"يقدم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نفسه كنبي في مهمة تبليغ رسالته، وقد تحوّل إلى عنوان لعبادة صوفية حقيقية تبشر بانجراف ديني متنام، بلغ ذروة جديدة مع محاولة الاغتيال التي استهدفته يوم 13 يوليو/تموز الحالي".

بهذه الجملة افتتحت مجلة لوبس تقريرا بقلم سارة هليفا لوغران مراسلتها الخاصة في فرجينيا، وصفت فيه زيارة لكنيسة غريبة تحتوي على نوافذ زجاجية ملونة، وبها غابة من اللافتات التي تمجّد ترامب مثل الصلبان في الحديقة، وهي مدينة ترامب كما يظهر الاسم على الواجهة المبنية من الطوب.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دعوة الرئيس الكيني للحوار مع المعارضة تختبر وحدتهاlist 2 of 2هآرتس: القدس دون مياه وستصبح غزة أخرىend of list

"ندخل هذا الحرم -كما تقول المراسلة- متجاهلين التحذير (إذا لم تكن مع ترامب (لا تدخل) فأنت تتعدى على ممتلكات الغير)، فيندفع نحونا كلب عليه حروف قديس المكان، وهو مدرب على عض الشيوعيين. ينظر إلينا رجل في زي راعي البقر بقبعة القش وأحذية ترامب الرياضية الذهبية التي أطلقها في الربيع لتضخ مالا جديدا في خزائنه".

في هذا المكان -كما تقول المراسلة- "يقدر المؤمنون الحقيقيون الذين يعبدون ترامب أننا في كنيسة قديمة، عند مدخلها يضع ويتي تايلور ذراعه من وراء ترامب وميلانيا بالحجم الطبيعي من الورق المقوى، وحولهما مئات الحلي والأعلام واللافتات والقبعات والقمصان والتماثيل تحت مصابيح إكليل متعدد الألوان".

زعماء دينيون يضعون أيديهم على كتفي ترامب في وقت يتضرعون فيه للمتضررين من إعصار كاترينا 2017 (رويترز) أكثر تعصبا من أي وقت مضى

أصبحت الكنيسة التي يعود تاريخها إلى قرن من الزمان، معبدا مخصصا للنبي ذي القبعة الحمراء -كما تقول الكاتبة- لأن الأمر كله يتعلق بالرب، وفيها يشكل أتباع ترامب، الذين أصبحوا أكثر تعصبا من أي وقت مضى، نوعا من الأخوة الدينية تحت راية حركة "ماغا" (أميركا أولا)، وهو شعار ترامب الذي أصبح صرختهم الحاشدة، ومع محاولة اغتيال بطلهم، وصلت حماستهم إلى درجة الحمى.

ويتم إطلاق العنان للعواطف في هذا المكان الذي يعج بصور ترامب وهو يرفع قبضته وأذنه اليمنى تنزف دما ويصرخ "لنقاتل.. لنقاتل"، لأتباعه المذهولين بعد أن نجا بأعجوبة من رصاصة قناص متمركز على السطح.

أحد مؤيدي ترامب يحمل صورة له خلال مظاهرة دعم للرئيس السابق بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (رويترز)

وبالنسبة لبقية أميركا -كما ترى المراسلة- أدى هذا الهجوم الفاشل الذي خلّف قتيلا وجريحين، إلى دفع الحملة الرئاسية إلى مياه العنف السياسي العكرة، ولكنه بالنسبة لترامب يعد تطورا مسرحيا يمكن أن يعزز فرصه في الفوز، وبالنسبة لعبّاده يعد معجزة رفعت معبودهم بشكل نهائي إلى مصاف الشهداء.

من هؤلاء العباد -كما تقول المراسلة- هذا المسيحي الإنجيلي ويتي تايلور، الذي سمع الوحي الإلهي عام 2015 على حلبة سباق في فلوريدا كما يزعم، "أخذت الكتاب المقدس من الآية الوحيدة التي يخبرنا فيها الرب أنه يجب علينا أن ندعوه. وذلك عندما طلب مني مساعدة دونالد ترامب".

وقد اشترى ويتي تايلور ألف قميص، وطبع عليها شعار "اختر الأفضل واطرد البلهاء"، وعلى ظهره كتب "أخيرا شخص لديه فحولة"، وفي أول تجمع انتخابي لترامب باعها كلها، وافتتح كنيسته التذكارية في هذه التلال المحافظة للغاية في ولاية فرجينيا.

