون معنا طبيعة العلاقة بين النص الأصلي والمترجم، وكيفية تفاعل الذكاء الاصطناعي مع هذا الدور. هل الذكاء الاصطناعي وسيلة لتطوير الترجمة أم تهديد لإنسانيتها؟ وهل سيظل الإنسان قادرًا على الحفاظ على مكانته في هذا المجال؟
بين دفاعهم عن قيمة الإبداع البشري وإدراكهم لأهمية التكنولوجيا كوسيلة مساعدة، يقدّم لنا مترجمون ومختصون رؤى مؤثرة تُبرز تحديات الحاضر وآفاق المستقبل.
بين التهديد والاستفادة
بداية يستعرض المترجم النيجيري الأستاذ الدكتور مشهود محمود جمبا (الفائز بجائزة حمد للترجمة عن ترجمته من لغة اليوربا إلى اللغة العربية)، رؤيته حول حدود الذكاء الاصطناعي في الترجمة فيقول: في الحقيقة، لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بخصوصياته وقدراته الفريدة، العقل البشري يتميز بالانفعال، والشعور، والطبيعة الإنسانية التي تفتقر إليها الآلات. الذكاء الاصطناعي، مهما تطور، يظل أداة من صنع الإنسان، ولن يصل إلى مستوى الإبداع الإنساني الطبيعي الذي أودعه الله فينا.
ويشير مشهود محمود إلى أن الذكاء الاصطناعي يُعَد مجرد أداة لتسريع العمليات الحسابية والمعالجة اللغوية، لكنه يفتقر إلى العمق الإنساني، حيث يقول: الذكاء الاصطناعي هو بوت تُدخل إليه البيانات، وهو يُعيدها إليك بسرعة، الحصيلة سريعة، لكنها لا تضاهي ما يمكن أن يقدمه الإنسان بعقله وانفعالاته، الذكاء الاصطناعي قد يهدد دور الإنسان لفترة قصيرة، لكنه يظل محدودًا بطبيعته كمنتج بشري، وبالتالي لن يستطيع أن يكون بديلًا حقيقيًّا.
وعند الحديث عن تأثير التكنولوجيا على المترجم، يضيف «جمبا»: مثلما جاء الحاسوب في وقت مضى وأحدث تغييرًا، الذكاء الاصطناعي سيأخذ مكانه في مرحلة ما. لكن، كما لم يستطع الحاسوب أن يستبدل الإنسان بالكامل، كذلك الذكاء الاصطناعي. التكنولوجيا قد تؤثر إلى حد ما، لكنها لن تلغي الدور البشري. المترجم الحقيقي، بذكائه الطبيعي، سيظل أساسيًّا، وسيبقى هو من يدير هذه الأدوات ويستفيد منها.
ويرى «جمبا» أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مفيدة إذا تم استخدامه بحكمة، قائلًا: اليوم نرى كيف يستفيد الإنسان من أدوات مثل محركات البحث وجوجل، وكذلك يمكنه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي. ولكن، هذه الأدوات تظل ذات فوائد محدودة. الإنسان، بطبيعته وقدرته على الإبداع والانفعال، سيظل متفوقًا، التكنولوجيا الحديثة تفتقر إلى هذه الانفعالات، ولهذا لن تتمكن من أخذ مكان الإنسان بشكل كامل. الإنسان سيبقى دائمًا هو المبدع، والمتحكم، والقائد».
ويختم المترجم النيجيري الأستاذ الدكتور مشهود محمود جمبا حديثه بتأكيده على أن الذكاء الاصطناعي سيظل تحت سيطرة الإنسان، قائلا: الإنسان هو من يصنع الذكاء الاصطناعي، وبالتالي سيبقى دائمًا تحت إمرته وإدارته، فمهما تطورت التكنولوجيا، فإنها تبقى أداة لا يمكن أن تتجاوز حدودها كمجرد صناعة بشرية.
