رسائل في شكل قرارات ترسخ مخاوف اللاعودة لدى السوريين
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
بينما يواجه السوريون في الخارج ضغوطا متزايدة للعودة إلى سوريا بحكم أنها "آمنة" يبعث النظام السوري برسائل تأخذ في ظاهرها شكل "القرارات" وترسخ في باطنها مناخ الخوف "واللاعودة" إلى البلاد، وفقا لمنظمات حقوق إنسان محلية ودولية.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" نشرتا تقريرا الخميس وثقتا فيه سلسلة "قرارات حجز احتياطي" أصدرتها وزارة المالية التابعة للنظام، منذ بداية 2024.
واستهدفت من خلال تلك القرارات أملاك مئات الأشخاص وعائلاتهم في بلدة زاكية الواقعة جنوب العاصمة السورية دمشق.
وقالت "رايتس ووتش" إن التجميد الجماعي للأصول يشكل "عقابا جماعيا وانتهاكا للحق في الملكية".
وبدوره أوضح مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني لموقع "الحرة" أن القرارات التي صدرت خلال ستة أشهر "تشبه إجراءات السيطرة والنهب".
وأشار عبد الغني إلى أن النظام السوري كان أصدر في السنوات الماضية عدة قوانين "تنتهك حقوق الإنسان" وممتلكات السوريين، واعتبر أنها "عبارة عن نصوص أمنية بامتياز، وتصل إلى نقطة السيطرة".
كرم الخطيب هو أحد أبناء مدينة زاكية وورد اسمه مع عائلته في قرارات "الحجز الاحتياطي" التي أصدرتها وزارة المالية التابعة للنظام السوري، بشكل متسلسل بين شهري يناير ويونيو الماضيين.
ويقول لموقع "الحرة": "سألنا واستفسرنا عن أسباب إصدار القرارات ولم يصلنا أي شيء. الحجز طال كل شيء نملكه من سيارات ومنازل".
ويتابع: "حتى ابن عمي المعتقل حجز على أملاكه وأملاك أخرى لأخوالي وأعمامي وأبنائهم".
يتحدث الخطيب عن قوائم حجز كثيرة وأشبه بـ"عقوبة جماعية"، على حد تعبيره.
ويضيف أنها كانت مفاجئة ولم تقتصر على المعارضين فحسب، بل على شريحة واسعة من نساء ورجال ومعتقلين وأشخاص من أبناء زاكية يقيمون في إدلب وأوروبا ودول أخرى.
ماذا جاء في تقرير المنظمتين؟في تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" كشفت أن ما لا يقل عن 817 مدنيا في بلدة زاكية جنوب دمشق صدرت ضدهم قرارات جماعية بالحجز الاحتياطي، منذ مطلع عام 2024.
وقالت إن "سياسة الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة من قبل النظام تعد أحد أبرز الأساليب الفعَّالة، التي يستخدمها كأداة لتحقيق موارد مالية إضافية لخزينته".
ويستخدمها النظام أيضا "كعقوبة ضد معظم من عارضه وعائلاتهم، عبر تطبيق مزيد من التضييق والقيود القانونية والاجتماعية والاقتصادية ضدهم"، بحسب الشبكة الحقوقية.
وتظهر الوثائق الخاصة بالشبكة الحقوقية " أن المعتقلين تعسفيا والمختفين قسريا في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام والمشردين قسريا داخل وخارج سوريا من أوسع وأبرز المتأثرين بـ"الحجز الاحتياطي".
ويقول مدير الشبكة السورية، عبد الغني إن "الحجز الاحتياطي" ورغم أنه "مصطلح قانوني" يصدره النظام السوري "كقرار أمني ضد شخص مستهدف كمعارض له أو غير ذلك".
ويضيف أن النظام يوظف هذه القرارات ضد معارضيه، وبشكل أساسي النازحين والمختفين قسريا واللاجئين، والمتوفين غير المسجلين في النفوس. وهؤلاء يشكلون نصف الشعب السوري، وفق حديث عبد الغني.
