واخير وليس اخرا رحيل عبد الله جلاب , وفى سكة الرحيل الطويله يقول منطق الأصطفاء النوعى والحلول والآحلال و"الأعمار بيد الله "ان جيلنا وصل محطته الأخيرة وانه قد آن الأوان لإفساح الطريق لجيل اخر , وكما قال الراحل كمال حسن بخيت "بقينا شوية خلاص " صرنا قلة قليلة, قبل جلاب غادر محمد عبد الحى , محمود محمد مدنى ,عيسى الحلو على عبد القيوم ,مبارك بشير, محجوب شريف ,محمد طه القدال , عبد القدوس الخاتم , عثمان خالد , عبد الهادى الصديق ,النورعثمان ابكر، على عمر قاسم ,فضل الله محمد ,عبد الرحيم ابو ذكرى, وهاهو جلاب يترجل بعد بضعة شهور من رحيل كمال الجزولى .
فى ستينات القرن الماضى لا اذكر الشهر بالضبط زارنا عبد الله جلاب عثمان خالد وانا فى مكاتب صحيفة الأيام تحت عمارة ابو العلا القديمة , شاب ضعيف البنية هامس الصوت مفصول من السنة من جامعة الخرطوم يريد العمل معنا فى صحيفة الأيام ,وبدا لى لحظتها ان له علاقة قربى بعثمان خالد,او ان كليهما من مدينة بارا.
صادف مجىء جلاب ان الأستاذ بشيرمحمد سعيد رئيس التحرير كان على وشك اصدار مجلة اسبوعية جديدة باسم "الحياة " اختار لرئاسة تحريرها اسماعيل الحاج موسى الذى قبل جلاب محررا معه ,ومن هنا بدأت علاقة الراحل بالعمل الصحفى , لم تعش المجلة طويلا فقد داهمها مثل المطبوعات الأخرى انقلاب النميرى فجرى تاميم الصحافة فألتحق جلاب بصحيفة الراى العام المؤممة مساعدا للراحل عبد الرحمن احمد فضل الله مديرتحريرها والذى كان من قبل مديرا لصحيفة الميدان لسان حال الحزب الشيوعى, وفى فورة سيادة الشعار اليسارى "وحدة القوى الثورية" اصبح جلاب قريبا من الشيوعيين وصديقا "ديمقراطيا "لعبد الله على ابراهيم مسئول النشاط الثقافى فى الحزب الشيوعى ,ولما كانت مايو فى حاجة الى ثقافة جديدة تتناغم مع شعار االمشروع الأشتراكى كان لجلاب قصب السبق بالتعاون مع عبد الله ابراهيم فى تأسيس تنظيم "ابادماك" الأدبى المعبر عن "ثورة مايو" بل هو الذى اختار للتنظيم هذا الأسم استمر جلاب محسوبا على اليسار حتى اختلاف النميرى الدامى مع الشيوعيين .
ومن هنات الراحل عليه رحمة الله ان تحوّل متدرجا الى تأييد النظام بل وصار جزءا منه وفارق الشيوعيين الى غير رجعة , ومن هنّاته ايضا وقف الراحل عليه رحمة الله مع المؤيدين للنظام ,فضل الله محمد ,وحسن ساتى ,وحسن احمد التوم والد الطاهر, وابراهيم عبد القيوم فى معركة نقابة الصحفيين مع الأتحاد الأشتراكى ,فحل النميرى النقابة وكوفىء الراحل باخيتاره رئيسا لتحرير مجلة الأذاعة التلفزيون ,ثم ملحقا ثقافيا بالسفارة السودنية فى بريطانيا ,ثم مساعدا لوكيل وزارة الأعلام ,تلك لوظيفة التى انتهت بأسقاط نظام النميرى فى انتفاضة 1985 فاطلقت عليه صحيفة الميدان لقب "السادن عبد الله جلاب".
