#تأملات_قرآنية د. #هاشم غرايبه
يقول تعالى في الآية 111 من سورة التوبة: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
في وصف العلاقة بين المؤمن وربه، استخدم الله تعالى صورة مألوفة لقريش، وهي العلاقة التجارية التي تثمر ربحا يتحقق من الفارق بين قيمة البضاعة المشتراة والقيمة الأعلى المتحققة من بيعها.
البضاعة التي يبيعها المؤمن لله هي ماله ونفسه، والثمن المقبوض هو الجنة.
المؤمن فقط هو من يوقن بأن هذه المقايضة ستحقق له ربحا هائلا، وأضعافا كثيرة لما دفعه، لأنه يعلم أن حياته الدنيوية مؤقتة ومحددة، وفيها أوقات تمر بمعاناة أو ألم أو حزن، أكثر بكثير مما يقضي من الأوقات السعيدة، وسيموت حتما عاجلا أو آجلا، وأن ماله كثر أو قل، سيفقده فور موته.
لذا فهو بالمعيار التجاري، يبيع بضاعة محدودة الصلاحية، وستنتهي هذه الصلاحية مؤكدا قريبا جدا أو بعد فترة لا يعلمها، ولن يكون بإمكانه الاستفادة منها آنذاك مطلقا، لذا فأفضل استثمار لها هو مقايضتها بحياة أبدية يقضيها متمتعا بسعادة خالصة من أي منغص، وينال فيها كل ما يشتهيه، سواء امتلكه في الدنيا أو لم يمكنه الحصول عليه.
أما المكذب بالدين، سواء كان كافرا أو مشركا أو منافقا، فهو رافض لهذا العرض، بسبب شكه في مصداقية حصوله على الثمن، لذلك أكد الله تعالى للمؤمنين في جميع كتبه، أن هذا عقد ألزم به ذاته العلية، وسيفي به حقا وفعليا، لذلك لا يلتفت المؤمنون الى تشكيك معادي منهج الله، لأن الله لا يخلف وعده، فهو ليس كالبشر الذين قد لا يتمكنون من الإيفاء بالعهود إخلافا مصلحيا أو بسب ظروف قاهرة، لكن الله تعالى هو مالك خزائن السموات والأرض، فلا ينقص ملكه عطاء مهما بلغ، وهو مقدر الأقدار ومسبب الأسباب وصانع الظروف، فلا يمكن أن يعيقه شيء عن تنفيذ وعده، لذلك يبشر المؤمنين بالربح المؤكد لبيعهم، وعند نواله سيعرفون انه الفوز الأعظم من كل فوز حققه البشر.
من هذا الفهم كانت بيانات أبي عبيدة والفصائل المجاهدة الأخرى، ولهذا كنا نلمس اللهجة المستبشرة المطمئنة، والتي ختامها: إنه لجهاد، نصر أو استشهاد… فكلا الأمرين بشرى خير وفوز، ولذلك سماهما رب العالمين: احدى الحسنيين، ونتيجة الجهاد محصورة في أحد هذين الفوزين ولا ثالث لهما: “قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ” [التوبة: 52].
في مقابل هذه الصورة المبشرة، هنالك صورة مرعبة للمنافقين، وتوعدهم بأشد العذاب وبالطرد من رحمته وعدم قبول أي استغفار لهم ولا أية شفاعة فيهم حتى لو كانت من رسوله: “اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ” [التوبة:80].
هؤلاء الذين عدهم الله من المنافقين، فنالوا الدرك الأسفل من النار، أي أشد عذابا من الكافرين والمشركين، وهم الذين يتخلفون عن الجهاد في سبيل الله، والذي جعله الله فريضة لا تنقطع الى يوم الدين، بعكس ما يقوله شيوخ السلاطين من أنه لا يجب الا بأمر السلطان، بل هو واجب شرعي، ويكون فرض كفاية في جهاد الطلب، لكنه يصبح فرض عين إن كان جهاد دفع، وهو الذي يتحقق في أحد ظرفين: إما لدفع عدوان أو غزو لأي من ديار المسلمين، أو لطرد المحتل أذا احتل بقعة منها.
