خلفيات الاشتباك المسلح بولاية نهر النيل
تاريخ النشر: 19th, July 2024 GMT
قال مخاطبا الجهات الامنية في فيديو نشر على فيس بووك: “الأرض أرضنا والعرض عرضنا، ما دايرين منكم توجيهات، لو دايرين تساعدونا سلحوا المستنفرين، واسألونا من الأمن، في المدينة وفي الخلا، ومن الشاحنات، ومن الغرباء المهددين حياتنا”.
التغيير: وكالات
اندلعت، وعلى نحو مباغت، اشتباكات عنيفة في بلدة الباوقة التابعة لمحلية بربر بولاية نهر النيل، بين أجهزة القوات المسلحة ومجموعة “ود أحمد علي” القائد المنشق عن المقاومة الشعبية بالباوقة، على أثر احتجاز أحد عناصره من قبل الاستخبارات العسكرية، وخلفت الاشتباكات المفاجئة رعبا وارتباكا بين المواطنين على امتداد الولاية التي تعد من الولايات الأمنة وملاذا لالاف النازحين من الحرب، وانتهت باعتقال وتوقيف قائد المجموعة في اليوم التالي للاشتباك، بعد أن لاذ بالفرار.
وينحدر “ود أحمد علي” قائد المجموعة المسلحة، وهو شاب ثلاثيني، من منطقة “فتوار” بالقرب من مدينة الباوقة، نشط سابقا بما يعرف بـ”قوات درع الشمال” بقيادة (أبو عاقلة كيكل) الذي التحق متمردا بقوات الدعم السريع عقب اندلاع الحرب، وعاد (ود أحمد علي) بأسلحة وزخائر وأعلن انحيازه للجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع، ونشط في عمليات تحشيد ومخاطبات جماهيرية للدفاع عن المنطقة، واستقطب أعداد مقدرة من الشباب المسلحين قبل أن يشكل قوة عسكرية قوامها الشبان المستنفرين فاقت ربما القوة العسكرية الرسمية في منطقة الباوقة وما جاورها. ولكن سرعان ما اختلف مع قياداتها، وكون مجموعةً خاصةً به تمتلك مركبات مقاتلة وأكثر من 100 قطعة من سلاح (كلاشنوف) وعدد من قطع سلاح (القرنوف) و(الدوشكا) وترفع شعارات رافضة لهيمنة بعض المنتسبين للنظام السابق على المقاومة الشعبية، وينادي بوقف التعدين وطرد العاملين في التنقيب العشوائي من غير أبناء المنطقة، في سلوك وصف بالعنصري والجهوي، وهو متهم إلى ذلك بنهب شركات الذهب في المنطقة، وتمويل شراء السلاح المهرب والمركبات المقاتلة، وأقام مخاطبة جماهيرية بسوق الباوقة، معلنا التعبئة العامة وإغلاق وخضوع كامل المنطقة لحماية مجموعته المسلحة ورفض تواجد القوات الأخرى ونفذ أتباعه على الفور طردا لمنتسبي قسم شرطة السوق، وأعلنوا الإغلاق الكلي للمنطقة واقامة بوابات دخول وخروج محددة، ترتكز بها قواتهم فقط.
قال مخاطبا الجهات الامنية في فيديو نشر على فيس بووك: “الأرض أرضنا والعرض عرضنا، ما دايرين منكم توجيهات، لو دايرين تساعدونا سلحوا المستنفرين، واسألونا من الأمن، في المدينة وفي الخلا، ومن الشاحنات، ومن الغرباء المهددين حياتنا”.
وفور وقوع الاشتباكات أصدرت لجنة أمن ولاية نهر النيل بيانا قطعت فيه بأن أي خروج عن القانون سيتم التعامل معه بكل حسم وأن القوة الأمنية تمكنت من ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمركبات، بعد أن تعرضت لهجوم مسلح أثناء قيامها بواجبها القانوني في إلقاء القبض على المتهم “م ع أ” المطلوب في عدد من البلاغات الجنائية ومن وصفتهم بالمتفلتين وذلك في بنطون الباوقة. ولاحقا ألقت السلطات الأمنية القبض على قيادات بالمنطقة على خلفية الأحداث، منهم عمدة الانقرياب بالباوقة والمدير الطبي للمستشفى والمدير السابق للمسؤولية الاجتماعية بالباوقة وعدد من رجالات الادارة الأهلية واقتادتهم للعاصمة البديلة في بورتسودان وفق ما رشح من أنباء.