واليوم، يجمع راعي البقر الذي يرتدي الحذاء الرياضي الذهبي، ما لا يقل عن 10 آلاف دولار أسبوعيا بفضل "المؤمنين بترامب"، وهو مثل 30% من الأميركيين مقتنع بأن ترامب أصبح رئيسا بمنة من الرب، "إنه رجل العناية الإلهية. نجتمع حوله كما لو كان كنيستنا. شعارنا هو: الرب والعائلة والوطن والبنادق".

لوبس: الهجوم الفاشل دفع الحملة الرئاسية إلى مياه العنف السياسي العكرة، ولكنه بالنسبة لترامب يعد تطورا مسرحيا يمكن أن يعزز فرصه في الفوز، وبالنسبة لعبّاده يعد معجزة رفعت معبودهم بشكل نهائي لمصاف الشهداء

وفي هذه الأثناء، حضر بريان غلوتزباخ لشراء لافتة "يسوع هو مخلصي، وترامب هو رئيسي"، وهو ميكانيكي طيران شارك في هجوم أنصار ترامب على مبنى الكابيتول، وهو -كما تقول المراسلة- لا يعرف تايلور، ولكنهما بدآ يمزحان بعد دقيقتين مثل الأصدقاء القدامى، لأنهما مثل جميع أتباع "ماغا"، لديهما المرجع نفسه واللغة ذاتها والإخلاص نفسه للمعلم.

وأشارت المراسلة إلى أن الحماسة التي أثارها ترامب عام 2016، كانت تحمل شيئا دينيا، ولكنه بعيد عن الدافع الصوفي اليوم، ويبدو أن ترامب بنى عبادة حول نفسه من خلال تقديم نفسه على أنه رجل العناية الإلهية والمضحي لأميركا التي هي على وشك الانهيار، وهو يصور نفسه على أنه نبي أرسله الرب لقيادة "حركة ماغا" في "المعركة النهائية" ضد قوى الشر.

ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن ترامب بصوته أن الرب نظر إلى الجنة التي كان يعدها، وقال "أنا في حاجة إلى راع. والرب أعطانا ترامب"، والآن بعد أن نجا من رصاصة قناص، ظهر في صورة المعجزة وهو يقول "إن الرب وحده هو الذي منع حدوث ما لا يمكن تصوره. لن نخاف، ولكننا سنبقى مقاومين بإيماننا ومتحدين في وجه الشر".

بي جونز: إنهم لا يقدسون ترامب بوصفه رجلا، بل بوصفه رمزا. والرمز لا يتعدى ولا يكذب ولا يعتدي على النساء جنسيا. لقد تجاوز المرشح ليصبح طوطما

الطوطم

تغادر المراسلة عالم ويتي تايلور ومعها الحذاء الرياضي الذي طلب منا تسليمه إلى أحد أصدقائه، وعندما تصل إلى هناك يستقبلها مزارع عجوز في مطبخه وهو يرتدي قبعة ترامب 2024 وقميصا، ويقول "منذ عام 2016 أرتدي زي ترامب كل يوم تقريبا".

تسلم المراسلة المزارع العجوز صندوق الأحذية، فيقوم وبحماس بخلع حذائه البالي ليرتدي حذاءه الرياضي الذهبي، وهو يقول إن جماعته كلها تصوّت لصالح ترامب "باستثناء سيدتين تبلغان من العمر 90 عاما تعتبران نفسيهما ديمقراطيتين لكنهما لم تدركا أن الحزب قد تغير منذ قرن من الزمان".

وتتساءل المراسلة ماذا يجدون فيه حتى يقدسوه إلى هذا الحد؟ ليرد كارل "أعتقد أن دونالد ترامب رسول من الرب. لأن ما يقوله هو الحقيقة نفسها"، وعند تنبيهه إلى أن الأخلاق مشكوك فيها، يقول "ليس هو أول مرسل من الرب يكون ناقصا. إنه يضحي بنفسه لإنجاز مهمته. إنه معذور".