أبعاد الترجمة
وحول رؤيته للعلاقة المعقدة بين المترجم والنص الأصلي يقول الباحث الكويتي الدكتور عثمان الصفي أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت: عندما نتحدث عن المترجم، علينا أن نبدأ من نقطة أساسية، وهي كونه قارئًا للنص الأصلي قبل أن يكون مترجمًا. هذه الخطوة (القراءة) هي في حد ذاتها فعل مهم للغاية. النص لا يتفاعل فقط مع القارئ وكأنه عنصر جامد، بل إن القارئ يشارك في عملية بناء النص بشكل أو بآخر. إذا رجعنا إلى النظرية البنيوية، نجد أن القارئ ليس منفعلًا بل فاعل، وهناك مفاهيم مثل ‹موت المؤلف› التي تدعم هذه الفكرة. بمعنى آخر، القارئ، أثناء قراءته للنص، يُدخل إليه ثقافته وفهمه الخاص وتجربته الحياتية، ليعيد معالجته على مستوى شخصي، وهذا الدور يتعاظم عندما يتحول القارئ إلى مترجم. المترجم هنا لا ينقل النص فقط، بل يُعيد تشكيله بما يتناسب مع اللغة والثقافة التي يترجم إليها. النص الأصلي يتأثر، لا محالة، بعقل المترجم وثقافته وفهمه الخاص. هذا التأثير ليس عيبًا، بل هو جزء من جوهر الترجمة. في النهاية، النص المترجم يصبح مزيجًا بين اللغة الأصلية واللغة المستهدفة، وبين الفهم الثقافي للكاتب الأصلي والفهم الثقافي للمترجم، وهنا تظهر نقطة في غاية الأهمية: لا يمكن للترجمة أن تكون مجرد فعل آلي. صحيح أن الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم قادرًا على ترجمة النصوص بطريقة حرفية إلى حد كبير، لكنه يفتقر إلى تلك اللمسة الإنسانية التي تتطلبها عملية الترجمة الحقيقية. الذكاء الاصطناعي يعمل على مستوى الكلمات والمعاني الحرفية، ولكنه لا يمتلك الأدوات العقلية أو العاطفية التي تمكنه من إسقاط النص الأصلي على اللغة المستهدفة بشكل يعكس جميع أبعاده. الترجمة عملية معقدة تحتاج إلى إنسان يمتلك ثقافة وخبرة وحسًا لغويًّا عميقًا.
ويضيف «الصفي»: إذا نظرنا إلى التخصصات المختلفة في الترجمة، نجد أن الفرق بين الترجمة البشرية والترجمة بالذكاء الاصطناعي يبرز بوضوح في بعض المجالات دون غيرها. في المجالات التقنية والعلمية، حيث النصوص عادةً مباشرة وموضوعية، قد يكون من الصعب أحيانًا التمييز بين ترجمة الإنسان وترجمة الآلة. لكن الوضع مختلف تمامًا في العلوم الإنسانية والفنون. هذه المجالات تحتاج إلى تفاعل عاطفي وروحي مع النصوص، وهو أمر لا يمكن للآلة أن تقوم به... فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى ترجمة الأفلام أو النصوص الأدبية، سنجد أن النصوص في هذه المجالات تحتوي على تفاصيل إنسانية دقيقة، مثل المشاعر والرمزية الثقافية واللغة التصويرية. هذه الجوانب لا يمكن للذكاء الاصطناعي معالجتها بنفس العمق الذي يقدمه المترجم البشري. الترجمة هنا ليست مجرد نقل للمعنى، بل هي نقل للروح التي تقف وراء النص الأصلي.
وفي الختام يؤكد الدكتور عثمان الصفي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت أن الذكاء الاصطناعي سيظل متأخرًا في التعامل مع النصوص الإنسانية والفنية ويقول: هذه النصوص تتطلب مستويات متعددة من الفهم والمعالجة، وهي أمور تتصل بشكل مباشر بروح الإنسان وتجربته الفردية. الذكاء الاصطناعي قد يُسهم في تسهيل بعض جوانب الترجمة، لكنه لن يستطيع أبدًا أن يحل محل الإنسان عندما يتعلق الأمر بالنصوص التي تحتاج إلى لمسة إنسانية حقيقية.
