تحصين وعي الناشئة والتحليل المنطقي
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
امتدح الله في كتابه العزيز الذين يعمِلون عقولهم وأفهامهم ويتدبرون في خلق الله في آيات كثيرة، وبألفاظ مختلفة، فقال: أفلا يعقلون، أفلا يتدبرون، لقوم يتفكرون، لأولي الألباب" وغيرها من الآيات الدالة على ضرورة أن يُعمل الإنسان عقله في كل عمل يقوم به، فهو مسؤول عن هذه الأعمال أمام الله سبحانه وتعالى، وعليها يكون مناط التكليف، وبناء على أعمال بني الإنسان الناتجة عن تفكيره وإرادته الحرة يكون الثواب والعقاب، فالمولى عز وجل يقول: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ".
ولا يعفي الإنسان من المساءلة أن يكون تابعا مُعطلا لعقله، وقد وردت قصة عن الصحابة رضوان الله عليهم في صحيح البخاري ونصها: بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم سريَّة فاستعمل رجلًا من الأنصار وأمرَهم أن يُطيعوه، فغضِبَ، فقال: أليس أمرَكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال : فاجمعوا لي حطبًا، فجمعوا، فقال: أوقِدوا نارًا، فأوقدوها، فقال: ادخُلوها، فهمُّوا وجعل بعضُهم يُمسِك بعضًا، ويقولون: فرَرْنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدتِ النارُ، فسكَن غضبُه، فبلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خَرجوا منها إلى يومِ القيامة، الطاعةُ في المعروفِ».. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقتْل النفس هو معصية لله تعالى، فلا طاعة في المعصية ولو أمر بذلك شخص جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على الصحابة، ولولا أن الصحابة أعملوا عقولهم وأذهانهم، ولم يفعلوا هذا الأمر بدليل الحجة العقلية أنهم ما اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فرارا من نار جهنم، أفيدخلوها بإرادتهم. وهو تحليل للموقف وإعمال للعقل، وهذا الذي ينبغي على المسلم أن يقوم به.
ولمهارة تحليل الأحداث والتفكير فيها بطريقة منطقية أهمية بالغة في الحياة اليومية، فهي تساعدنا في اتخاذ القرارات السليمة، ولكي تكون هذه المهارة ملَكة عند الشخص يستطيع أن يستعملها بطريقة تلقائية، فيجب أن يتم غرسها في عمر مبكرة من حياة الإنسان، لكي يستطيع أن يفكر تفكيرا تحليليا حرا قائم على جمع البيانات وتحليلها والقيام بالمواقف بناء على الأدلة والبراهين والحجج، وكذلك ينبغي أن تكون هذه الطرق حاضرة في المناهج الدراسية بشكل عملي ويتم تطبيقها، ففكرة عرض المعلومة أو تقديمها أصبح منهجا قديما لا تكتمل فائدته إلا من خلال تحليل تلك المعلومة ومناقشتها وتفسيرها والإحاطة بكل زواياها، لكي يتم تخزينها بناء على الفهم والإحاطة لا من خلال تكرارها الذي يؤدي إلى التخزين.
كما أنه على المربي أن يتبع هذه الطريقة مع أبنائه في كل الأحداث اليومية العابرة، ويتناقش معهم ويستعرض الأحداث العابرة ليس على أنها أحداث اعتيادية، ولكن من خلال مناقشتها وتحليلها وإبداء الآراء فيها فهذا يغذي هذه الملكة ويجعل كل فعل يقوم به الطفل أو الناشئ هو فعل مبرر قائم على دراية ورأي أصيل منبثق من خلال التحليل والتفكير والدراسة والمناقشة، وبهذه الطريقة تتكون هذه المَلكة عند الناشي ويصبح من الصعب استغفاله وجعله يفكر بتفكر القطيع، وأن لا ينجر أمام العواطف والتحيزات، وإنما يجب أن يُعمل العقل في كل خطة يخطوها.
كما أن على المربي وضع ميزان يزن فيه الناشئ أعماله بعد أن يصل إليها من خلال طريقة التفكير والتحليل، ليتساءل في المحصلة النهائية هل هذا الفعل يرضي الله أم أنه خالف أوامر الله ورسوله؟ وهذا لا يحصل إلا من خلال المعرفة المكتسبة والوصول إلى الحكمة التي قضاها الله في وجودنا على هذه الأرض، وكيف نكون أناسا ربانيين في أعمالنا، يغلب عليها جانب الحب والرحمة والعطف، ونحليها بالأخلاق الإنسانية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والشرائع من قبلها.
