محمود شقير وسرّ العبقرية المدهشة
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
أن نكون في القدس، وفي صحبة الكاتب الكبير محمود شقير، فلا أظن أن هناك ما هو أجمل من ذلك، ولا أكثر إبداعا. مدينة وكاتب، أو كاتب ومدينة، ففي كل الصفات نحن إزاء ظاهرة فريدة غير مكررة في الأدب الفلسطيني، بل والعربي أيضا.
لا أجمل من أن تقرأ نصوص محمود شفير، ولا أجمل من سماعه، أما الكتابة عنه، فهي التفكير والشعور، إزاء كاتب الأجيال بدون منازع، فهو منذ الستينيات حتى الآن الكاتب الوحيد الذي استطاع في كافة مراحله العمرية أن يواكب اهتمامات الأجيال جميعا.
هذا على مستوى المضامين، أما على مستوى الشكل الأدبي، واللغة تحديدا، فأية لغة هي لغة هذا الأديب القاص التي ولدت متحررة، واستمرت؛ بما يحقق مفهوم الأدب، بأن المضمون الأدبي الإنساني يخلق شكله ولغته.
فمنذ مجموعتي «خبز الآخرين» والولد الفلسطيني، اللتين صدرتا في منتصف السبعينيات، (ولربما كتب جزءا منهما في عقد الستينيات)، حتى الآن وغدا، والكاتب المقدسي العريق يفاجئنا قراء وكتابا ونقادا بل ومؤرخي الأدب بما بدأ به الكاتب من لغة تعدّ من أهم روافع الإبداع لديه، كونها انطلقت حرة منسابة متحررة من ثقل اللغة والجماليات البلاغية القديمة، فلا تقليد ولا محاكاة بل إبداع نقي خالص بما يبعث على الدهشة، فكيف اعتدى لتلك اللغة منذ البدء علما أن معظم الكتاب يحتاجون زمنا للتخلص من أثقال اللغة وصولا للغة الإبداعية.
في شارع صلاح الدين بالقدس، ونحن نسير، كانت أجواء سردياته عن المكان تحضر، وهو من عايش المدينة على مدار سنوات العمر، ما عدا تلك التي قضاها خارج الوطن منفيا من قبل الاحتلال كمناضل صلب عريق. بحت له بما استخلصته من لغته الفريدة، فتحدث بتواضع جميل قلّ أن نجده اليوم، عن قراءاته لنجيب محفوظ ويوسف إدريس، ككاتبين استخدما لغة إبداعية غير متكلفة ولا مثقلة، ولعلي أضيف هنا أن الكاتب شقير هو أصلا كاتب متحرر وناقد اجتماعي، اختط طريقه الإنساني والوطني والأيديولوجي بعيدا عن التقليد، قد دفع كمناضل ثمنا لمواقفه وصولا إلى إبعاده عن الوطن. بمعنى أن هناك ارتباطا بين اللغة الإبداعية المتحررة وفكره النقدي المتحرر أيضا، إلى جانب اختياراته الأدبية في القراءة والاطلاع.
ولعل المدهش أيضا، أن الكاتب في ظل ميوله الأيديولوجية، المرتبطة بفكره نحو العدالة والتحرر من جهة، وبسلوكه النضالي سياسيا، ووطنيا ضد الاحتلال فيما بعد، لم يكن يوما محددا بفكر محدد، بل إنه وظّف معارفه وأفكاره للتعبير الإنساني الخالص عن الذات والمجموع، وتلك عبقريته الفريدة، التي ارتقت بالأدب عن قيود الالتزام المذهبي.
لذلك يحقّ لنا أن نصفه بكاتب الأجيال والكاتب المجمع على قراءته من مختلف الأطياف الفكرية، بسبب الصدق الفني من جهة، ومواكبة الحياة لا تقف عند اليوم ولا الأمس.
قبل عشرين عاما، تعمق لدي ما أراه من قدرة الكاتب على معايشة الأجيال. بالطبع كنا قد قرأنا للكاتب ما كتبه في الثمانينيات والتسعينيات، وقد كان فيها أيضا مبدعا وتجديديا ورائدا كما في كتابة القصة القصية جدا، مثل طقوس المرأة الشقية عام 1986، والتي وما كتبه من بعدها، حيث نزعم أن القصة القصيرة جدا في فلسطين قد تمت بلورتها على يديه وعلى أيدي آخرين. لكن بعد قراءة «صورة شاكيرا» عام 2003 و«ابنة خالتي كوندليزا» 2004، تعمق لديّ ما قلته، حين وجدت الكاتب يختار مضامين جديدة، ربما تشكل مجالا للكتاب الشباب مثلا، لكن ولأنه ظل كاتبا شابا، فقد وجدناه يظهر لنا مدى اندماجه في المجتمع معايشا للحياة، غير محدد بما مضى. أي أن الكاتب هنا لم يقف عند حدود ما أبدعه، بل تجاوز ذلك كون الأدب من الحياة التي نعيشها أيضا.