غادر جلاب بريطانيا لاجئا الى الولايات المتحدة الأميركية ولم يعد الى السودان حتى رحيله و للحقيقية والأنصاف فا ن الراحل عوض مواقفه القديمة بمعارضته القوية لنظام المتاسلمين وفى ذلك كتب العديد من المقالات التى تهاجم الأنقاذ بل اصدر كتابا شاملا يشرح فيه طبيعة الأسلام السياسى وهو مؤلف جدير بالقراءة لما فيه من تحليل علمى رصين لطبيعة اولئك القوم الذين كانوا سببا فيما نحن فيه الآن.
فى اخر رسائله لصديقه القاص عمر الحويج يصف جلاب ابادماك بأنه ( كان روح وافاق اكتوبر او ما يمكن ان نسميه للتاريخ البعيد (أبادماك) ومع ما ظل متواتراً في مجال الحوار والهم المشترك والبحث الدؤوب ومثل كل احتفال كان حفل “ل سماية” أبادماك جامعاً لحد كبير ضم في قلبه ما تعارف عليه بعد ذلـك بتجمـع أبادماك أو تلك الصفات التي ميزت ذلك التجمع والتي كانت واحدة من الدعامات التي ائتلف حولها العـدد الأكبر من المجتمعين وقتها وذهب بها التجمع مذهباً متقدماً من بعد. علـى رأس ذلـك قـضايا المفـاهيم المعيارية الأساسية مثل قضايا الحريات العامة والعدالة والمساواة وعلاقة أهل الفكر والثقافة والأدب والفـن بكل ذلك وتداخل مثل تلك القضايا بالشروط الأساسية للخطاب المعرفي . لقد كانت أكتـوبر فـي تجلياتهـا الكبرى وروحها هي بداية التعبير عن كل ذلك . وقد كان العدد الأكبر من رواد ذلك الحفل من بعض الـذين سعوا بالتعبير الأولي لتلك المفاهيم عندما وقعوا على البيان المدافع عن محمود محمد طه إثر الحكم عليـه – بالردة في أواخر العام 1968م . لم يكن الدافع لذلك الفعل من باب التشيع لمحمود أو لحزبه بقدر ما كان شكلاً من أشكال ذلك التضامن مع تلك الروح وأحد شروطها في إطار الحريات العامة. هذا ، وقد تكرر مثل ذلـك الأمر في البيان الخاص بحفل الفنون الشعبية بجامعة الخرطوم حيث ضاقت سعة الحوار ليتخذ البعض الرد على الآخر طريق العنف ومن ثم الانحطاط بالحوار إلى مستوى السيخ . هذا ومن جهة أخرى ، فقد تواصلت تلك الوشيجة بين تلك الروح القائمة على احترام الحريات في مسلك التنظيم الـرافض للانقـلاب ولتـأميم الصحافة وحبس ونفي المخالفين بالرأي لنظام مايو . غير أن هنالك انتكاسات عن تلك الروح وذلك المنهج . فقد كانت تلك الروح وذلك المنهج يسمحان بأن يشمل رفض حبس ونفي المخالفين بوجه عـام وبـصورةمطلقة . لا أن يكون أمراً انتقائياً . وكان لرفض العنف أن يكون شاملاً ومن حيث أتى . لقد كانت مايو في كل مراحلها شكلاً متطوراً من أشكال العنف الذي سخر كل أدوات جهاز الدولة لقمع الحريات وتعطيل الحـوارومن ثم الخطاب المعرفي . كما كانت امتحاناً قاسياً للقوى السياسية والنخب في قناعتها واستثماررصـيدها السياسي والتنظيمي من أجل صد العدوان على الحريات ويقول الراحل يطول الحديث حول قافلة أبادماك في قرى ومدن الجزيرة ودانيمكيـة التبـادل للمعـارف وأشكال الحوار . لعل ما ميز تجربة بورتبيل هو أنها كانت النموذج لذلك الـنهج حيـث أتـت مجموعتنـا المشاركة بعدد من المسرحيات على رأسها مسرحية "ولي شوينكا أهل المستنقع "ومسرحية الفتريتة لطلحـة الشفيع ، وأتى أهل القرية بمسرحياتهم واشتركنا معاً في بناء مسرح لهم مـن دخـل العروض ولدعم مدرسة القرية .