ونفت المقاومة الشعبية في مدينة الباوقة، في بيان، حدوث اشتباكات بين المستنفرين وفصيل منشق عنها وأرجعت أن الاشتباكات وقعت بين الأجهزة الأمنية وبعض الأفراد المطلوبين لديها في بلاغات سابقة.
التنقيب في الجذور العميقةيصف المراقب (خ . ع) الأحداث بأنها نتيجة حتمية لمعركة مؤجلة بين اطراف الصراع هناك وميدانها وعتادها هو عوائد التعدين وتنازع المسؤولية المجتمعية لشركات التعدين تجاه المنطقة والتي تنفرد بتوزيعها لجنة يسيطر عليها (كوادر المؤتمر الوطني) وبعض المنتفعين. بينما يرجع عثمان أحمد الطاهر من (الأجسام المطلبية) أس الأزمة إلى حركة مقاومة قديمة تجددت الان، وتحولت من مقاومة سلمية لعمل مسلح جديد، ضد من وصفهم بمافيا الذهب من (شركات المؤتمر الوطني) وحلفائها ومن اسلاميي المنطقة الذين أتاح لهم ظهور المعدن القيام بدور الوسيط المساهم في تدمير منطقته بيئياً ونهب مواردها وافقار سكانها. يقول عثمان الطاهر في حديثه لـ”أتر”: “ظل تقاسم اموال المسؤولية المجتمعية فيما بينهم هو المحرك الاساسي للصراع، الذي امتد ليصل التهديد بايقاف عمل شركات التعدين ومعظم عمالها من مناطق في غرب السودان، مما يعطي بعدا سياسيا وجهويا، وهي عادة قديمة تكررت لعشر سنوات، ويأتي الاختلاف في هذه المرة بتوفر السلاح لجميع الاطراف المتحاربة”. يضيف: “تحريض المسلحين والدفع بهم لطرد المعدنيين من الاثنيات الأخرى وتأجيج خطاب الكراهية هي محاولة مكشوفة لركوب موجة الحرب وحماية المصالح ومواربة الفساد المؤسسي لعناصر النظام السابق من ابناء المنطقة”. ويؤكد عثمان أحمد الطاهر أن ما حدث ليس له ارتباط بمشهد الحرب الراهن سوى ما وفره توقيت الحرب نفسها من تيسير الحصول على السلاح وإمكانية صناعة المليشيات.
ويسبب القانوني طارق الياس المحامي تفجر الازمة بالسيول والأمطار التي ضربت مناطق شمال محلية بربر شرقا وغربا في العام 2022، وكانت من بين اكثر المناطق تضررا قرية (المكايلاب) التي فقدت عشرات المنازل واضطر السكان لاغلاق الطريق القومي احتجاجا على تجاهل الدولة لأوضاعهم المعيشة بالغة الصعوبة. وفي زيارته للمنطقة وقوفا على الاحتياجات والمطالب وعد رئيس مجلس السيادة بالتبرع لاعاده تعمير ما دمرته الفيضانات للمواطنين من مال المسؤولية المجتمعية لشركات التعدين. يقول طارق الياس في حديث لـ”أتر”: “كان اللقاء بـ(المكايلاب) وهذا التبرع خاص ومن مجلس السيادة وجرت مشادات حادة بين والي الولاية الحالي وضابط تنفيذي محلية بربر حيال التصرف من مال المسؤولية المجتمعية الخاص بمنطقتي الباوقة والعبيدية، فقد طالب المتضررون بحقهم في الاموال التي دفعتها الدولة”. يضيف: “اضطر الضابط التنفيذي للسفر للخرطوم ولقاء مسؤولي مجلس السيادة الذين اعتذروا عن توفير المبالغ المالية. أحضر الوالي ممثلين من المسؤولية المجتمعية لمنطقتي العبيدية والباوقة بواقع 3 ترليون جنيها وقدموا تنازلا عن هذه المبالغ لصالح مواطني المكايلاب المتضررين والثائرين في ان معا، مما نقل الثورة والاحتجاجات لأهالي الباوقة والعبيدية”.