تستند قرارات "الحجز" بحسب "هيومن رايتس ووتش" إلى مرسوم صدر عام 2012.
ويخول هذا المرسوم وزارة المالية تجميد أصول الأفراد على ذمة التحقيق، للاشتباه في الإرهاب، بموجب "قانون مكافحة الإرهاب" الفضفاض في سوريا، وحتى لو لم يُتهموا بارتكاب جريمة.
وأشارت القرارات التي اطلعت عليها المنظمة المذكورة و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى بلاغات منفصلة من الفرع "285" سيئ السمعة التابع لإدارة المخابرات العامة، ومقره دمشق.
كما تضمنت بيانا ختاميا يبرر إجراء "الحجز الاحتياطي" بالإشارة إلى تورط الأفراد في "الأحداث الجارية بالقُطْر".
"استراتيجية أوسع للعقاب الاجتماعي"وقال آدم كوغل، نائب مديرة الشرق الأوسط في "رايتس ووتش": "يبدو أن الطبيعة العشوائية للتجميد الجماعي للأصول في زاكية تعكس استراتيجية أوسع للعقاب الجماعي ضد المجتمعات المحلية في المناطق التي تم استعادتها".
وأضاف أن "استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لتبرير تجميد الأصول والمصادرة غير القانونية هو سياسة متعمدة تهدف إلى الحفاظ على مناخ الخوف والقمع في مناطق المعارضة السابقة".
وبلدة زاكية هي واحدة من المناطق التي استعادتها قوات النظام السوري، بموجب اتفاقيات "التسوية"، التي تم استنساخها لأكثر من مرة قبل 2018 وبعد هذا العام.
ونقلت "رايتس ووتش" عن أحد الرجال الذين وقعوا على تلك الاتفاقيات قوله إن "قرارات الحجز الاحتياطي مزاجية واعتباطية وانتقامية وكيدية بطبيعتها".
وأشار إلى أنه وزوجته كانا مدرجين على القوائم، بالإضافة إلى 19 من أقاربه من الدرجة الثانية.
ويمكن لتجميد الأصول أن يُعرقل بشدة الاستقرار المالي للأشخاص، مما يحد من قدرتهم على الوصول إلى الأموال والحفاظ على الممتلكات وممارسة الأعمال التجارية، وبالتالي يفاقم الصعوبات الاقتصادية وربما يعرقل سبل عيشهم، بحسب "رايتس ووتش".
وقال أحد السكان للمنظمة: "لديّ قطعة أرض مساحتها ثماني دونمات أقوم بزراعتها. أدرِجت ضمن الأصول المجمدة".
وتابع: "والآن لا أستطيع بيعها أو تأجيرها. يمكنهم، بعد فترة، مصادرتها وأخذها. وكذلك الأمر بالنسبة لأصولي المنقولة".
كيف يعود السوريون؟ووفقا لآخر إحصائيات الأمم المتحدة يوجد أكثر من 13 مليون سوري "مهجرون قسرا".
وفي عام 2023 وحده نزح 174 ألف شخص آخرين داخل سوريا، ليصل العدد الإجمالي إلى 7.2 مليون نازح داخليا، و6.5 مليون لاجئ وطالب لجوء في الخارج.
ويعتبر الحقوقي السوري عبد الغني أن "النظام السوري وبموجب قرارات الحجز الاحتياطي يضع يده على ممتلكات السوريين، مما يمهد له سهولة للسيطرة على نحو أكبر".
ويقول إن الإجراء التعسفي الذي لم يقتصر على زاكية فقط "يشكل أحد العوائق الأبرز لعودة اللاجين إلى البلاد".
"بعد فرض الحجز الاحتياطي كيف سيعود الشخص المستهدف"؟ يتساءل عبد الغني، ويعتبر أن "النظام لا يرغب بعودة اللاجئين والنازحين وهو ضد عودتهم بدون أدنى شك".