ويشير رئيس المعهد العام لأبحاث الدين روبرت بي جونز إلى "أنهم لا يقدسون ترامب بوصفه رجلا، بل بوصفه رمزا. والرمز لا يتعدى ولا يكذب ولا يعتدي على النساء جنسيا. لقد تجاوز المرشح ليصبح طوطما".

طائفة جديدة

وتشير لافتة ترامب 2024 الضخمة إلى مدخل مرآب ستيف لويل، وهو مسيحي إنجيلي يصلي كل يوم من أجل الرئيس السابق، وكان يعلم جيدا -كما يقول للمراسلة- أن "شيئا ما سيحدث لترامب"، ولم يتفاجأ عندما رأى الدم يسيل على خده، وهو يحذر قائلا "سيحاولون مرة أخرى. لقد صلب يسوع بالفعل".

ويرى هذا الميكانيكي -كما تقول المراسلة- أن الأمة الأميركية تتولى مهمة مقدسة تتمثل في الحفاظ على المسيحية، وربما أرسل الرب ترامب لأن عدد المسيحيين البيض انخفض من 73% من السكان عام 1972 إلى 46% عام 2021.

وكان رئيس الحزب الجمهوري في مقاطعة بوتيتورت ستيف دين ينتظر المراسلة، وهو مستعد "للدفاع عن أميركا ضد الشيوعيين"، لأنه -كما يقول ظل مخلصا لـ"ماغا" (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) منذ عام 2016، لكنه لم يدرك إلا مؤخرا أن "هذه الحركة ثورة ثانية تقودها يد الرب وستستعيد سلطة البلاد".

ومع تنصيبه مرشحا عن الحزب الجمهوري، ها هو ترامب أقرب من أي وقت مضى إلى تنفيذ "مهمته المقدسة". كان ستيف دين يود أن يكون في الحفلة في ولاية ويسكونسن لحضور تتويج رجل العناية الإلهية، لكنه لم ينل شرف عرض تذكرة الدخول عليه، فالنبي يختار رسله، وعزاؤه أن "حركة ماغا لن تتوقف عند ترامب".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات ترجمات

إقرأ أيضاً:

ثمن سياسات القوة التي ينتهجها ترامب

إيفو دالدر ـ جيمس م. ليندسي

انتهى عهد السلام الأمريكي، ونشأ النظام الدولي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة إثر الهجوم الياباني على بيرل هاربور في السابع من ديسمبر 1941، وانتهى مع تولي دونالد ترامب ولايته الثانية، حيث كان الرئيس يؤكد باستمرار أن هذا النظام يضر بالولايات المتحدة، إذ يحملها مسؤولية مراقبة العالم بينما يمنح حلفاءها الفرصة للعب دور الضحية. وأثناء جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ لتأكيد تعيينه، صرح وزير الخارجية ماركو روبيو قائلًا: «إن النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد مجرد نظام قديم، بل تحول إلى سلاح يستخدم ضدنا».

يعكس تشكيك ترامب في دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا وتايوان، وسياسته الحمائية القائمة على فرض التعريفات الجمركية، وتهديده باستعادة قناة بنما، واستيعاب كندا، والاستحواذ على جرينلاند، رؤيته لعالم تسوده سياسات القوة ومجالات النفوذ على غرار القرن التاسع عشر، حتى وإن لم يصرّح بذلك صراحة، فقد كانت القوى الكبرى آنذاك تسعى إلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، متجاهلة إرادة الشعوب الخاضعة لحكمها، وهي رؤية يتبناها ترامب بوضوح. فهو يرى أن المصالح الأمريكية خارج نصف الكرة الغربي محدودة، ويعتبر التحالفات عبئًا على الخزانة الأمريكية، ويؤمن بضرورة فرض الهيمنة على الجوار الإقليمي. وتعكس رؤيته للعالم نهجًا مستمدًا من فلسفة ثوسيديديس، الذي قال: إن «الأقوياء يفعلون ما بوسعهم، والضعفاء يعانون ما ينبغي عليهم تحمله».