وتشهد المنطقة تصاعدا للأحداث منذ العام 2018، حيث اعتصم مواطنون من منطقة الباوقة والسليمانية حول معسكر للشركة الروسية في (وادي السنقير) منعوا التنقيب من داخل مقر الشركة وتعرضوا لاطلاق نار أودى بحياة أحد المعتصمين ويعرف بقتيل شركة فاغنر، واصابة ستة اخرين. يقول طارق الياس: “تشكلت هيئة أتهام محاميين من أبناء المنطقه وبدأووا الاجراءات بصورة احترافية، ولكن القضية قتلت في مهدها”. يضيف: “هضم حق القتيل بالتسويات ولو أن الأمور سارت وفق ماهو عادل ومطلوب لما تجدد الصراع الآن”.
مقاومة مستقلة مسلحةوتمثل مجموعة “ود احمد علي” ورفاقه من حملة السلاح بالنسبة لطارق الياس، مجرد شباب يفع، مغرر بهم وتشحذهم حماسة مقتبل العمر وينطوي وعيهم بالأرض وعمليات التعدين بتعارض التعريف بين ما هو محلي خاص بالحق التاريخي لأهل المنطقة وبين ما هو قومي، من دون النظر الي ترخيص الشركات المُنقِبة أو صاحبة الامتياز، مع الغياب الكلي لحماية الدولة التي تؤمن مستقبل رعاياها والشعور بالقلق والضياع. “فطالما أن هذه المناجم بريعها ومعادنها في حدود الباوقة فهي ملك حر، يمكن ان ينتزع ويؤخذ بالقوة المسلحة”، ويضيف الياس: “اعتقد أن طرح شعارات ثورية وأخرى مطلبية محاولة لايجاد شرعية وللتعمية على مغامرات وقصص فساد تشمله بآخرين متنفذين في المنطقة”.
ويرى نصر الدين الطيب الصحفي والمحلل السياسي، أن اشتباكات الباوقة وقعت على خلفية انشقاق المقاومة الشعبية في المنطقة إلى مجموعتين، الأولى تقع تحت كنف رعاية حكومية تامة ويقودها عناصر الاسلاميين وحزب المؤتمر الوطني المحلول، الذين صعدوا للسلطة في الولاية بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، ومجموعة أخرى يقودها (ود أحمد علي) انشقت عن المقاومة الرئيسة، ودفعت بأسباب لذلك، أبرزها ضرورة استقلالية عمل المقاومة، وجهرها بقضايا فساد في المنطقة متعلق بأموال المسؤولية الاجتماعية التي تدفعها ثلاث شركات كبيرة لتعدين الذهب بالمنطقة.
وينفي الطيب ما حدث أنه تمرد. ويقول في حديثه لـ”أتر”: “بل تأسيس لمقاومة شعبية مستقلة، قفزت فوق مفهوم المقاومة الشعبية بمفهوم سلطة الأمر الواقع، عارضت أجندة عناصر النظام السابق”. ويضيف: “ثورة ضد القديم بفساده، ومن أجل ترقية الخدمات”.
ويرى الطيب أن التخوف من حدوث سيناريوهات انسحابات الجيش من مدن ومواقع، وزعزعة الثقة في عناصر الجيش من الاسلاميين دفع بالمجموعة نحو بلورة استقلالها عن المقاومة الرئيسة .يقول: “زادت هذه المخاوف بعد ضبط شحنة أسلحة بواسطة عناصر المجموعة المنشقة، والتساؤل عن تجاوزها نقاط تفتيش رسمية مشكلة من الاجهزة العسكرية، وإطلاق سراح الجناة بعد تسليمهم للجهات الرسمية”. ويضيف: “دبت الخلافات بين قائد المقاومة الشعبية المستقلة “ود أحمد علي” وقادة المقاومة المحسوبين على الإسلاميين في المنطقة ومطالبتهم المستمرة له بضرورة التقيد بالتوجيهات الحكومية، والحد من نشاطه المستقل في تحشيد الشباب المستنفرين ونصب الارتكازات في المنطقة، وبلغت الخلافات ذروتها بين المجموعتين عقب مطالبات مجموعة ود أحمد علي وقادتها بضرورة إعادة النظر في تصريف الأموال التي تتلقاها المنطقة من شركات تعدين الذهب في المنطقة تحت بند المسؤولية المجتمعية ووقف الاستغلال السيء لها من قبل المجموعة المحسوبة على الإسلاميين أو ما سموه بالفساد في تصريف هذه الأموال بعيدا عن خدمات المواطنين وحقهم في العلاج وغيرها من الخدمات الضرورية التي تنقص المنطقة- بحسب فيديوهات مبثوثة على مواقع التواصل الاجتماعي”.