ورغم التأكيدات المستمرة من جانب الأمم المتحدة بأن "سوريا غير آمنة لعودتهم" اتجهت دول مؤخرا لإطلاق "حملات إعادة طوعية" تراها منظمات حقوق إنسان "قسرية"، وأن آلياتها تنطوي على الكثير من المخاطر والترهيب والتضييق.
وإلى جانب إجراءات "الحجز" كانت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" وثقت ما لا يقل عن 4714 حالة اعتقال تعسفي لعائدين من اللاجئين والنازحين على يد قوات النظام السوري، منذ مطلع 2014 وحتى شهر يونيو 2024.
وتقول "رايتس ووتش" إنها وثقت في السابق استخدام النظام السوري ترسانة من الأدوات التشريعية للاستيلاء على الممتلكات الخاصة للسكان دون وجه حق، ودون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التعويض.
وتشمل هذه القوانين المرسوم 63 لعام 2012.
وبحسب المنظمة فإن مثل هذه القوانين تخلق عوائق كبيرة أمام عودة اللاجئين والنازحين الراغبين في استعادة ممتلكاتهم وإعادة بناء حياتهم.
كما أنها تعقّد جهود إعادة الإعمار الدولية، نظرا لأن الشركات المشاركة في عمليات الهدم أو إعادة تأهيل المباني يمكن أن تواجه خطر المساهمة في انتهاكات حقوق الإنسان والتهجير القسري، إذا كانت تتعامل مع ممتلكات استولى عليها النظام السوري بشكل غير قانوني.
"المحطة الأولى أمنية"يوضح عبد الغني أن قرار الحجز الاحتياطي يخرج أولا من الأجهزة الأمنية والأفرع ويرسل إلى المخابرات العامة ومن ثم إلى مكتب الأمن الوطني.
وبعد ذلك يرسل "مكتب الأمن الوطني" كتابا لوزارة المالية بفرض حجز احتياطي على الشخص المستهدف.
ويقول الحقوقي السوري إن "وزارة المالية تحولت إلى واجهة للنهب والسرقة للأجهزة الأمنية".
ويضيف أن "قرار الحجز الصادر عنها يصدر استنادا للكتاب الأمني، وليس بناء على تحقيق قضاء أو انتهاك أو بموجب التعريف القانوني لتجميد الأصول".
ويعرّف قانون مكافحة الإرهاب في سوريا "الإرهاب" بشكل فضفاض بطريقة تسمح للحكومة بتصنيف أي فعل تقريبا كجريمة إرهابية، وفقا لما ورد في تقرير "رايتس ووتش".
وتقول المنظمة إنه ومن خلال معاقبة الأشخاص لمجرد قرابتهم العائلية مع الشخص المتهم، وليس استنادا إلى مسؤوليتهم الجنائية الفردية، فإن تنفيذ وزارة المالية للمرسوم 63 يشكل أيضا "عقابا جماعيا"، وهو أمر محظور في جميع الظروف بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
هل من فرصة للطعن؟وبموجب قانون العقوبات السوري يُعرّف الحجز الاحتياطي بأنه: "وضع مال المدين تحت يد القضاء، لمنعه من القيام بأي عمل قانوني أو مادي من شأنه أن يؤدي إلى استبعاده أو استبعاد ثماره من دائرة الضمان العام للدائن الحاجز".
ورغم أنه لا يعتبر إجراء تنفيذيا تغيّرت آلية تطبيقه بعد مرسوم رئيس النظام السوري، بشار الأسد رقم 63 لعام 2012.
وخوّل المرسوم وزارة المالية تجميد أصول الأشخاص تحفظيا ودون أمر من المحكمة، وذلك بناء على طلب من سلطات الضابطة العدلية وحتى انتهاء التحقيق في "الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي"، والجرائم المنصوص عليها في قانون "مكافحة الإرهاب" التعسفي في سوريا الصادر عام 2012.