رغم الإنجازات الاستثنائية التي حققها عهد السلام الأمريكي، مثل ردع الشيوعية، وتحقيق ازدهار عالمي، وترسيخ السلام النسبي، فقد زرعت الأخطاء الأمريكية بذور انهياره قبل صعود ترامب بوقت طويل. فقد أدت الغطرسة السياسية إلى حروب باهظة الثمن ومهينة في أفغانستان والعراق، فيما زعزعت الأزمة المالية عام 2008-2009 الثقة في كفاءة الحكومة الأمريكية وسياستها الاقتصادية؛ لذا، ليس من المستغرب أن يشعر بعض الأمريكيين بأن بلادهم قد تحقق نجاحًا أكبر في نظام عالمي مختلف، تحكمه القوة لا القواعد. وبما أن الولايات المتحدة تمتلك أكبر اقتصاد عالمي، وأقوى جيش، وموقعًا جغرافيًا استراتيجيًا، فقد تبدو مؤهلة للنجاح في مثل هذا النظام.

لكن هذا النهج يحمل في طياته نقطة ضعف جوهرية غالبًا ما يغفلونها وهي: قلة الخبرة في ممارسة سياسة القوة العارية. فهذا الأسلوب غريب على الولايات المتحدة، لكنه مألوف لمنافسيها. فقد ظل الرئيس الصيني شي جين بينج ونظيره الروسي فلاديمير بوتين مستاءين من النظام الأمريكي لأنه قيّد طموحاتهما الجيوسياسية، وتعلّما كيفية التنسيق لمواجهة النفوذ الأمريكي، لا سيما في الجنوب العالمي. وعلى عكس ترامب، لا يواجه كلاهما قيودًا داخلية تحد من سلطتهما.

في الواقع، تطلع ترامب إلى كندا وجرينلاند له جذور تاريخية في السياسات الأمريكية، فقد حلم الجيل المؤسس للولايات المتحدة بضم كندا؛ إذ صرح الرئيس السابق توماس جيفرسون في مستهل حرب عام 1812 بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بأن «الاستحواذ على كندا هذا العام ... لن يكون أكثر من مجرد مسألة زحف». واستمر هذا الطموح في أربعينيات القرن التاسع عشر من خلال شعار «54-40 أو القتال»، في إشارة إلى خط عرض الحدود الجنوبية لإقليم ألاسكا، الذي كان آنذاك تحت الحكم الروسي، والمطالبة بضم مناطق شاسعة من شمال غرب المحيط الهادي في كندا.

من جهة أخرى، فكّر الرئيس أندرو جونسون في شراء جرينلاند من الدنمارك بالتزامن مع شراء الولايات المتحدة لألاسكا من روسيا عام 1867، فيما أعاد الرئيس هاري ترومان طرح فكرة الشراء سرًا عام 1946، مشيرًا إلى القيمة الاستراتيجية للجزيرة. في الواقع، تستند دعوة ترامب في خطاب تنصيبه إلى «توسيع أراضينا» إلى رؤى مماثلة لأحلام «القدر الواضح». كما أن هدفه بزيادة نفوذ واشنطن في نصف الكرة الغربي يحمل منطقًا استراتيجيًا. فلطالما كانت قناة بنما مسارًا بحريًا أساسيًا للتجارة الأمريكية، حيث يمر عبرها نحو 40% من إجمالي حركة الحاويات في الولايات المتحدة، ويُقدَّر أن ثلاثة أرباع السفن التي تستخدم القناة إما أن تنطلق من الولايات المتحدة أو تتجه إليها. وإذا وقعت القناة تحت سيطرة قوة كبرى أخرى، فقد يتعرض أمن الولايات المتحدة للخطر.

وفي الوقت نفسه، ازدادت الأهمية الاستراتيجية لجرينلاند مع تفاقم تغير المناخ، وهي الظاهرة التي يسخر ترامب من وجودها رغم تأثيرها الواضح. فمن المتوقع أن يؤدي ذوبان الغطاء الجليدي في القطب الشمالي إلى فتح ممر ملاحي شمالي جديد، مما سيزيد من التحديات العسكرية في شمال أمريكا الشمالية. كما تحتوي جرينلاند على احتياطيات ضخمة من المعادن الحيوية التي تحتاجها الولايات المتحدة لدعم تقنيات الطاقة النظيفة. أما فيما يخص كندا، فإن ضمها كولاية أمريكية سيؤدي نظريًا إلى إزالة الحواجز التجارية بين البلدين، مما قد يعزز الكفاءة الاقتصادية ويحقق فوائد اقتصادية لكلا الجانبين.

