ألفاظ القرآن ألفاظ حقائق، وليست ألفاظ لغة، أى ليست مُجَرَّد عبارات وضِعَتْ فى قوالب لُغويّة وكفى. وكذلك جاءت خصائص الخطاب النبوي. والفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة، هو فرق بين الحق والباطل. فأنت مثلاً حين تقول لفظة التاريخ، مطلق التاريخ قلت حقيقة. وحين تقول كلمة التجربة، مطلق التجربة قلت حقيقة. ولكن الذى ينقصك التَّحقق بالتجربة والثبوت فى التاريخ؛ فإذا تحققتَ بالتجربة وثبتَّ فى التاريخ بلغت الحقيقة.
وحين تقول: (تجربتى عن هذه الحياة إنها عابثة، وكل من فيها يعبث!) قلت «لغة»، ولم تقل «حقيقة» أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة، هذه اللغة تقبل الكذب كما تقبل الصدق: «وقيل: منها لغِى ولغَى إذا هَذَى، ومصدره اللَّغا». و«لغا يلغو» أتى باللغو من الكلام، وهو ما لم يعتد به، ولا يحصل منه على نفع ولا فائدة.
والخطاب النبوى ليس كذلك، ولكنه خطاب حقائق، صحيح على الدوام، صادق على الدوام، حق على الدوام. غير أن هذه الخَاصَّة النبوية الفريدة تتمثل فى قوله عليه السلام: «أوتيتُ جَوَامع الكَلِم فاختُصرَ لى الكلام اختصاراً»؛ فلكأنما يُشير من قريب إلى أن ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه، إنما هى ألفاظ حقائق مادام قد أُعطىَ جوامع الكَلِم، وليست مُجَرَّد لغة تتردد على الألسنة دون أن تنفذ بين شغاف القلوب، فتحولها من حال فى الحياة إلى حال.
بيد أنها تعبيرٌ عن حقيقة ربما يجهلها المرء لكونه ممّن لا يدركون من الكَلِم سوى شكله البَرَّانى لا حقيقته الخبيئة، لكنه من المؤكد يعلمها فيما لو كان داخل رحاب المعيّة الإلهية لا خارجها.
وبما أن الكلام لا يكون إلا على ضَرْبين: ضرب أنت تصِل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؛ كقولك: خرج زيد، وانطلق عمرو. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدُلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضعه فى اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا على الكناية والاستعارة والتمثيل كما يقول الجرجانى صاحب دلائل الإعجاز؛ فقد جرت العادة بأن يُقال فى الفرق بين الحقيقة والمجاز: إن الحقيقة، أن يُقَرَّ اللفظ على أصله فى اللغة. والمجاز أن يُزَال عن موضعه، ويستعمل فى غير ما وُضِعَ له؛ فيقال أسدٌ، ويُرَاد شجاع، وبحر ويُرَادُ جواد؛ فلئن كان الأمر بهذه المثابة فهو تجوّز فى معنى اللفظ لا اللفظ نفسه، وإنّما يكون اللفظ مُزَالاً بالحقيقة عن موضوعه، ومنقولاً عما وضِع له، فإن مآل الأمر إلى القصد فيه هو المعنى.
غير أن هذا المعنى لا بدّ أن يؤدى إلى حقيقة. مع ملاحظة أن هذه الحقيقة التى يؤدى إليها المعنى غير الحقيقة الأولى التى تعطيها دلالة اللفظ وحده ممّا يقرّه اللفظ على أصله فى اللغة، فإذا كانت الحقيقة الأولى حسيّة منظورة؛ فالحقيقة الثانية التى يؤديها المعنى روحية مغيبة، باقية ثابتة، ذات دلالات ووجوه متصلة بالعطاءات الإلهية وتجلياتها.
ومن جانب آخر، يصف الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعى فى كتابه «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية»، هذه البلاغة النبويّة وصفاً يمنع عنها اللغة بالمفهوم السلبى للغة، ويضفى عليها لفظ الحقيقة، فيقول: لقد رأينا هذه البلاغة النبويّة قائمة على أن كل لفظ فيها هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هى تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتى الكلام كأنه نطق الحقيقة المُعَبّر عنها. ومعلوم أنه عليه السلام لا يتكلف ولا يتعمّل ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد فى بلاغته موضعاً يقبل التنقيح، أو كلمة تقبل التغيير، كأنما بين الألفاظ ومعانيها فى كل بلاغته مقياسٌ وميزان.