لقد كان في قيام تجمع أبادماك أسوة حسنة للعديد من الأدباء والفنانين في مناطق متعددة من أصقاع القطـر ليقيموا تجمعات مشابهة ,على سبيل المثال لا الحصر طلائع الهدهد حين التف العديـد مـن الطـلاب ذوي المواهب المتعددة العالية من أمثال النور حمد وبشرى الفاضل وهاشم محمد صالح حول بعض من أساتذتهم من أهل المواهب المعارف المتخصصة أمثال عبد العظيم خلف االله ,وعبدالعال ,وعبـدالله بـولا لتـشتعل منطقة الجزيرة بنشاط وحيوية لم تشهد لها مثيلاً من قبل . ذلك نموذج قد تكرر في مروي الثانوية حين التف نفر مشابه من الطلاب حول علي الوراق وآخر حول محمد المهدي بشرى في خور طقت الثانوية ,ونفر آخر التف حول عيسى الحلو في بخت الرضا.
لقد كان في كل ذلك الحافز والدافع لجماعات أخرى في مدني وسـنار وبورسودان لجماعات من شباب الأدباء في تلك الحواضر ظل يتدفق نبعاً رائقاً من جميل الشعر والقـصة والنقد. من وهج ذلك جاء نبيل غالي ,ومجذوب العيدروس وغيرهم وتفتحت مواهب جديدة .
ومن فيض تلك الروح الكبيرة جاءت من الجنوب فرقة الرجاف بقيادة إسماعيل واني لتعطي تلك الظاهرة أعظم وأفخم مـافيها وهو بعدها القومي. لقد كان أبادماك الخرطوم هو رأس جبل الجليد الثقافي الذي كانـت مدنـه وقـراه تنبعث من أجل أن تجد لنفسها مكاناً في ساحات ما أن تتسع بجهد المجتهدين العام إلا لتضيق بالقمع الخاص الذي شمل كل ساحات الفضاء السوداني وبذلك كانت أبادماك هي أحد وجوه ونماذج المعـادل المنـاقض لمايو إذ كان بين تيارات ذلك ، مثل ذلك القبض والبسط ، تقع واحدة من أهم مفاصل الاختلاف مع أصل تلك النظم آيديولجية ومسلكها بشكل عام وبشكل خاص ، والتي ظل يتمدد فيها العنف بأشكاله المتعددة لخنق منابر الحوار لقد كا ن في الحوار الخارجي لأبادماك ما يمكن أن يرى فيه المتأمل امتداداً لذلك الحوار الداخلي . ولعل أول من تلقف ذلك بحماس وحيوية هوالراحل غسان كنفاني الذي خصص ملفاً كـاملاً مـن صـحيفة الأنـوار البيروتية الشعر والنثر متوجاً بالبيان الأول لأبادماك والذي كان هو البداية لذلك الحوار . ومن ثـم تلاحـق الأمر ليشمل مجلتي الآداب والطريق اللبنانيتين ، ومن ثم مجلة الطليعة المصرية لينتقل إلى منـابر إتحـاد الأدباء العرب ومن بعده إتحاد الأدباء .)
siddiqmeheasi20@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: تلک الروح لقد کان
إقرأ أيضاً:
ثلاثون عاما لِيَقَترب من وَهَجٍ عبقريته! "2"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يجب أن نعترف أن الكاتب الأسكتلندى "توماس كارليل" كان محقًا، عندما كتب بموضوعية وبنظرة محايدة عن سيد الخلق اجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابه الأشهر "الأبطال"، والذى كان سببا فى أن يفجر طاقات المفكر الكبير عباس محمود العقاد، لكى يكتب عن سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد، بكتابه الهام "عبقرية محمد" ثم يتبعه بسلسلة من العبقريات الإسلامية.