الوسومآثار الحرب في السودان الإشتباكات المسلحة الباوقة حرب الجيش والدعم السريع ولاية نهرالنيلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: آثار الحرب في السودان الإشتباكات المسلحة الباوقة حرب الجيش والدعم السريع ولاية نهرالنيل المسؤولیة المجتمعیة المقاومة الشعبیة فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
هكذا وصلت الأزمة بين مقديشو وجوبالاند إلى الصراع المسلح
مقديشو- تصاعدت الأزمة السياسية في الصومال مع رفض الحكومة الفدرالية في مقديشو نتائج الانتخابات في ولاية جوبالاند التي أسفرت عن إعادة انتخاب رئيس جوبالاند أحمد محمد إسلام (مادوبي) لولاية ثالثة، وبلغت ذروة هذا الصراع بوقوع اشتباكات عنيفة بين قوات الطرفين في بلدة رأس كمبوني الإستراتيجية.
وتكشف هذه الأزمة عن خلل عميق في بنية النظام الفدرالي الصومالي، مثيرة مخاوف جدية بشأن تماسك الدولة ومساعي مكافحة الإرهاب، كما أنها تسلط الضوء على العقبات الجمّة التي تعترض مسار بناء دولة مستقرة في الصومال في ظل منافسة محتدمة على السلطة والثروات بين الحكومة المركزية والأقاليم.
وتصاعد الصراع بين الجانبين بشكل متسارع بدءا من انسحاب حاكم جوبالاند في أكتوبر/تشرين الأول الماضي من المشاورات الحكومية الخاصة بالمجلس الاستشاري الوطني المخصصة للبحث في ترتيبات العملية الانتخابية المقرر عقدها العام القادم.
توتر جديد
فجرت هذه الخطوة دائرة جديدة من التوتر بين رجل كيسمايو القوي الذي لطالما اصطدم بمقديشو والسلطات الفدرالية التي رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أجريت في الولاية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفاز مادوبي بموجبها بفترة رئاسية ثالثة.
إعلانوفي تصعيد جديد، أصدرت محكمة إقليم بنادر الإقليمية أمرا بإلقاء القبض على مادوبي متهمة إياه بالخيانة وانتهاك الدستور الصومالي ومشاركته معلومات وطنية حساسة مع دولة أجنبية، كما أرسلت طلبا إلى الإنتربول لاحتجازه أيضا، وهي اتهامات رفضها مسؤولو الإقليم معتبرين أنها تنطلق من دوافع سياسية.
أما محكمة جوبالاند الابتدائية فأصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، متهمة إياه بالخيانة والتحريض على التمرد، في صراع قانوني غير مسبوق في تاريخ البلاد.
ونقلت الحكومة الفدرالية مئات من جنودها إلى منطقة رأس كمبوني مبررة الخطوة بالتهيئة لتسلّم المهام الأمنية من قوات الاتحاد الأفريقي، وهو ما رفضته حكومة جوبالاند متهمة القوات الفدرالية بزعزعة استقرار المنطقة. لتبلغ الأحداث مصيرها المحتوم في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بمعارك عنيفة بين الطرفين أدت إلى هزيمة القوات الحكومية وتراجعها بعد رفضها الانسحاب خلال المهلة التي منحتها إياها كيسمايو.
ومثّلت التعديلات الدستورية التي حمل لواءها الرئيس حسن شيخ محمود نقطة فجرت "جدلا واسعا، وتفاوتت الآراء على المستوى الرسمي والشعبي بشأنها"، كما يشير مقال منشور في مركز مقديشو للبحوث والدراسات.
