المعارضة ماضية بمبادرتها رغم السلبية.. على ماذا تراهن؟
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
منذ اليوم الأول الذي أطلقت فيه المعارضة ما سُمّيت بـ"خارطة الطريق لإنجاز الاستحقاق الرئاسي"، واصطلح على وصفها في الأوساط السياسية بـ"مبادرة المعارضة"، بدا واضحًا أنّ الأفكار التي انطوت عليها لن تفضي إلى أيّ "خرق" على مستوى الاستحقاق الرئاسي، خصوصًا في ضوء الأصداء السلبية التي قوبلت بها، لدى الأصدقاء والخصوم على حدّ سواء، والتي جعلت كثيرين يحكمون عليها بـ"السقوط التلقائي".
لكن، على الرغم من هذه الأصداء غير المشجّعة، أصرّت المعارضة على المضيّ بمبادرتها حتى النهاية، فحذت حذو من سبقوها على خطّ المبادرات، لتجول على مختلف القوى السياسية الممثَّلة في البرلمان، وتعرض ما لديها من أفكار وطروحات، حتى إنّها طلبت موعدًا من كتلتي "الوفاء للمقاومة" و"التنمية والتحرير"، ليُحدَّدَ لها يوم الجمعة المقبل، وسط تساؤلاتٍ عمّا يمكن أن يضيفه على المشهد، في ظلّ المواقف المعروفة للجانبين.
مع ذلك، فإنّ إصرار المعارضة على المضيّ بمبادرتها التي بدت بحكم "المنتهية" منذ اليوم الأول لإطلاقها، يطرح سلسلة من علامات الاستفهام، فعلى ماذا تراهن عمليًا للتمسّك بها، وهل تهدف فقط لحشر خصومها، عبر الإيحاء بأنّها من يبادر، وأنّهم من لا يتجاوب؟ وأيّ أبعاد للقاء بين المعارضة و"الثنائي" تحديدًا، من وجهة نظر كلّ طرف؟ وما حقيقة الفرضيّات التي تُحكى عن خطوات ستعلنها المعارضة بعد انتهاء لقاءاتها؟
دلالات لقاء "الثنائي"
قبل الحديث عن "رهانات" المعارضة، وما تتوخّاه من خلال التمسّك بمبادرتها، ولو بدا غير بنّاء، يتوقف العارفون عند اللقاء المنتظر بينها وبين ممثلي "الثنائي الشيعي"، وهو لقاء يصفه كثيرون بـ"الجدلي"، علمًا أنّ بعض التسريبات تحدّثت عن انقسام في صفوف المعارضة نفسها حول مقاربته، بين من كان رافضًا لطلب الموعد من الأساس، باعتبار أنّ مثل هذا اللقاء بلا جدوى، ومن دفع باتجاهه، باعتبار أنّه "يخدم الهدف" أكثر من الاستثناء.
من هنا، تأتي أهمية هذا اللقاء في منظور المعارضة، التي تقول أوساطها إنّ مجرّد طلب اللقاء يؤشر إلى "جدية المقاربة"، ويؤكد "عدم الانغلاق" على الخصوم، خلافًا لما يروّجه هؤلاء، الذين ذهبوا لحدّ اعتبار المبادرة "مصوّبة ضدّهم"، علمًا أن هذه الأوساط تشير إلى أنّ "تأخير الموعد" من قبل "الثنائي" إلى يوم الجمعة لم يكن مؤشّرًا إيجابيًا، ولو ربطه البعض بذكرى عاشوراء، إذ أوحى أنّ "الثنائي" ليس مستعجلاً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
في المقابل، يقول المحسوبون على "الثنائي" إن الأخير أراد حصول اللقاء، رغم موقفه السلبي من بيان المعارضة الذي لا يرقى برأيه لصفة "المبادرة"، وذلك للتأكيد على انفتاحهم على "التشاور والحوار" مع الجميع، علمًا أنّ الجلوس على طاولة واحدة مع قوى المعارضة، ولو لنقاش مبادرتهم، يدحض في مكانٍ ما، الكثير من الفرضيات التي يعتمدونها لتبرير رفضهم للحوار، ومنها عدم الاستعداد للجلوس مع "حزب الله" بالمُطلَق.
ما بعد "المبادرة"
باختصار، ينظر "الثنائي" إلى مبادرة المعارضة بوصفها "غير جدية"، ويعتبرها "محاولة بائسة" من المعارضة لرمي الكرة في ملعب "الثنائي"، في حين يدرك القاصي والداني أنّها من يعطّل الاستحقاق الرئاسي برفضها الحوار والتشاور، فيما تعتبرها المعارضة "دليلاً ملموسًا" على أنّ التعطيل هو سمة "الثنائي"، فها هو يرفض التجاوب مع المبادرة، رغم أنّها تقوم على التشاور الذي ينشده، وذلك لأسباب "شكلية" ترتبط بمن يرأس الحوار مثلاً.