ولذلك رأينا من لا يؤمنون بمنهج الله اشتروا الدنيا (سلطة أوسلو)، فيما اختارت التزمت المقاومة المؤمنة بالكفاح المسلح، وصدعت بواجب الجهاد، ولم يثنهم الحصار ولم تخفهم القوة الهائلة لعدوهم، ولم تنتظر عونا من سلاطين الأمة المنافقين الذين باعوا آخرتهم بثمن بخس هو أيام معدودات يقضونها على كرسي الحكم ويكدسون الأموال، لكنهم لا يهنؤون بها فهم مرعوبون، ومحاطون بأطواق حماية من أعداء أمتهم على الدوام، لأنهم يعلمون أنهم مشركون عبدوا أمريكا من دون الله، إذ أطاعوها في معصيته، لكنها أيام ستمر سريعا ثم ينقلبون الى ربهم، وعندها سيولولون ويقولون “مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ” [الحاقة:28-29].
والفرق هائل بين التجارتين.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تأملات قرآنية هاشم
إقرأ أيضاً:
آداب الطعام في الإسلام.. احذر من امتلاء البطن
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن آداب الطعام تهذب النفس وتشير إلى صلاح المتأدب بها وإلى فساد المتخلي عنها، فمن آداب الطعام أن تتوسط درجة حرارته، فلا يكون شديد السخونة ولا شديد البرودة، وأن يأكل الإنسان مما يليه، ولا يملأ بطنه بالطعام، فيترك للنفس والشراب مكانًا.
آداب تناول الطعام من القرآن والسنة.. علي جمعة يوضحه لماذا نشعر بالنعاس بعد تناول الطعام؟وأضاف علي جمعة في منشور له عن آداب الطعام، أن من آدابه أن يحسن الإنسان مذاقه، فنتقي الأطيب والأزكى وقد أشار القرآن الكريم إلى مثالين لتأكيد ذلك المعنى، الأول للعصاة المعاندين لرسولهم، فقال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بَالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) فكان من أخلاقهم أنهم تخيروا الطعام الأقل في الجودة والمذاق والقيمة الغذائية على الطعام الأفضل، بما يشير إلى علاقة بين سوء فهمهم للطعام وتذوقه، وبين عصيانهم وعنادهم ومشغابتهم التي وسموا بها عبر القرون، بما يجعلنا نؤكد على أن للطعام أثر في هذا الكون، في تصرفات الإنسان، وفي الاستجابة لأوامر الله، وفي وضعه الاجتماعي والكوني.
وقد جمع القرآن -في آية واحدة- بين سوء ذوقهم وفهمهم بتخير الطعام الأخس على الأعلى، وبين كبير جرمهم مع الله بقتل أنبيائه، حيث عقب ذلك بقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
أما المثال الثاني فكان للصالحين وهم أهل الكهف، قال تعالى : (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) فهؤلاء الصالحين اهتموا أن يكون الطعام زكيًا طيبًا، بل أزكى الأطعمة التي يمكن أن تشترى بهذه القيمة ، فكان من الممكن أن تكون طول فترة النوم سببًا في عدم الاهتمام بتخير الطعام الأزكى، وكانت شدة الجوع مبررًا لهم لأكل أي شيء دون تميز، إلا أنهم أثبتوا أن أخلاقهم عالية مهذبة، ومن أسباب هذا العلو وذلك التهذيب تخيرهم للطعام الأزكى، فكانوا يتخيرون إذا تحدثوا من الكلام أزكاه، رضي الله عنهم، ونفعنا بهم وبسيرتهم في الدنيا والآخرة.
وفي ذلك كله إشارة لما في الطعام الزكي الطيب من آثار أخلاقية وسلوكية إيجابية تترتب عليه، كما أن الطعام الذي يأتي من الغصب والسرق، وكذلك لا يكون طيبًا في نفسه وفي مذاقه له من الآثار السلبية على خلق صاحبه وسلوكه