لقد أحب الكاتب بلده جبل المكبر، كما أحب مدينته الأولى: القدس، ليست كمدينة مثقلة بالتاريخ بل كمدينة عادية أيضا بالنسبة لطفل يزورها وفتى يدرس فيها، وشاب يعمل فيها ويناضل ويكتب الأدب، فوجدناه، وهو الكاتب الذي تجول في بلاد العالم والتي كتب عنها أيضا «مدن فاتنة وهواء طائش» نشر عام 2005، أقول وجدناه كاتبا أصيلا وصادقا في الاهتمام بالتكوين، حيث وجدنا حياته قد انتقلت إلى السرد، فكان خير سارد عن القدس وتحولاتها المتعددة، فكانت مجموعاته ونصوصه الإبداعية في السيرة: ظل آخر للمدينة1998، والقدس وحدها هناك 2010، وقالت لنا القدس في العام نفسه، ومديح لمرايا البلاد 2012، بل «وأنا والكتابة 2018 السيرة الأدبية للكتابة»، ما يدلل على حب الكاتب للمكان، والذي لم يكتف بوصفه فقط، بل دوما كانت له رسالة تطوير وتغيير اجتماعي وثقافي وسياسي.
ولعلنا هنا نمرّ على علاقة الكاتب بالميلودراما، والتي عرفه الجمهور في الأردن وفلسطين وفي بلاد الشام بشكل عام والدول التي كانت تعرض فيها المسلسلات الأردنية، ولنأخذ هنا المسلسل الشهير «حدث في المعمورة».
لقد أحدث المسلسل في الأردن وفلسطين المحتلة أثرا عظيما يعرفه من عاشه في تلك المرحلة، سواء في التعبير عن المكان والبيئة، أي توطين الأدب، أو في رمزيته الوطنية الذكية، فكانت دراما «حدث في المعمورة» دراما مقاومة، سرعان ما دفعت الجمهور لتحليل أحداث المسلسل والذي كانت فكرته فلسطين المحتلة.
لقد تضافرت عدة عوامل في ظهور كاتب فلسطين المميز محمود شقير، كان من ضمنها وعيه الفكري، ودراسته للفلسفة وعلم الاجتماع، وعمله في الصحافة والتحرير، ونضاله ومطاردة الاحتلال له، ووعيه على اختيار قراءاته فتى وكبيرا. ولعل من حسن الطالع حينما عاد شقير إلى فلسطين كان من أهم مؤسسين وزارة الثقافة الفلسطينية، التي بدأت عملية استعادة التنوير الثقافي من عام 1994 حتى عام 2000.
يمشي محمود شقير في شوارع القدس، هابطا من جبل المكبر الذي ظل وفيا له، لبلدته وأهله، وللقدس المحتلة، يواصل رحلة الأدب كرحلة أمل.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الرواية.. بين الانتصار للحقوق وإملاءات الجوائز
لا تزال الساحة الثقافـية بين ضفتي المتوسط مشغولة بقضية الكاتب الفرنسي الجنسية الجزائري الأصل كمال داود، الحائز مؤخرا على جائزة «غونكور» الفرنسية، التي لا تتجاوز قيمتها المالية أكثر من عشرة يورو، ولكن للجائزة قيمة معنوية تمنح الرواية الفائزة شهرة واسعة فـي البلدان ذات الثقافة الفرنكوفونية، التي تُعد هذه الجائزة إحدى قواها الناعمة والمغرية للكُتّاب بلغة فولتير، مع أن هذه الجوائز تُخضِع الأدب القادم من العالم الثالث لمواصفات وشروط الذائقة الأوروبية والفرنسية على وجه التحديد، كما ذكر ذلك الكاتب الفرنسي جان ــ لو أمسيل فـي كتابه «اختلاق الساحل» الذي راجعه الكاتب بابا ولد حرمه ونشره فـي الموقع الإلكتروني لمركز الجزيرة للدراسات. ويرى الكاتب بأن ذلك الإبداع يستجيب «لشروط وهياكل مسبقة شيدتها فرنسا عبر شبكات تعاونها المتمثل فـي المراكز الثقافـية ووسائل الإعلام والجوائز الأدبية ودور النشر التي تخصص حيزاً كبيراً من جهودها لما يبدعه كتاب ومثقفون ومفكرون ذوو علاقات وطيدة مع النخب الثقافـية والعلمية فـي باريس». وقد عنون الكاتب الفصل الثاني من الكتاب « توطين المثقف الناطق بالفرنسية فـي الساحل» حيث ذكر المؤلف بأن « فرنسا تقتات ثقافـيا على إبداعات وطاقات أبناء القارة السمراء الطافحة بالوعود والحياة» ويتطرق المؤلف إلى تتبع خيوط الروايات الحائزة على الجوائز الأدبية وخاصة جائزة «غونكور» المهتمة بالأعمال المناهضة «للإسلاموية أو الرُهاب من الإسلام وما تخلفه هذه الأعمال من صدى، وما يُـذرف من دموع فـي أرجاء فرنسا حسرة وأسى على مصائر شخوصها من ضحايا الأبوية و«الإسلاموية» والتطرف المناقض للقيم الإفريقية «الأصيلة السمحاء».