في هذا السياق، يستقر الخلاف حول هذه التعديلات كعامل جوهري في صناعة الأزمة بين شيخ محمود ومادوبي، كاشفا عن خلل عميق في آليات التعاطي السياسي، وعن البحث الصومالي المستمر منذ عقود، دون نجاح كثير، عن الوصول إلى صيغة لبناء دولة ما بعد الحرب الأهلية.
تحول مفاجئووفقا للباحثة الصومالية سمية عبد القادر، فإنه رغم شمول التعديلات لمواد من 4 فقرات فإن ما استقطب الرأي العام تركز حول النقاط المتعلقة بصلاحيات الرئيس والعملية الانتخابية.
وتعهد الرئيس الصومالي بالانتقال إلى نظام رئاسي يحل محل البرلمان الحالي وتغيير القواعد الناظمة للانتخاب بالاعتماد على نظام الانتخاب المباشر (شخص واحد، صوت واحد) بدلا من نظام تقاسم السلطة القائم على العشائر المعروف باسم "4.5" والذي استُخدم منذ عام 2000، حيث يمنح 4 عشائر رئيسية حصصا متساوية في البرلمان، بينما تحصل مجموعة من العشائر الأصغر على نصف الحصة.
إعلانولتحقيق ذلك، عقد المجلس الاستشاري الوطني اجتماعا ضم رئيس البلاد ورئيس الوزراء ورؤساء الولايات ما عدا حاكم ولاية بونتلاند، وأقرّ التحول إلى نظام الانتخاب المباشر في 28 مايو/أيار 2022، وهو ما قاد البرلمان في النهاية إلى إقرار التعديلات الدستورية بعد عام تقريبا، وسط احتدام الصراع السياسي حولها.
ورغم مشاركة أحمد مادوبي في الاجتماع، فإنه ما لبث أن انسحب من المشاركة في اجتماع المجلس المذكور في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، مطلِقا فصلا جديدا من العداوة المريرة بين حاكم جوبالاند القوي وحكومة مقديشو.
هذا التغير المفاجئ والسريع في موقف مادوبي يعدّه مراقبون خطوة إستراتيجية لحماية مصالحه السياسية، فبانضمامه إلى المعسكر المعارض للتعديلات الدستورية يعمل على الحيلولة دون تطبيق نظام الانتخاب المباشر الذي قد يشكل تهديدا لسلطته، إذ سيفتح الباب لمنافسته بقوة في انتخابات برلمان ورئاسة الولاية.
في المقابل، يمكّن النظام العشائري الحالي (4.5) مادوبي من ترجيح كفة أنصاره في الانتخابات البرلمانية، ومن ثم تمهيد الطريق لإعادة انتخابه باعتبار البرلمان الولائي هو المخول باختيار رئيس الولاية.
ولعل هذا ما يفسر مسارعته إلى عقد انتخابات البرلمان ورئاسة الولاية بين 18 و25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مثيرا رفض مقديشو التي اعترضت على إجراء الاقتراع عبر نظام المحاصصة القبلية الذي تم تغييره إلى الانتخاب المباشر.
توتر مستمر
يمثل الصراع الأخير بين مقديشو وكيسمايو جزءا من حكاية التوتر المستمر بينهما، حيث عارضت الحكومة الفدرالية منذ البداية تشكيل ولاية جوبالاند التي رأت فيها مشروعا كينيّا يهيمن عليه أبناء قبيلة الأوغادين ودعمت العشائر المناوئة لمادوبي الذي استطاع بقدرته على فرض سلطته على أرض الواقع نزع اعتراف مقديشو به على مضض.
إعلانيرجع موقف مقديشو إلى مجموعة من العوامل، منها ما تشير إليه ورقة صادرة عن "مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية" من أن موقع جوبالاند لا يلعب دورا حاسما في ما يتعلق بالسياسة الوطنية فحسب بل يتعداها إلى التأثير في السياسة الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، نظرا لحدودها مع كل من كينيا وإثيوبيا، بالإضافة إلى انتشار عدد كبير من أبناء قبيلة الأوغادين في كل من هذين البلدين.
وهكذا فإن من يحكم ولاية جوبالاند يملك قدرا كبيرا من التأثير على نجاح أو فشل السياسية الخارجية الصومالية بشأن العلاقة مع هاتين الدولتين ومع دول أخرى مهتمة بالموانئ الصومالية.