ومع ذلك، تمكنت واشنطن من تحقيق العديد من هذه الأهداف الاستراتيجية دون اللجوء إلى التهديدات. فقد نجح رئيس بنما، خوسيه راؤول مولينو، في حملته الانتخابية بفضل وعوده بتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة. وتخضع جرينلاند، باعتبارها إقليمًا تابعًا للدنمارك، للمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، ما يضعها تحت مظلة الحماية الأمنية للحلف. كما تستضيف الجزيرة قاعدة بيتوفيك الفضائية (المعروفة سابقًا باسم قاعدة ثولي الجوية)، وهي منشأة عسكرية أمريكية في الشمال. وأظهر سكان جرينلاند اهتمامهم بجذب الاستثمارات الأمريكية بدلًا من الصينية لدعم اقتصادهم.

أما اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، التي تفاوض عليها ترامب خلال ولايته الأولى، فقد عززت التكامل الاقتصادي بين الولايات المتحدة وكندا، ومن المقرر مراجعتها عام 2026، مما يتيح فرصة لتعميق هذا التعاون. لكن هذه الأدوات الدبلوماسية، مثل بناء التحالفات، وتعزيز الأمن الجماعي، وإبرام اتفاقيات التجارة، تمثل السمات الأساسية للنظام العالمي الذي تخلّى عنه ترامب الآن.

يسعى ترامب بوضوح إلى محاكاة النهج الذي يتبعه. فهو يرى في بوتين وشي نظيرين له، بينما لا ينظر إلى زعماء الحلفاء مثل شيجيرو إيشيبا في اليابان، أو إيمانويل ماكرون في فرنسا، أو كير ستارمر في المملكة المتحدة بالطريقة ذاتها. إضافة إلى ذلك، يبدو أن ترامب مستعد للتنازل عن مجالات النفوذ لصالح الصين وروسيا، شريطة أن تردا الجميل. فهو لا يبدي اعتراضًا على إشعال فتيل الحرب في أوكرانيا، إذ ألقى باللوم على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وليس بوتين، في اندلاعها. ويفضل إنهاء الحرب عبر اتفاق يمنح روسيا أجزاء من الأراضي الأوكرانية ويمنع انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي.

يبدو أن ترامب مرتاح لفكرة تقليص التحالفات التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تمتد إلى مناطق نفوذ روسية وصينية مفترضة. فقد شكك مرارًا في جدوى حلف شمال الأطلسي، متهمًا توسعه بأنه السبب في استفزاز روسيا لغزو أوكرانيا، كما هدد بسحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية. وبالنسبة له، فإن هذه التحالفات ليست سوى استثمارات فاشلة تُثقل كاهل الولايات المتحدة بتكاليف حماية دول، يرى أنها في الوقت ذاته تسرق وظائف الأمريكيين.

وعلى غرار بوتين وشي، يعتقد ترامب أن القوة الاقتصادية ينبغي أن تُستخدم كأداة ضغط لانتزاع التنازلات من الدول التي لا ترضيه. فكما استغل بوتين النفط والغاز الروسيين لترهيب أوروبا، وكما استخدم شي نفوذ الصين التجاري لإخضاع دول مثل أستراليا واليابان، يعتمد ترامب على التعريفات الجمركية لإجبار الشركات المحلية والأجنبية على نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة. كما ينظر إلى هذه الرسوم كوسيلة لفرض إرادته على الدول في قضايا أخرى. على سبيل المثال، تواجه المكسيك تهديدًا بزيادة التعريفات الجمركية إن لم تستجب لمطالب ترامب بوقف تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. كما هدد باستخدام «القوة الاقتصادية» لضم كندا، وحذّر الدنمارك من مواجهة رسوم جمركية أعلى إن رفضت بيع جرينلاند.

كان مؤسسو النظام العالمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية يؤمنون بأن الرسوم الجمركية المرتفعة لا تؤدي إلا إلى تأجيج النزعات القومية الاقتصادية والصراعات الدولية. أما تهديدات ترامب، فهي تنذر بعصر جديد، حيث يحل الترهيب الاقتصادي محل التجارة الحرة والتعاون الدولي كأدوات للهيمنة.