في كلّ الأحوال، يبدو ثابتًا وفقًا للعارفين، أنّ المبادرة بلا أفق، بمعزل عن الاستثمار والتوظيف السياسي الذي بدأ باكرًا، وهو ما كان واضحًا منذ اليوم الأول، وقد تولّت كتلة "اللقاء الديمقراطي" التعبير عنه صراحةً بعد لقاء وفد المعارضة، ليبقى السؤال عمّا يمكن أن يعقب "سقوط المبادرة" من خطوات وإجراءات، وسط تسريباتٍ عن نيّة المعارضة الذهاب في التصعيد إلى مرحلة متقدّمة، لفرض الانتخابات الرئاسية على المعسكر الآخر، من دون أعراف وبِدَع.
ممّا يُحكى في هذا السياق إمكانية الذهاب إلى "استقالة جماعية" لنواب المعارضة، وهو طرحٌ تقدّم به أحد النواب علنًا، لكنّ أوساط المعارضة التي تدعو إلى انتظار ما بعد الجمعة للحديث عن الخطوات والسيناريوهات المحتملة، على قاعدة "لكل حادث حديث"، تستبعد اللجوء إلى خيار الاستقالة إذا لم يكن "مضمونًا سلفًا" أنه سيؤدي إلى شيءٍ ما، فإذا لم تفض لحلّ مجلس النواب تصبح بلا جدوى، بل تتحوّل إلى "هدية مجانية" لمعسكر "الثنائي".
ليس خافيًا على أحد أنّ مبادرة المعارضة لن تقدّم أو تؤخّر في معادلة الانتخابات الرئاسية، بل إنّ هناك من يعتقد أنّ من طرحوها لم يفعلوا ذلك لإحداث "الخرق"، بقدر ما أرادوا إبعاد كرة المسؤولية عن أنفسهم، وربما إحراج الخصوم في مكان ما. لكن بعيدًا عن التحليل والتفسير، يبقى الثابت أنّ الوقت لم يعد مناسبًا للمزيد من الاستغلال والاستثمار والاتهامات، بل لتجاوز كل الشكليات من أجل التفاهم، وهنا كلمة السرّ الحقيقية!
المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي
المعارضة التونسية بين رهان السياسي و"وجدان" القاضي
عادل بن عبد الله
بصرف النظر عن التوصيف الدستوري لإجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021 -هل هي انقلاب أم قراءة ما فوق دستورية- فإن تلك الإجراءات قد أعادت هندسة المشهد العام بصورة تجاوزت المستوى السياسي الصرف. ولأسباب يمكن ردها إلى ضعف المعارضة وهشاشة مخرجات الانتقال الديمقراطي من جهة، وإلى الدعم النشط من القوى الإقليمية المتوجسة من نجاح التجربة التونسية من جهة ثانية، استطاع الرئيس -بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وأذرعها المختلفة- أن يجمّع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد القرار 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وهو ما أعطى للمراسيم والقرارات الرئاسية سلطة لا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، كما خوّل ذلك المرسوم للرئيس "حصريا" سلطة إصدار القوانين لتنظيم المحاكم وكذلك مراجعة إجراءات التقاضي.
بدخول الدستور التونسي الجديد حيز التنفيذ إثر الاستفتاء الشعبي العام سنة 2022، أصبحت "السلطة" القضائية مجرد "وظيفة" مثلها في ذلك كمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولم يكن تغير التسمية مجرد مسألة لغوية، بل كان تعبيرا عن رهان سياسي مداره شرعية "التأسيس الثوري الجديد". فالرئيس لا يعتبر "تصحيح المسار" تأسيسا لسلطة جديدة، بل هو إعادة لها إلى صاحبها الأصلي، أي الشعب. وهذا الشعب -حسب أنصار تصحيح المسار- هو الذي فوّض "الخبير الدستوري" قيس سعيد ليمارس السلطة باسمه مرتين: مرة أولى سنة 2019 عند انتخابه رئيسا من خارج النخب السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، ومرة ثانية عند تأييده لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.
ومهما كان موقفنا من الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 ومن مدى التزامها بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة، فإن فوز الرئيس قيس سعيد قد جاء ليُشرعن سردية التفويض الشعبي وليدفع بـ"حرب التحرير الوطني" إلى مرحلة اللا عودة، خاصة من جهة علاقة المنظومة الحاكمة بأغلب الفاعلين الاجتماعيين المعارضين، أي بأولئك الذين جاء "تصحيح المسار" لإنهاء الحاجة إليهم وإلى أجسامهم الوسيطة وديمقراطيتهم التمثيلية.