تحديات مستقبلية
من جانبه يقول المترجم المغربي الدكتور الحسين بنوهاشم (الفائز مؤخرا بالمركز الثاني في جائزة حمد للترجمة عن ترجمته من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، كتاب «الإمبراطورية الخطابية» لشاييم بيرلمان): لا شك أن الذكاء الاصطناعي يقدم أدوات مفيدة يمكن أن تساهم في عملية الترجمة، ولكن لا يمكن بأي حال أن تحل هذه الأدوات محل الإنسان في الترجمة؛ فالنصوص المترجمة بواسطة الذكاء الاصطناعي، برأيي، تفتقر إلى البُعد الإنساني الذي يُضيفه المترجم من خلال فهمه العميق للنص، وتفاعله معه على مستوى عاطفي وثقافي، ولكني في المقابل لا أرفض استخدام الذكاء الاصطناعي كوسيلة مساعدة، ولكن لا ينبغي أن يكون هو البديل. الترجمة ليست مجرد نقل للمعاني، بل هي عملية إنسانية تحتاج إلى مفسر يضيف روحه وفهمه للنص، وهذا ما لا يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت دقته.
وحول المخاطر التي قد يسببها الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، عبّر «بنوهاشم» عن قلقه قائلا: نعم، هناك مخاطر حقيقية، والمستقبل قد يحمل توجهًا يجعل المترجمين مجرد أشخاص يعتمدون على التكنولوجيا فقط، وقد يتراجع دورهم الأساسي في العمل. السؤال هنا: من الذي يملك النص؟ من هو صاحب الترجمة؟ إذا كان النص مترجمًا بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهل يمكن نسبه إلى الإنسان؟ هذا يطرح إشكالية أخلاقية ومهنية كبيرة.
ويضيف الحسين بنوهاشم أن المترجم يجب أن يبقى عنصرًا أساسيًّا في عملية الترجمة، مهما تطورت أدوات الذكاء الاصطناعي، فأنا أؤمن بأن الدور الحاسم ينبغي أن يكون دائمًا للمترجم البشري، الذكاء الاصطناعي قد يُستعان به لتحسين الكفاءة وسرعة العمل، لكنه لا يمكن أن يعوض المترجم بالكامل، علينا أن نحافظ على هذا التوازن، بحيث تبقى إنسانية النصوص محفوظة ولا تُختزل في معالجة تقنية جافة.
ويختتم المترجم المغربي الدكتور الحسين بنوهاشم حديثه بالتأكيد على أهمية الترجمة كفعل إنساني حيث يقول: الترجمة ليست مجرد كلمات تُنقل من لغة إلى أخرى؛ إنها تعبير عن الروح والثقافة والإنسانية، فالنصوص بحاجة إلى لمسة المترجم، إلى رؤيته وخبرته، إلى حسه الخاص الذي لا يمكن للآلة أن تمتلكه.
وسيلة لا غاية
عن أهمية تقدير المترجمين وتحدياتهم في ظل التطورات التكنولوجية قال المترجم المغربي الدكتور إلياس أمحرار (الفائز بالمركز الثالث في فئة الترجمة من العربية إلى الفرنسية عن كتاب لأبو بكر ابن العربي): عند الحديث عن التطورات المتسارعة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فإن هذه الأدوات يمكن أن تكون مفيدة إذا استُخدمت بحكمة؛ فالذكاء الاصطناعي وسيلة وليس غاية.. فالطريقة التي نتعامل بها مع هذه التكنولوجيا هي ما يحدد تأثيرها، فإذا استخدمناها كأداة صناعية تُعيننا وتُسهل علينا بعض الجوانب، فهذا أمر جيد، لكن إذا اعتمدنا عليها اعتمادًا كليًّا، فقد يُشكل ذلك خطرًا حقيقيًّا، خاصةً على المعجم العربي؛ فالاقتصار على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تكرار نفس الكلمات والمفردات، مما يُفقّر لغتنا بمرور الوقت».
«أمحرار» يؤكد أن المترجم عليه دور محوري في تحسين أدوات الذكاء الاصطناعي من خلال تزويدها بالمعلومات اللازمة.. يوضح قائلًا: الذكاء الاصطناعي أشبه بدابة تتغذى مما نمنحها، إذا أطعمتها محتوى جيدًا ودقيقًا، ستصبح أكثر كفاءة ودقة، وعلى المترجم أن يساهم في تدريب هذه الأدوات وإثرائها بالمعلومات الصحيحة، لضمان أنها تُنتج محتوى ذا جودة عالية.
وحول الخشية من أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المترجمين، أجاب إلياس أمحرار: العقل البشري هو شيء فريد وجميل.. الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة فعالة، لكنه لا يمكن أن يحل محل الإنسان، فالمترجم هو العقل الذي يُضيف للترجمة روحها ومعناها العميق.. نعم التقنية يمكن أن تساعد، لكنها لا تستطيع أن تحل محل الإبداع الإنساني.