ويعتبر المهندس مظهر شربجي، الذي شغل سابقا رئيس شعبة المهندسين بريف العاصمة دمشق أن قرارات "الحجز الاحتياطي" تشير إلى بداية "ضغوط وابتزاز".
ولا يستبعد أن تنتهي بمصادرة ممتلكات السوريين، وخاصة المعارضين الذين يقيمون في الخارج.
ويوضح شربجي لموقع "الحرة" أنه توجد إمكانية للطعن والاستئناف.
لكنه يردف أن الأمر ليس سهلا، كون أي مراجعة أو استفسار عن المواضيع العقارية بعد 2011 يتطلب الحصول على "موافقة أمنية".
ويوضح من ناحية أخرى بالقول: "الحجز الاحتياطي غالبا ما يكون ناتجا عن نكشة صغيرة (أمر وسبب بسيط). لكن أهداف النظام أكبر من ذلك وقد يستهدف من خلال الإجراء أي شخص يعارضه".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الحجز الاحتیاطی مکافحة الإرهاب وزارة المالیة النظام السوری حقوق الإنسان رایتس ووتش عبد الغنی عام 2012
إقرأ أيضاً:
المخاطر المحيطة بالثورة السورية
سمعت من أستاذنا أحمد تهامي عبد الحي، المعتقل ظلما في سجون السيسي منذ حزيران/ يونيو 2020، لأول مرة مقولة "الفترات الانتقالية مقبرة الثورات". والتاريخ القريب لما تسمى ثورات الربيع العربي وكذا ما بعدها في الجزائر والسودان، خير شاهد على صدق الكلمة وواقعيتها، ولم يبق أمامنا نموذج في المنطقة سوى هذا النموذج الوليد في سوريا، ونرجو أن يتلافى أخطاء هذه الدول سريعا وأن يدرسها جيدا وهي نصب عينيه، لا دراسة هامشية، ونرجو ألا يتجاهل الدراسة اغترارا بفوارق التجارب بين المجتمعات، أو مسارات التغيير، أو طبيعة النُّظم التي سقطت.
كانت التجربة المصرية تمثِّل نموذجا شديد الوضوح لتسبب الفترة الانتقالية في تضييع مكاسب إسقاط نظام مبارك، فهناك طرفان عمِلا على إنهاء الثورة بسبق إصرار وترصّد، وهما قوى خارجية إقليمية ودولية، وقوى النظام الراحل. كما عمل أبناء الثورة من التيارات السياسية على إفشالها ربما دون قصد، لكن حساباتهم الذاتية لم تكن نقيَّة على الإطلاق.
لم تختلف هذه التركيبة في جميع تجارب التغيير في المنطقة، فهناك أطراف إقليمية ودولية ومحلية ترفض هذا التغيير لاعتبارات ترجع إلى مصالح كل طرف منها، وهناك تجاذبات سياسية بين القوى التي قادت الحراك، انتهت إلى وجود ثغرات في الرافعة التي انتصرت بها مطالب التغيير، وولجت منها الأطراف المعادية، لتهدم كل شيء.
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011، والارتباك الذي تبعه والتستُّر في مجابهة حراك الشعوب. أما الوضع الحالي فتُهاجَم فيه بوضوح الثورة السورية من الأطراف الإقليمية الاستبدادية، ولعل أحد أبرز تجلياتها حديث نديم قطيش، مدير قناة سكاي نيوز العربية التي تبث من الإمارات، وقال إن الدول العربية لن تسمح بوجود مصر ثانية، وأن هناك استعدادا لدفع أعلى الأثمان لأجل ذلك.