بجانب ما سبق، تُعد كيسمايو ثالث أكبر مدن البلاد بعد مقديشو وهرغيسا، كما أنها تحتوي على أحد أهم موانئ الصومال الذي يدرّ ملايين الدولارات سنويا التي تصبّ في خزينة الولاية وتمكّن قادتها من إدارتها دون الحاجة إلى دعم مقديشو التي تسعى إلى السيطرة على هذا المصدر الحيوي، كما تشير ورقة صادرة عن مركز مقديشو للأبحاث والدراسات.
ونتيجة لكل ما سبق، فقد صبغ التنافر العلاقة بين مقديشو ورجل كيسمايو القوي، إذ شهدت ولاية الرئيس الأسبق محمد عبد الله فرماجو، على سبيل المثال، توترا شبيها بالأزمة الحالية كاد يؤدي إلى اشتباك القوات الكينية الداعمة لمادوبي والإثيوبية المناصرة لفرماجو.
تنافس عشائري
يعتمد النظام السياسي الصومالي بشكل كبير على الانتماءات القبلية التي تشكل التحالفات وتسهم في توزيع السلطة، ويضيف البعد القبلي طبقات إضافية من التعقيد على الصراع بين مقديشو وكيسمايو، مازجا بين المظالم التاريخية والمنافسة على الموارد والصراعات على السلطة.
وتشير ورقة صادرة عن "معهد روبرت لانسينغ لدراسة التهديدات العالمية والديمقراطيات" -مقره الولايات المتحدة– إلى أن الأزمة الحالية تحمل أبعادا متعددة، يأتي في قلبها الصراع العشائري على السلطة والثروة في الإقليم.
إعلانوفي هذا السياق، يبرز التنافس المستمر بين عشيرتي المريحان والأوغادين التي ينحدر منها مادوبي والمهيمنة منذ مدة طويلة على النفوذ السياسي والاقتصادي، حيث مثّل مشروع جوبالاند تحت حكم مادوبي عودة "لهوية الأوغادين وفخرها" بعد عقود من التهميش السياسي، وفقا لإحدى الدراسات.
في المقابل، تُتهم الحكومة الصومالية بالدعم المستمر لمريحان التي ينحدر منها رئيس الوزراء الحالي حمزة عبدي، لتشكيل ثقل موازن لنفوذ الأوغادين ولبسط سيطرتها على الولاية. كذلك تتوافق جهود الحكومة الفدرالية للحصول على حصة من عائدات ميناء كيسمايو، مع مطالب المريحان التي يشكل الميناء أحد ملفاتها الخلافية مع الإدارة التي يقودها الأوغادين.
هذه الاصطفافات العشائرية أطلّت برأسها من جديد في الأزمة الأخيرة، إذ أعلن حاكم منطقة جيدو، وهي من أهم معاقل المريحان في الولاية، عبد الله شمبير عن دعمه الكامل للحكومة الصومالية التي نشرت قواتها في مطار المنطقة والمراكز المهمة فيها، وهو ما أعقبه مباشرة صدور قرار من الولاية بإقالته من منصبه.
لا يبدو العامل الخارجي وكيفية النظر إليه بعيدا عن محركات الصراع بين مقديشو وكيسمايو، حيث للعديد من الأطراف الخارجية مصالح كبيرة في جوبالاند، ويأتي على رأس هؤلاء كينيا المجاورة والداعمة للإقليم ولزعيمه مادوبي بشكل كبير.
إستراتيجية نيروبي تقف خلفها مجموعة من الدوافع، لعل أهمها رغبتها في جعل الولاية منطقة دفاع متقدم أمام حركة الشباب الناشطة في بعض مناطق الولاية، مشكلة تهديدا جدّيا للأمن الكيني.
هذا الدعم الكيني يزيد من قوة مادوبي في مواجهة الحكومات الفدرالية المتعاقبة التي تراه تدخلا في شؤونها الداخلية يؤدي إلى تفاقم التوتر سواء بين الطرفين الصوماليين أو بين مقديشو ونيروبي، ملقيا بمزيد من التعقيدات في طريق محاولات الحلحلة، ولا سيما عند النظر إلى وجود ملفات خلافية بين البلدين أبرزها القضايا المتعلقة بالحدود البحرية.
إعلان