الفاشية اللافكرية الجديدة كما فضحها أمبرتو إيكو
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
يقدم لنا أمبرتو إيكو في كتابه "التعرّف على الفاشية"، الصادرة ترجمته إلى الفرنسية قبل أشهر عن دار غراسيت، مقالة طويلة امتدت إلى أزيد من 60 صفحة يصف فيها الفاشية من خلال 14 سمة مميزة، مؤكدا أن ظهور بعضها لا بد أن يؤدي إلى عودة "فاشية جديدة" قد تكون أكثر قسوة وأذيّة من فاشية موسوليني التي ولد في حقبتها.
الكتاب في أصله خطاب ألقاه أمبرتو إيكو باللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا عام 1995، بمناسبة الذكرى الخمسين لتحرير أوروبا، نشرت مقتطفات منه لاحقا في مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأميركية، عاد فيه إيكو بذاكرته إلى تجربته الشخصية مع الفاشية الموسولينية. فبعكس النازية لم يكن للفاشية الموسولينية أساس أيديولوجي قوي ومتماسك، ولم تُبن على فلسفة واضحة يدعمها فكر يؤسس لها، بل كانت مجرد خطاب كراهية مفرط في العنصرية لا غاية منه إلا توفير الوسائل والسبل من أجل إبقاء الداعين إليه في السلطة، عبر خلق "بعبع الآخر" الذي لا بد أن يصوّر للشعب على أنه مصدر الشر الوحيد الذي لا مفر من القضاء عليه.
كتاب "التعرّف على الفاشية" لأمبرتو إيكو صدرت ترجمته إلى الفرنسية قبل أشهر عن دار غراسيت (الجزيرة)اللافكرية التي تتسم بها الفاشية فضلا عن خلوّها من أي بعد فلسفي أو أيديولوجي أمر يجعلها تشبه الفيروس الناشئ من القذارة السياسية، ومثل هذا الفيروس كثيرا ما ينتشر بفضل خطاب الكراهية الذي عادة ما يكون ديدن الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا خاصة، على غرار ما حدث في فرنسا مع خطاب مارين لوبان زعيمه حزب التجمع الوطني الذي كاد يكتسح الساحة الفرنسية لولا تحالف الأطياف السياسية الأخرى ضده، وهو خطاب لا يمتثل لأي نوع من المبادئ.
فمثلما أشار إيكو في كتابه إلى أن موسوليني بدأ ملحدا متشددا ثم انتهى بفتح ذراعيه لاستقبال الأساقفة الذين يباركون الرموز الفاشية، نجد لوبان في فرنسا تحالفت مع اللوبي الإسرائيلي ضد كل ما هو عربي أو مسلم من أجل الوصول إلى السلطة، رغم أنها تمثل أقصى اليمين الذي يعدّ نظريا ضد السامية، وهو ما يؤكد حقيقة أخرى ذكرها إيكو في كتابه، تتمثل في الفاشية على غرار كل فكر متطرّف، ينتشر بسهولة في أي مجتمع تتعايش فيه عناصر ذات طبيعة مختلفة في صراع مفتوح صامت في معظم الأحيان، يتميز بمطالب تكاد تكون متناقضة.
باسم الحرية.. أذبحكيؤكد إيكو أن المناخ السياسي الأوروبي بسبب طبيعة أنظمته يوفر دائما حاضنة للفاشية الجديدة التي أصبحت مصطلحًا يتكيف مع كل شيء ومع كل وضع، لأنها في النهاية عقيدة المتعطش للسلطة الراغب في استئصال الآخر المختلف عنه، والذي يعتقد أنه السبب الأول والأخير في عرقلة مسيرة بلده. فالفاشية فيروس يتألم وفق كل نظام وأي نظام كما يقول إيكو "انزع من النظام الفاشي الإمبريالية وستحصل على فرانكو وسالازار، انزع منه الاستعمار وستحصل على الفاشية البلقانية. أضف إلى الفاشية الإيطالية معاداة الرأسمالية الراديكالية (التي لم تجذب موسوليني أبدًا) وستحصل على عزرا باوند. أضف عبادة الأساطير القلطية (التي كانت غريبة تمامًا على الفاشية الرسمية) وستحصل على واحد من أكثر المعلمين الفاشيين احترامًا، يوليوس إيفولا".
تجد لتأملات إمبرتو إيكو في الفاشية صدى فكريا قويا ليس بسبب اطلاعه وموسوعيته في الموضوع فحسب، بل أيضا لأنه عاشها من كثب، إذ وُلد تحت حكم موسوليني، وفي سن العاشرة فاز بالجائزة الأولى في ليندي يوفينيسلس، المسابقة الإجبارية التي أطلقها نظام موسوليني ليشارك فيها جميع الشباب الإيطاليين وقتئذ دون استثناء.