من غير المرجح أن تحقق مقاربة ترامب نجاحًا يُذكر. فقد توافق كندا والمكسيك، على الأقل رمزيًا، على بذل مزيد من الجهود لتأمين حدودهما، كما سيزور زعماء الحلفاء واشنطن لإبداء رغبتهم في العمل مع أمريكا بقيادة ترامب. ومع ذلك، فإن العودة إلى سياسات القوة في القرن التاسع عشر لن تحقق النتائج التي وعد بها.

تعجز الولايات المتحدة عن ممارسة سياسة القوة الصريحة لأن الصين وروسيا تتقنانها بشكل أفضل. فقد استغلت بكين وموسكو الاستياء العالمي من واشنطن، متهمة إياها بالنفاق في دعم أوكرانيا مع تجاهل صراعات أخرى، مثل حرب غزة. ومع اعتماد ترامب على التهديدات لابتزاز الحلفاء، قد يتراجع الدعم الأمريكي دوليًا.

كما أن الصين في موقع قوي لمنافسة النفوذ الأمريكي، مستفيدةً من مبادرة «الحزام والطريق» ونهجها القائم على المنفعة المتبادلة، بينما يطالب ترامب الدول بتقديم تنازلات دون مقابل. ومع انسحاب واشنطن من المؤسسات الدولية، تسرع بكين في ملء الفراغ، ما يعزز مكانتها عالميًا.

على الصعيد الداخلي، يواجه ترامب قيودًا سياسية مقارنةً بنظيريه الصيني والروسي، حيث تفرض بكين وموسكو سيطرة شبه كاملة على شعبيهما، مما يسمح لهما بتنفيذ سياسات قاسية، كما فعل بوتين في أوكرانيا. في المقابل، لا يستطيع ترامب فرض مثل هذه السلطة دون إثارة ردود فعل عنيفة، كما أن المجتمع الأمريكي أكثر عرضة للتأثير الأجنبي. وإذا قوبلت سياساته بمعارضة داخلية قوية، فقد يواجه مصيرًا مشابهًا لجونسون ونيكسون في حرب فيتنام، حين أضعفت الاحتجاجات مصداقية التهديدات الأمريكية، مما شجع الخصوم على الصمود أمامها.

يعتمد موقع الولايات المتحدة في عالم تحكمه سياسة القوة على قرارات القوى الأخرى. فاقتناع بوتين وشي بدورهما القيادي قد يدفعهما إلى ارتكاب أخطاء، مثلما أسهمت سياسات الصين العدوانية وغزو روسيا لأوكرانيا في تعزيز تحالفات واشنطن. ورغم استياء بعض الدول من الولايات المتحدة، إلا أن خوفها من الصين وروسيا يخدم المصالح الأمريكية.

أما حلفاء أمريكا في آسيا وأوروبا، فسيحاولون استرضاء ترامب بالتنازلات، لكنه سيستغل ذلك لتعزيز نهجه القائم على القوة دون تبني دور القيادة العالمية. وللتأثير على سياساته، عليهم إظهار قوتهم، إذ لم يعد «السلام الأمريكي» قائمًا، وعادت سياسة القوة. وإذا وحدوا جهودهم، فقد يحدّون من أسوأ قراراته الخارجية ويمهدون لنظام عالمي أكثر استقرارًا. أما الفشل، فسيؤدي إلى عالم أكثر اضطرابًا وخطورة.

مقالات مشابهة

  • العـدد مـئتـــان واربعة وخمسون من مجلة فيلي
  • زيلينسكي يصل أميركا للقاء ترامب والمعادن النادرة على الطاولة
  • ماسك في أول اجتماع حكومي: أميركا ستفلس إذا لم تخفض الإنفاق
  • لينا الطهطاوي: مجال المراسلة كان يهيمن عليه الرجال.. فرضت نفسي بالاجتهاد
  • ثمن سياسات القوة التي ينتهجها ترامب
  • وقف إطلاق النار الذي لم يُنفَّذ في غزة ولبنان
  • من هو دان رازين كين الذي اختاره ترامب لرئاسة أركان الجيش الأمريكي؟
  • عبد المسيح: لا أعرف الوزراء جميعا وسأعطيهم الثقة لأنني أثق بمن اختارهم
  • بطاقة ترامب الذهبية في أميركا.. ما شروطها والفائدة منها؟
  • ترامب يكشف عن خطة لبيع "إقامات ذهبية" في أميركا