في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، لا يكون توحّد الجبهة الداخلية ضد "الخونة" و"المتآمرين" و"الفاسدين" خيارا، بل هو واجب وطني لا يمكن لأي "وظيفة" من الوظائف الثلاث ألا تنخرط فيه دون أن تكون عرضة هي الأخرى لتهمة الخيانة/ العمالة. وهو ما وضع الوظيفة القضائية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاشتغال بمنطق "الوظيفة" التابعة للوظيفة التنفيذية، لا بمنطق السلطة المستقلة، وهو ما يعني أن يتخلى القاضي عن وجدانه ثقةً في وجدان السياسي والأمني حتى إن لم يكن ذلك الوجدان مسنودا بأدلة وبراهين، وإما أن يحافظ على استقلال "وجدانه" فيصبح عندها محل استهداف مباشر من السلطة التنفيذية كما وقع لعشرات القضاة المعزولين أو المعاقبين بنقلات تعسفية وغيرها. فتبرئة من وقر في وجدان السياسي و/أو الأمني أنهم مذنبون يجب "تطهير" البلاد منهم، تعني أنّ القاضي "شريك لهم" كما صرّح بذلك الرئيس نفسه.
للرد على بيان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الداعي إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير"، لم يجد النظام التونسي ممثلا في وزارة الخارجية تعبيرا أفضل من "بالغ الاستغراب". فالمفوض الأممي فولكر تورك يبني انتقاداته للنظام التونسي على "مغالطات"، ذلك أن الرواية الرسمية للنظام ما زالت متمسكة باستقلال القضاء وبتوفير الضمانات القضائية للمتهمين، كما أن النظام ينكر الطبيعة السياسية للقضايا ويعتبرها مجرد "قضايا حق عام" لا علاقة لها بأنشطة أصحابها الحزبية والسياسية والإعلامية ولا بممارستهم حرية الرأي والتعبير. وإذا قرأنا هذا الموقف الرسمي في سياق المحاكمات السياسية الحالية التي قد تصل بعض العقوبات فيها إلى الإعدام، سيكون من الواضح أن لا نية للسلطة للتراجع عن المقاربة الأمنية-القضائية لحل القضايا السياسية.
بمعنى من المعاني، يبدو أن النظام قد اختار المضيّ في المحاكمات الحالية ردا على دعوات الحوار الوطني وإظهارا لقدرته على فرض خياراته السلطوية الأحادية. فما لا يفهمه العديد من السياسيين والمحللين هو أن الحوار والتشاركية والاعتراف بتعدد الشرعيات والرمزيات والإقرار بدور الأجسام الوسيطة.. كل ذلك يعني نهاية "تصحيح المسار" وفقدانه لعلة وجوده أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج. ولذلك يواصل النظام سياسة الهروب إلى الأمام ويرفض الاعتراف بأي حاجة لتعديل خياراته الكبرى سواء في السياسة (الديمقراطية المباشرة) أو في الاقتصاد (الشركات الأهلية).
إن إدارة ملف المعارضة السياسية بمقاربة أمنية-قضائية مسنودة بإعلام مدجّن ليس خيارا جديدا في الساحة التونسية، بل هو إعادة إنتاج لخيارات سابقة منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية. ولا شك في أن التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" وبين الرأسمال البشري/الفكري للمنظومة القديمة يجعل من التفكير في بدائل للمقاربة الأمنية أمرا مستبعدا.
عندما كان القضاء "سلطة" فإنه كان نظريا محكوما بجملة من القواعد مثل أن القاضي لا يحكم بعلمه، وأن الإدانة أو التبرئة يكونان بما "استقر في وجدان المحكمة". ولكن انتقال القضاء من سلطة إلى وظيفة في ظل سردية "التأسيس الثوري الجديد" وسردية "حرب التحرير" تجعل القاضي محمولا على الحكم بعلم السلطة وما يستقر في وجدان السياسي والأمني بصرف النظر عما يستقر في وجدانه بعد الاطلاع على ملف الإحالة. فالقاضي -مثل جميع موظفي الدولة- هو الآن في خدمة "مشروع سياسي"، وإلا في معارضته إذا ما خالف انتظارات المنظومة الحاكمة منه.
ولا شك في أن لكل احتمال من الاحتمالين كلفة أخلاقية وقانونية يتحملها القضاء وسائر المواطنين سواء في الوضع الراهن أو في المستقبل. وإذا كان وجدان القضاء قبل "تصحيح المسار" غير مطابق للقلب السليم -أي خاضعا لاعتبارات وتدخلات من خارج الملفات ذاتها- فإنه على الأقل كان قادرا على ضمان نوع من الاستقلالية بحكم تعدد مراكز السلطة والسلطة المضادة. ولكنّ تمركز السلطة وغياب السلطات المضادة في ظل "تصحيح المسار" يجعلان من ذلك الوجدان القضائي مسيجا بوجدان السياسي والأمني، وخاضعا للسلطة التنفيذية التي تجعل الوجدان الصافي للمحكمة خيارا لا يستطيع إلا القليل من القضاة تحمل كلفته.
x.com/adel_arabi21