كان تناول هذا الكاتب الأسكتلندى لحياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد بحث وقراءة وتحليل، وكتب عنه أنه "من العار أن يصغى أي إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين أن دين الإسلام كذب وأن محمدًا لم يكن على حق، لقد آن لنا أن نحارب هذه الادعاءات السخيفة المخجلة، فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي ظلت سراجا منيرًا أربعة عشر قرنا من الزمان، لملايين كثيرة من الناس، فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة التي عاشت عليها هذه الملايين وماتت أكذوبة كاذب أو خديعة مخادع؟!
ولو أن الكذب والتضليل يروجان عند الخلق هذا الرواج الكبير، لأضحت الحياة سخفا وعبثا، وكان الأجدر بها ألا توجد..
هل رأيتم رجلًا كاذبًا يستطيع أن يخلق دينا ويتعهده بالنشر بهذه الصورة؟ إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبني بيتا من الطوب لجهله بخصائص مواد البناء، وإذا بناه فما ذاك الذي يبنيه إلا كومة من أخلاط هذه المواد، فما بالك بالذي يبني بيتا، تبقى دعائمه هذه القرون العديدة وتسكنه هذه الملايين الكثيرة من الناس؟!".
وفى فقرة أخرى قال مشيدًا: "أحب محمدًا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن الصحراء مستقل الرأي، لا يعتمد إلا على نفسه، ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبرًا ولا ذليلًا، فهو قائم في ثوبه المرقع، كما أوجده الله، يخاطب بقوله الحر المبين أكاسرة العجم وقياصرة الروم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة".
وشغل كتاب "الابطال" لهذا الكاتب الأسكتلندى عقول المفكرين والأدباء فى كافه الأقطار الإسلامية وكان سببا جوهريا فى سلسلة العبقريات الإسلامية التى كتبها عملاق الفكر عباس محمود العقاد وكانت البداية مع "عبقرية محمد" صلى الله عليه وسلم ثم توالت مؤلفاته عن صحابته رضوان الله عليهم فكتب "عبقرية الصِّدِّيقُ" و"عبقرية عمر" و"ذو النورين عثمان بن عفان" وعبقرية "الإمام علي" وعبقرية "خالد بن الوليد" وغير ذلك من المؤلفات الإسلامية الكثيرة.
كانت البداية عند "العقاد" هى الإقتراب من شخصية النبى الكريم سيدنا محمد ليكشف جوانب عبقريته ولهذا استغرق فى القراءة والاطلاع أعواما كثيرة من أجل أن يكتب عنه.. هل تعرف كم عاما قضاها المفكر الكبير ليكتب عن عبقرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟.. ثلاثون عاما هى الفترة الزمنية التي استغرقت تأليف كتاب "عبقرية محمد" وفيه تكلم عن عبقرية سيد الخلق اجمعين فى الدعوة وعبقريته العسكرية وبعدها تناول فى كتابه صور من العبقرية السياسية والإدارية وأفاض فى وصف صفاته صلى الله عليه وسلم كزوج وأب وصديق ورئيس وسيد وعابد...
لكن وكأنه اِستَدرَكَ أن فاته الكثير من عبقرية سيدنا محمد فكان عليه أن يختم كتابه بفصل عنوانه "محمد فى التاريخ" كتب في بداية هذا الفصل أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدًا في عبقريته، أو محمدًا في نفسه، أو محمدًا في مناقبه التي يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية، ومن لا يدين له برسالة. ونريد بهذا الفصل- وهو خاتمة الكتاب- أن نذكر كلمة موجزة عن محمد في التاريخ، أو محمد في العالم وأحداثه الخالدة، وهو بحث يغنينا فيه الايجاز، لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان محمد فيه..
محمد في نفسه عظيم بالغ في العظمة، وفاق لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة...
فما مكان هذه العظمة في التاريخ؟ ما مكانها في العالم وأحداثه الباقية على تعاقب العصور؟
مكانها في التاريخ: أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله، وأن حادثا واحدا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله...
الأسبوع القادم باذن الله أكمل قراءة الكتاب الرائع للمفكر الكبير عباس محمود العقاد "عبقرية محمد"