هكذا إذن يُقيّم المثقف الأوروبي للجوائز الأدبية التي تمنحها الدول الاستعمارية لمستوطناتها القديمة، ويذُكرنا ذلك بالمثل الإنجليزي القائل «من يدفع للزمار يختار اللحن». فالجوائز الأدبية التي تُمنح الشُهرة للعمل الأدبي، قد تؤثر على المواضيع التي يتناولها الأدب ويُتهم كتابها بالسعي إلى الشهرة على حساب القيم الوطنية والنيل من مكانة الدولة، مع العلم بأن الكتابة التي تدين العنف وتفضحه وتعريه هي كتابة مرحب بها، نظرا لأن وظيفة الأدب ليست المؤانسة والإمتاع، وإنما وسيلة من وسائل الانتصار للمظلوم ورفع الضيم عنه، ولكن للأسف يتم أحيانا توظيف الكتابة لأجندة سياسية قذرة تُستغل وتتحول إلى وسائل ابتزاز وضغط على بعض الدول، وهذا أحد أسباب الجدال «حسب رأيي» حول رواية حوريات، التي منحها محكمو الجائزة ستة أصوات من أصل عشرة للجنة التحكيم.
وبصرف النظر عن مواقف الكاتب كمال داود من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، فإنه لا يجوز محاكمة الكُتاب على أفكارهم شريطة ألا تتحول الكتابة إلى كآبة يتضرر منها آخرون كحال الشابة الجزائرية سعادة عربان (30 عاما) التي أفشت طبيبتها النفسية أسرارها لزوجها الكاتب كمال داوود وحكت الرواية قصتها الحقيقية، فأصبحت سعادة ضحية مرتين. مع التأكيد على أننا لم نكن لنعرف مأساة سعادة لولا رواية حوريات، كما لم نتعرف على مقتل الشاعرة الأفغانية ناديا انجومان التي قتلها زوجها عام 2005، لولا رواية حجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، الذي كشف المعاناة التي تتعرض لها المرأة فـي أفغانستان تحت حكم سلطات قامعة لكل حق فـي الحرية. وهنا تكمن سلطة الكتابة وسطوتها فـي التأثير على الرأي العام، وهنا لا بأس أن تتحول الرواية إلى ساحة جدال.
أما بخصوص الجوائز الثقافـية الغربية فتُعد المأساة الفلسطينية محكا لها وللفاعلين الثقافـيين من كتاب وإعلاميين وأكاديميين، فإما الانتصار للعدالة الإنسانية أو الخضوع لأهواء اللوبيات الداعمة للكيان الصهيوني، والتي تمارس نفوذها فـي المؤسسات الثقافـية الغربية، وهنا نستذكر ونُذكّر بحادثة الكاتبة والروائية الفلسطينية عدنية شبلي التي ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل منحها جائزة «ليبراتور»، بسبب أحداث السابع من أكتوبر. لذلك لا ننتظر من المحكمين لجائزة «غونكور» تتويج أي عمل أدبي يتناول القصص الإنسانية للإبادة الجماعية فـي فلسطين وجنوب لبنان، وغيرها من قصص ضحايا الحروب التي مارسها الغرب حديثا فـي المنطقة العربية.