كما أننا بزراعة هذه المهارة في أبنائنا نضمن أنهم سيكون عليهم رقيبا من أنفسهم، وهي الرقابة الداخلية، التي تمثل لهم خط الحماية الأقوى أمام كل المغريات والمشتتات في العالم العصري الحديث، فعندما لا تتوفر الرقابة الأبوية المباشرة، سوف تتوفر هذه الرقابة القائمة على إعمال العقل مع وجود الضمير الحي المشبع بالقيم الدينية والمجتمعية الصالحة، خاصة في ظل وجود الوسائل التقنية الحديثة، ووجود برامج التواصل الاجتماعي التي لها جانب سلبي في دخول الأفكار الدخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية، فأصبحت بعض هذه المواقع تعرض أفكارا الهدامة في قالب ترفيهي، يهدم القيم المجتمعية والأخلاق والأعراف.
ونحن لا نقول إن طريقة استخدام التفكير النقدي في الحياة اليومية سلسة، أمام ضغوطات الحياة السريعة، فالواحد منا لا يجد وقتا لنفسه، فكيف يقوم بهذه العملية مع أبنائه، إلا أن ذلك لا يعفيه من اقتناص الفرص في غرس هذه القيمة مع أبنائه حتى أثناء تناول الطعام، أو أثناء خروجه معهم في السيارة، فكل الأحداث الإنسانية قابلة للمناقشة والتفكير وطرح الأسئلة التي تتبلور من خلالها الأفكار، وفكرة طرح الأسئلة هي المفتاح الذي يجعل الدخول إلى المناقشة والتحليل أكثر سلاسة.
كما أن على المربي بناء علاقة صداقة وحوار مع أبنائه، يسرد عليهم بعضا من الأحداث التي يمر بها سواء في عمله، أو الأحداث التي تحصل له من خلال علاقاته المجتمعية، ويبرز لهم طريقة تعامله مع تلك الأحداث، وكيف كانت نتيجة تصرفه، فهو من خلال طرحه لهذه الأحداث سوف يجعل أفكارهم تتسع، لتعرف كيف يتم التعامل مع الأحداث والمواقف، فهو بذلك يكسبهم خبرة ويطلعهم على تجارب قام بها، كما أنه يجب عليه أن يستشيرهم في أفعاله، وما هي الطريقة الأنسب التي كان ينبغي عليه أن يتبعها في موقف معين، فأذهان الأبناء خلّاقة وقادرة على طرح الحلول التي يتم ولادتها من خلال المناقشة والحوار.
وفي المقابل يطلب من أبنائه أن يخبروه عن مواقف مروا بها سواء كانت هذه المواقف في المدرسة أو في الملعب، أو في المسجد أو في محيطهم الاجتماعية، وبعد سردهم للحدث بإمكانه أن يطرح عليهم أسئلة بسيطة سلسة يلفتهم فيها إلى بعض الجوانب القيمية والمنهجية في التعامل مع الأحداث والمواقف.
وكذلك يفعل إذا جلس معهم لمشاهدة التلفاز، فهذه العلاقة هي التي تبني الثقة بين الابن والمربي، وبهذا يطمئن الوالدان أنه إذا حدثت لابنهما مشكلة معينة، أو تواردت إليه أفكار دخيلة فإنه سوف يخبرهم بها ويعلم أنهم يستطيعان مساعدته، وقد ذابت الحواجز بينهم من خلال الأفعال السابقة، ويستطيع أن يأتمنهم على أسراره، ويكونان على معرفة بالأفكار التي تدور في ذهن ابنهما.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم مع أبنائه من خلال کما أن
إقرأ أيضاً:
غثاء كغثاء السيل
سالم بن محمد بن أحمد العبري
لقد أيقنت بعد خبرات كثيرة أننا في حاجة إلى فقيه واحد ومئات الآلاف من العلماء والصُّناع المهرة في البيولوجيا والطب والهندسة والمعلمين والمدربين والمخترعين في سائر الأنشطة الدنيوية والحياتية.
وهذا فيض من خاطر به غصة؛ حيث أثبتت لنا أحداث الحياة المعاصرة وما يمر به العالم الإسلامي والعربي من أحداث جسام أننا لم نضع القول المأثور الذي رواه ثوبان مولى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" موضع الوصية الواجبة النفاذ قولا وعملا.
فحين كنا في عزاء التقيت أحد معارفي وسألته عن غيابه الطويل؟ قال لي دائما على سفر، وحين أعود من أفريقيا نلتقي؛ لانشغالي ببناء مساجد ومدارس تلك البقاع المقفرة، تحبيبا وتأليفًا لقلوبهم تمهيدًا لإدخالهم إلى الإسلام!!