هذا الخطاب؛ "دفع أعلى الأثمان"، لا ينبغي على السوريين أن يتجاهلوه ويتعاملوا معه باعتباره تهديدا لكسب مساحات، أو أن النجاح العسكري لهم لن يسمح بإفشال ثورتهم، فالسلاح يمكن أن يُقابَل بالسلاح، والتشكيلات المضادة يمكن إنشاؤها أو تقويتها في مناطق كثيرة، ويكفي بضعة مئات من المسلحين لزعزعة استقرار النظام السياسي بشدة والمطالبة بإسقاطه. وهذا التهديد ليس لانتزاع مواقف، أو كبح جماح الحكام الجدد، بل هو تعبيرُ عداءٍ صريح، ومسار لن يتوقف بغرض تدمير الدولة، وتعميق كراهية وخوف المجتمعات من عملية التغيير السياسي للأنظمة الحاكمة.
عندما هُزمنا في مصر وانتكس مسار الديمقراطية، ساهم ذلك في هزيمة باقي قوى الثورات، إذ أصبح القرار المصري مرتهنا لدى من دعموا الانقلاب وأوصلوا المنقلِب إلى سدة الحكم، وهذا الترابط بين مصائر الدول يجعلنا نخشى على مصير ثورة سوريا، فنجاحها نجاح لنا، وهزيمتها هزيمة لنا، من هنا نجد الجرأة على التحدث في شؤون بعضنا بعضا، لوَحدة المصير، ولاشتراك الغاية في التخلص من الأنظمة المستبدة.
إذا تحدَّثَتْ الثورةُ المهزومة إلى الثورة المنتصرة، فأول نصائحها ستكون التنبيه إلى رعاية المجتمع وظروف معيشته، وإذا كان هناك مقياس مُرَقَّم فستكون أولوية ذلك على المقياس من الأول إلى التاسع، وعاشرا تأتي السياسة والأيديولوجية والأفكار وأي شيء آخر. فالمجتمع يحتاج إلى ضمان مأكله ومشربه ومعيشته وأَمْنِه، وضعْ ألف خط تحت أمنه، كما أن المجتمع هو الحاضنة الشعبية للأنظمة المستجيبة لتطلعات الشعب بمختلف تكويناته، والمجتمع دائما وأبدا هو الرِّدْء من الانقلابات، ولا يمكن الالتفاف على رغبته إذا كان متمسكا بنظام ما، مهما كانت الضغوط تجاه هذا النظام. ويتزامن توفير الاحتياجات مع مسار فضح الترتيبات التي تُحاك ضد عملية التغيير، مع مراعاة ألا يكون فضح الترتيبات بمجرد الحديث دون إيقاف لها أو لبعضها، فهذا سيُظهر النظام الجديد ضعيفا لا يستطيع أن يمنع المشكلات ويكتفي بالشكاية.
كذا، يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار، والانتباه لهذا الخيط مهم، فالقسوة تجاه من يريد تدمير الدولة وفق مخطط وترتيب، لا تعني قمع المتحمسين لنظام حر وديمقراطي لدولتهم، وقطعا لن يرضى السوريون جميعهم بالحكام الجدد، وهذه طبيعة المجتمعات، فالاحتجاج ضد نظام الحكم لا مفر منه، إلا أنه شتان بين من يحتج بغرض الإفساد ومن يحتج بغرض تحسين وضع الدولة.
يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار
هذا الفارق لا يكون بتفتيش الضمائر، بل بيقظة أجهزة الدولة، وتكون القسوة في هذه الفترة فقط مبرَّرَة كالطبيب الذي يعالِج مدمن المخدرات، فالطبيب يعطي في البداية جرعات محدودة من هذه المخدرات بغرض منعها في النهاية. وقد شهدنا في مصر مناخا من التظاهر الفوضوي الذي تخللتْه اشتباكات مسلحة، وهجمات في مناسبات متعددة على رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزراء آخرين، وغير ذلك من أشكال الفوضى المتعمدة، وتعمُّد ترسيخ فكرة ضعف الحاكم الجديد، وأن الشعب همجي لا يصلح له إلا حاكم عسكري. وهذه الرخاوة ساهمت في إفشال الثورة المصرية، لكن مرة أخرى، إذا كان القمع سمة عامة للنظام، ومحاولة فرض توجه واحد، فإن مآل النظام السقوط كسابقه، وبسرعة لن تتجاوز بضعة أشهر مقابل نظام استمر عقودا.