ويختتم المترجم المغربي إلياس أمحرار حديثه بالتأكيد على أهمية الموازنة بين التكنولوجيا ودور المترجم الإنساني، قائلا: أنا مع استخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن بدقة.. على المترجم أن يبقى في الصدارة، وأن يكون هو العقل الذي يُدير العملية، فالمترجم سيظل دائمًا هو من يُضيف القيمة الإنسانية للنصوص، وهو ما لا يمكن لأي آلة تحقيقه.
مراحل للنشأة الأولى
يقول المترجم المغربي حسن حلمي، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الحسن الثاني سابقًا، إن الترجمة الآلية تعتمد بنسب متفاوتة على الذكاء الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي، في مقابل الذكاء الفطري آلة؛ فإن أنت أطعمتها لحم البقر، أطعمتك نقانق البقر، وإن أنت أطعمتها لحم الخنزير، أطعمتك نقانق الخنزير، وما هند إلا مهرة عربية.
وأشار «حلمي» إلى ما أوضحه الدكتور غسان مراد، في تقديمه لأحد المؤتمرات، الصلات المعقدة بين الترجمة والذكاء الاصطناعي. وكان من أهم القضايا التي نبّه إليها أولا، أن المترجم يستخدم التطبيقات ولا يصنعها، وثانيا، أن معطيات الذكاء الاصطناعي ثابتة، لكن معطيات اللغة متحركة تبعا لحركة الفكر، ثالثا، أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على التكرار، لكن الذكاء البشري يعتمد على الابتكار، ورابعا، أن من مشكلات الذكاء الاصطناعي، بحكم ثبات معطياته، أن الحاجة دائمة إلى نقض ما قد تؤسسه التطبيقات، فلا بد من التدخل لحملها على أن تنسى ما تم تخزينه في ذاكرتها حتى تواكب حركة الفكر.
وأضاف «حلمي»: لئن كان ما يسمى بالترجمة الآلية العصبية، والترجمة الآلية التي تعتمد على الإحصائيات وتحليلها قصد تقييم المنتج وتجويده، من الأدوات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، فإن لمسات الذكاء البشري ﻻ يمكن الاستغناء عنها. ومن ضمن الأدوات المستجدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي الأداة التي تقوم بالترجمة الفورية للنصوص مكتوبة كانت أو منطوقة، وكذلك ما يسمى بـالأداة التي تعتمد على أنظمة لتخزين/ حفظ محتوى سبق أن تمت ترجمته قصد الاستعانة به في التدوير، وفي تحقيق الاتساق في النتاج الترجمي، وثمة وجه آخر لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الترجمة يقوم على تحرير المترجم من المهام الروتينية البسيطة، وتمكينه من التركيز على الأمور التي تتسم بالتعقيد، ويفترض أن هذا يساعد المترجم في السعي إلى تجويد إنجازه، وتوفر صناعة الذكاء أيضا أداة للتدقيق تستعمل لضمان الجودة في المنتوج المترجم، وذلك بأن تتيح الفرصة للمترجم ليتعرف على الأخطاء النحوية وعلى الأخطاء في التركيب وفي استعمال المصطلح.
ويختتم المترجم المغربي حسن حلمي، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الحسن الثاني سابقًا حديثه بالقول: لا شك في أن لاستعمال الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة مزايا من بينها السرعة في الإنجاز والاقتصاد في الإنفاق، غير أن هذه المزايا غالبا ما تؤثر سلبا في جودة الترجمة ودقتها، ولئن كانت هذه المزايا مفيدة في المواقف اليومية البرجماتية، التي يتداول فيها العامة اللغة في حدودها الدنيا بنية تحقيق ما يعتقدون أنه تواصل، فإنها تظل، على الأرجح، عقيمة في المستويات الفكرية التي تنطوي على قدر من التجريد والتعقيد، أو في المستويات الأدبية التي لا ينفصل فيها المحتوى عن الأسلوب. وعلاوة على هذا، فإن الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحل نشأته الأولى، وربما يمر وقت طويل قبل أن يكون مؤهلا لمواجهات تحديات الترجمة، وحتى إن أفلح، على المدى الطويل، في التصدي لبعض مصاعب الترجمة فإنه، حسب توقع المتشائمين من أمثالي، لن يقوم أبدا مقام الذكاء الفطري.