وعن ذلك يقول إيكو "في عام 1942، عندما كنت في العاشرة من عمري، فزت بالجائزة الأولى في مسابقة Ludi Juveniles (مسابقة بمشاركة إلزامية للشباب الفاشيين الإيطاليين، أي لجميع الشباب الإيطاليين). لقد كتبت بأسلوب بلاغي مميز عن الموضوع: هل يجب أن نموت من أجل مجد موسوليني والمصير الخالد لإيطاليا؟ وكانت إجابتي نعم. كنت فتىً صغيرًا ذكيا جدا".
اعتراف قاس ومؤلم رغم محاولة إيكو إلباسه أسلوبا ساخرا يعبّر حتما عن المرارة التي سعى من خلال كتابه "التعرف على الفاشية" أن يجنبها لجميع صغار العالم وشبابه، ممن قد ينخدعون بأنظمة بعينها وبخطاب قد يدعو في ظاهره إلى المساواة والحرية وحق الشعوب في اختيار مصيرها، لكنها في الحقيقة أنظمة تسعى لخلق عالم مستعبد وموجّه، ولعل هذا ما دفع إيكو إلى تحديد غاية كتابه في أنه محاولة لتشريح هذا النوع من الخطاب المتقلّب، من خلال إدراك حقيقة أولى تتجلى في أن "الفاشية البدائية المتمثلة في فاشية موسوليني يمكن أن تعود تحت أشكال تبدو بريئة. واجبنا هو كشفها والإشارة إلى كل شكل جديد لها كل يوم، في كل جزء من العالم"، كما يقول إيكو.
أمبرتو إيكو كتب عام 1995 مقال "الفاشية الدائمة" حيث أدرج إيكو 14 خاصية يعتقد أنها تشمل الأيديولوجيات الفاشية (غيتي) السمات الـ14 للفاشيةتغيير الفاشية لشكلها لا يعني استحالة كشفها، بل إنها رغم طابعها الحربائي تشترك في جميع أشكالها، حتى تلك التي لم تظهر بعد، في 14 سمة يعتقد إيكو أنها تمثل جوهر كل نظام فاشي، وهي: عبادة التقاليد، رفض الحداثة بالمطلق، اللاعقلانية، رفض النقد والفكر النقدي، الخوف من التنوّع، العمل على إحباط الطبقات الوسطى، تصوير الخصوم كأعداء بقوة مفرطة يمكن هزيمتهم، تكريس فكرة الحرب الدائمة وضرورة الاستعداد لها دائما، تكريس الفكر الشعبوي والعمل على تبرير احتقار كل طبقة للطبقة التي تخضع لها، ابتكار بطولات جماهيرية ولو وهمية، استعمال الخطاب السهل الشعبوي في مخاطبة الشعب، تقديس ما يسمى بالزعامة والرجولة، إعمال "الشعبوية النوعية" في مواجهة إنكار الحقوق الفردية.
تظهر أهمية كتاب أمبرتو إيكو "التعرّف على الفاشية" في إعادة بعث حقيقة أصبح الإعلام الغربي يتلاعب بها ويُلبسها كثيرا من الغموض، تتمثل في أن الحرية والتحرّر واجبان لا يملكان تاريخ انتهاء صلاحية، بل مستمران ما دامت المظالم مستمرة، ليس على مستوى الأفراد فحسب، بل أيضا على مستوى شعوب برمتها.
ولعل أبرز مثال في القرن العشرين والقرن الحالي هو الشعب الفلسطيني وطريقة تعامل الإعلام الغربي معه، فالحرية والتحرر مصطلحان يفقدان معناهما تماما كلما ذكرت فلسطين، بل حتى الإبادة الجماعية التي يتعرض لها هذا الشعب والمستمرة يوميا لم تعد تشغل بال الغرب وأنظمته في أغلبها، التي في سياستها تجاهه تتبنّى عن إدراك أو من دونه العديد من السمات التي ذكرها إيكو في كتابه بخصوص الأنظمة الفاشية، وهي بلا شك تناصر الكيان الأكثر فاشية في العالم، وتسمح له ليس بصمتها فحسب بل بأسلحتها أيضا أن يمارس بحق الفلسطينيين أقذر ما يمكن ممارسته من تقتيل وإبادة واغتصاب وغيرها من جرائم حرب.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات ف على الفاشیة إیکو ف
إقرأ أيضاً:
مع صدور كتابه "في قلب اللحظة".. جمال الكشكي يؤكد: العرب لم يخرجوا من التاريخ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تقام ندوة لمناقشة كتاب "في قلب اللحظة" للكاتب الصحفي جمال الكشكي، ضمن فعاليات الدورة السادسة والخمسين، من معرض القاهرة الدولي للكتاب، يناقشه المفكر السياسي د. مصطفى الفقي، والكاتب السياسي ورئيس مجلس إدارة الأهرام د. محمد فايز فرحات، ويدير الندوة الصحفي عمرو خفاجى، وذلك يوم الأحد 26 يناير في الثالثة عصرا، بقاعة فكر وإبداع بلازا 1.