كذلك ستعمل دولة الاحتلال بكل السبل لهزيمة هذه الثورة، كما فعلوا في مصر، وتكررت الشهادات عن قيام الاحتلال بدور شركة علاقات عامة للترويج للانقلاب المصري، خاصة لدى إدارة أوباما، وبالتالي تكونت شراكة استراتيجية بين السيسي والاحتلال، وجاء رد الجميل في مواقف متكررة، وآخرها الموقف المصري المخزي والمتواطئ في العدوان على قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية والعربية.
إن التوغل الصهيوني في الأراضي الصهيونية بمثابة عملية تقويض للثورة، وأخذ مكاسب جغرافية-عسكرية، وجس نبض للحكام الجدد، ومع الإدراك الواضح لعدم إمكانية الدخول في مواجهة مع الاحتلال الصهيوني في تلك المرحلة، فلا أقل من خوض مواجهة سياسية شرسة أمام الانتهاكات المتكررة، والاحتلال الجديد، في جميع المناسبات، وتفعيل أجهزة الدفاع الجوي المتبقية امام الانتهاكات الجوية، إذ قد يمثل هذا الاحتلال سببا من أسباب السخط المؤدي إلى إسقاط النظام، وعدم خوض مواجهة مسلحة لا يعني الصمت المطبق للنظام أمام هذه الانتهاكات.
الإشكال الآخر الذي قد يواجه الحكام الجدد، هو الفصائل المسلحة، ومدى التزامها بتسليم السلاح، وبقبول الاختيار الشعبي عند الاحتكام للصندوق. ولعل الحلَّ الوحيد هو حلُّ الفصائل جميعها، والإسراع بدمج من سيظَلُّ مسلحا من أفرادها في الجيش السوري الوطني، مع تشتيت قوات كل فصيل داخل المؤسسة، وعدم استبعاد المعارضين من العسكريين السابقين من إدارة الجيش، بل وضعهم على رأسه، باعتبارهم أكثر دراية بطبيعة إدارة المؤسسة.
كذا سيمثِّل التنوع السوري تحديّا هائلا للحكام الجدد الذي ينتمي معظمهم لتيار سلفي لديه تفسيرات دينية توصف بأنها متشددة، والحق أن المدرسة الدينية السورية التقليدية شديدة الرقي والوعي، ولا تختلف عن مدرسة الأزهر في مصر والزيتونة في تونس، والاستفادة منها في الأمور الاجتماعية ستحل كثيرا من الإشكاليات، وستزيل كثيرا من المخاوف لدى الطوائف الأخرى، وأيضا لدى السوريين العاديين الذين اعتادوا التعايش مع أفكار مؤسسات دينية كمعهد الفتح في دمشق.
لقد كانت ثورات عام 2011 مفاجئة للعالم، وأدت المفاجأة إلى ارتباك الأطراف قبل اتخاذ موقف متكامل ومتبلور تجاه عملية التغيير، أما الحالة السورية، فقد تضافرت عوامل عدة أدت إلى وجود اتفاق برفع الحماية عن الأسد، وبالتالي وُضِعتْ الاستعدادات لترتيب إفشال الحراك قبل نجاحه. وهذا الكلام ليس اتهاما لهؤلاء القادمين الجدد، ولا تقليلا من تضحيات السوريين، بل هو توصيف للواقع الذي تشير كل علاماته إلى أن ترتيبا إقليميّا ودوليّا اضطرت معه إيران وروسيا أيضا للاشتراك فيه وعدم مد يد العون للأسد، والغرض من ذِكْر ذلك؛ تأكيد أن هذه الترتيبات تعني الاستعداد لإفشال المسار الديمقراطي قبل محاولة وضع أي أساس له، ما يستدعي التنويه والتنبيه.