ولكن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن من أول وهلة: هل هذا يكفي؟ هل كل ما كان «الرافعي» ذكره، يكفى لإماطة اللثام عن الفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة؟
عندى أن ذلك وحده لا يكفي، ولا يُقرِّر غور هذا الفرق فى واقعه المُقرَّر فى التاريخ وفى التجربة؛ فألفاظ الحقيقة توضحها التجارب ويثبتها التاريخ؛ بل تثبت بالتجربة وتثبت للتاريخ. فنحن هنا بإزاء ثلاثة مستويات: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة. والحقائق فى عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بها كل الإحاطة، وليس يشم منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه. هنالك معانى لها، هذا صحيح، لكنها معانٍ تقريبية للحقيقة، أو هى صور ضئيلة جداً للحقائق تماماً كما أن الألفاظ فى مستواها إنْ هى إلا صور ضئيلة جداً للمعاني؛ فاللفظ فى ذاته يصور جزءاً من المعنى، ولا تصور الألفاظ المعانى كلها. والمعانى فى مستواها كذلك لا تصوّر الحقائق من جميع أطرافها وجوانبها؛ ولا تدركها كل الإدراك ولا تحيط بها كل الإحاطة.
(وللحديث بقية)
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم الخطاب النبوي یصدق علیها الذى ی
إقرأ أيضاً:
برشلونة ودورتموند.. التاريخ يساند من؟
معتز الشامي (أبوظبي)
يُعد برشلونة المرشح القوي للتتويج بلقب دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، قبل مباراة ذهاب ربع النهائي أمام دورتموند، اليوم الأربعاء، وتأهلت كتيبة هانسي فليك بسهولة إلى دور الثمانية بالفوز على بنفيكا 4-1 في مجموع المباراتين، ليصبح الفريق الثالث في التاريخ الذي يصل إلى ربع النهائي 20 مرة أو أكثر، إلى جانب ريال مدريد وبايرن ميونيخ.
وسجل برشلونة 32 هدفاً في «الشامبيونزليج»، وهو أعلى رقم له في موسم، منذ إحرازه 35 هدفاً موسم 2011-2012، بعد موسم 1999-2000 الذي سجل فيه 45 هدفاً، وهو رقم قياسي بالبطولة.
وأسهم فليك في هيمنة برشلونة، وفي 28 مباراة في دوري الأبطال مع البايرن وبرشلونة، سجل فريقه 89 هدفاً، بمعدل 3.2 هدف، وهو أفضل معدل لمدرب في تاريخ البطولة، وقاد رافينيا هجوم برشلونة بنجاح، حيث أسهم بشكل مباشر في 16 هدفاً في 10 مباريات بدوري الأبطال هذا الموسم «11 هدفاً و5 تمريرات حاسمة»، فقط ليونيل ميسي موسم 2011-2012 أسهم في عدد أكبر في نسخة واحدة مع برشلونة «19 هدفاً و14 تمريرة حاسمة».
ويواجه برشلونة دورتموند الذي بدأ يستعيد عافيته بقيادة كوفاتش، حيث يتأخر الفريق 5 نقاط فقط عن التأهل إلى دوري أبطال أوروبا في الدوري الألماني، بعد فوزه على فرايبورج 4-1، ولم يخسر كوفاتش أي مباراة في «الشامبيونزليج» منذ توليه المسؤولية خلفاً لنوري شاهين الذي أقيل في أواخر يناير.
وسبق للفريقين أن التقيا في البطولة هذا الموسم، وكان ذلك خلال مرحلة الدوري، حيث فاز برشلونة 3-2 على ملعب سيجنال إيدونا بارك، حيث ألحق فريق فليك أول هزيمة بدورتموند على أرضه في المسابقة منذ نوفمبر 2021 «3-1 أمام أياكس»، منهياً بذلك أطول سلسلة مباريات له دون خسارة على أرضه في دوري أبطال أوروبا.
خلال قيادته بايرن ميونيخ وبرشلونة، فاز فليك في جميع مواجهاته الست ضد دورتموند، ولم يحقق الفريق الألماني أي فوز في مبارياته الخمس ضد برشلونة في المسابقات الأوروبية «تعادل 2 خسر 3»، ولم يلعب إلا 6 مباريات أوروبية متتالية من دون أن يتغلب على أي خصم أمام فريقين آخرين، أحدهما إسباني آخر «6 أمام ريال مدريد في 2024، إضافة إلى 7 أمام رينجرز في 1999».
يعد برشلونة المرشح الأوفر حظاً للفوز في مباراة الذهاب أمام دورتموند، بنسبة 65.7%، واحتمالات التعادل 18.2%، وفوز دورتموند 16.1%.