فقلت له: أليست بلادنا ومناطقنا وأوديتنا أولى بجهودكم وفي حاجة إلى ما تجمعونه من أموال. فلما لم يجد ردا يُحسن عليه إسكاتي به. قال ندخلهم الإسلام. وقد وجدت قناعة لا تتزحزح قيد أنملة لدى البعض منا، بل يحسبها من الأولويات وأنه بذلك يخدم الإسلام ويتقرب إلى الله، ببناء جامع فوق الحاجة وفوق ما يتطلبه ولا يؤمّه بعد تزيينه وزخرفته سوى صفين اثنين في سائر الصلوات، بل صار إنشاء المساجد تفاخرا ومباهاة، ولا يتأتى على أذهانهم أن تأسيس عيادة طبية قريبة من الناس في القرى الجبلية البعيدة أو إقامة مستشفى يقدم العلاج لقطاع عريض من الناس، بل إن توفير الأراضي والمباني والمعدات والأدوية وسائر لوازم الاستشفاء أقرب إلى الله ومن غريب المجادلة أنني طلبت من أخوين عزيزين أن يتبرعا لشق طريق جبلي في وادي بني عوف والذي توقف العمل به منذ شهر مايو عام 2007؛ بل صارت العناية به رفاهية لا ضرورة وهو سيخدم أكثر من 20 قرية وتجمعًا سكنيًا بعيدًا، وسيربطها بالجبل الأخضر كما تعهد معالى الأخ الشيخ سعود النبهاني.
لكنهم أصرّوا في جدالهم معي على أن إنشاء وتعبيد الطرق من اختصاص الدولة؛ فقلتُ لهم وأيضا نشاطكم الدعوي الخيري هو في صميم اختصاص الهيئة العُمانية للأعمال الخيرية، وإن جمعكم الأموال والتبرعات العينية وغيرها يخالف صريح القانون فضلا عن دوركم في تصديرها خارج الوطن.
ألا يمكن أن تقيموا مركزا لتدريب آلاف المواطنين الباحثين عن عمل والمسرحين، ومساعدة الشباب على تأسيس أسرة جديدة. انزلوا الأسواق لتروا العمالة الوافدة كيف يتكّسبون فوق ما تظنون، وأعمالهم هذه يمكن أن يمارسها المواطن بعد فترة تدريب يسيرة كصيانة المعدات الزراعية والتمديدات الكهربائية وتوصيل أنابيب مياه الشرب للمنازل وإصلاح الهواتف وصيانة الحاسبات والأجهزة الإلكترونية.
أذكر أنه حدث في بيتنا ماس كهربائي، وأتوا بعامل وافد فأصلح جزءًا منه وحار في الجزء المتبقي فاستعنت بمواطن عُماني له خبرة في أكثر من شركة عُمانية؛ فأرشد العامل الوافد على الاحتمال الأكثر لحدوث الماس الكهربائي فأصلحه وتقاضى الوافد أجرا كبيرا ضعف ما قدّره المواطن العُماني.
وأذكر مواطنا عُمانيا آخر كان يعمل في إصلاح وصيانة المعدات الزراعية من المنزل ويتحصّل على دخل كبير، فلما أن أخذ محلا في المنطقة الصناعية سلّمه لعامل وافد وجلس في بيته يتقاضى مبلغا شهريا زهيدا في حين الوافد يقف على بابه مئات طلبات الصيانة ويتشرّط ويتأخر ويغالي في الأجرة. أليس يا أخوة بلدنا في حاجة لتأهيل آلاف الشباب على مثل هذه الأعمال، وأليس أن تدل أحدهم على عمل وتعلمه الصيد بدلا من أن تمنحه سمكة من أجل الأعمال وأفضلها قبولا عند الله. تطبيقا للهدي النبويّ في الحديث المروي عن: عن أبي عبدالله الزُّبيرِ بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدُكم أَحْبُلَهُ ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكُفَّ الله بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس، أَعطَوه أو منعوه" [رواه البخاري].
وحين احتدم النقاش قالوا لي ما نفعله من أعمال البر مع مواطني الدول الأخرى: "نستألف قلوبهم لندخلهم الإسلام"، وهل المسلمون بعددهم الملياري أم بتأثيرهم؟ لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال "ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
إن كثيرا من الناس يدخلون الإسلام بقناعاتهم، لا بالسعي إليهم وإقناعهم في عصر الإنترنت والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي. انظروا إلى الحراك العالمي الذي يناصر غزة في محنتها وحصارها وإبادتها إنهم علماء من مسلمين ومسيحيين، ويهود وعلمانيين، وليس ممن استألفتم قلوبهم وتقولون سيصبحون مسلمين.
انتبهوا يا رفاق فإن الرأسمالية العالمية ومن ورائها الحركة الصهيونية تسعى لاستنزاف ثروات بلادكم، ويبنون بلادهم بأموالكم.. فهل من يقظة تحيي الأمة، فالمؤمن القوي خير واحب عند الله من المؤمن الضعيف.
وإلى اللقاء!