"لا بد أن نكون في "قلب اللحظة" فالعرب لم يخرجوا من التاريخ أو يفعلوا، كما كتب المفكر المصري الشهير فوزي منصور لحظة يأس ذات مرة" هذا ما يدعو إليه الكاتب الصحفي جمال الكشكي في صدر كتابه الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعنوان "في قلب اللحظة.. حدود ملتهبة ونظام عالمي جديد".
ويشير في الوقت ذاته إلى أن البعض من الممكن أن يردد أن فلسطين تنزف منذ ثمانية عقود، واشتد نزيفها منذ السابع من أكتوبر 2023، وتتعرض للإبادة، وطمس قضيتها من قبل مجموعة إسرائيلية متطرفة، مع وجود مجلس أمن دولي عاجز، وقوى دولية ترعى المعتدي. يرى الكشكي أن لكل بداية نهاية، وفلسطين الدولة والشعب تقترب، فكيف يكون الخروج من كل ما يجري حولنا ولنا، هنا يشير إلى تجربة مصر في 30 يونيو 2013، وتأمل كيف نهضت، وكيف صارت مثلا فريدا، وكيف كتبت خطابا مختلفا، قرأته المنطقة العربية بعناية، وسوف تتعافى بهذا الخطاب قريبا.
يتوقف الكشكي كثيرا عند ما يجري في السودان وليبيا، وكيف يغرقان في بحار من الحروب والعنف، ويعانيان من التدخلات الخارجية، وهبوط الميليشيات بمظلات خارجية وإقليمية، وهنا يجيب قائلا: إن هذين البلدين يشكلان بجانب مصر، أضلاع المثلث الذهبي، ومهما يكن من أمر جرى أو يجري، فإن مصر هي النواة الصلبة لهذا المثلث، كما أنها النواة الصلبة للإقليم ككل، وستواصل مثالها الفريد، انعكاسا طيبا على هذين الشعبين الشقيقين، ليعودا طاقة متجددة من الإبداع الإنساني. الغربال لا يحجب ضوء الشمس. ويكشف بتحليل سياسي دقيق أن "الشمس تقترب من الشروق في الإقليم العربي، وسنرى العراق، وسوريا واليمن ولبنان، ومنطقة القرن الإفريقي وهي عائدة، سنرى المغرب العربي قوة جديدة، تضاف إلى ميراث العرب المتجدد، سنرى تطور الخليج العربي كقوة اقتصادية واجتماعية، تسهم في فتح شرايين الإقليم، كضرورة وحتمية". هل يمكن أن نتفاءل قليلا؟
هكذا يتساءل الكاتب الصحفي جمال الكشكي، موضحا أنه متفائل بظهور نظام عالمي مختلف، ومتفائل بطبعة جديدة من العدالة الدولية، وإن بدت للعيان بعيدة، ومتفائل بإنتاج هندسة جديدة للإقليم العربي. في هذا الكتاب، محاولة للإبحار في تيارات الأمم السياسية، ونظرة فاحصة على الدور الأمريكي المترامي على المسرح الدولي، وتأمل في مآلات الحرب الأوكرانية- الروسية، وقد توقف الكاتب طويلا عند القضية الفلسطينية بتعقيداتها الدولية، وتساءل عن ماهية النظام العالمي المحتمل، وقد اقترب.
الكتاب محاولة جادة تغوص تحت جلد السودان وليبيا، وضرورة إنقاذهما من الغرق المرتب بفعل متغيرات وتيارات داخلية وخارجية، وأولا وأخيرا هو قراءة دقيقة في لحظة مصر، أمة ودولة وإقليما، وارتباطها الوثيق بكل ما يجري في الإقليم والعالم، وكيف أنها تمتلك رؤية إستراتيجية للإقليم، تقوم على إدراك معرفي عميق، بأهمية إعادة هندسة الإقليم طبقا لمصالحه الإستراتيجية.