الكـلام، السّـلطـة، الحـقيـقـة
تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT
مَـن يمنـح نفسَـه الحـقّ في الكـلام وحـده ولا يحـفَـظ حـقَّ غيـره فيـه لـن يُـصـغيَ، قطـعـا، إلى كـلام غيـره لأنّ هـذا لا يمـلك، في نظـره، حـقّـا في الكـلام. أمّـا إن أفْـلـح الغيـرُ ذاك في انـتـزاع ذلك الحـقّ - وهـو ما يفـعلـه دائمـا رغـما عن إرادة المتـكـلِّـم وحـده - فـما مـن حاجـةٍ بـه إلى أن يصـغـيَ إلى مَـن تكـلَّـم بقـوّة الأمـر الواقـع، لا بـقـوّة الحـقّ؛ هـذا الحـقّ الذي وحـده المتـكـلّـمُ الأوحـدُ - محتـكـرُ الكـلام - يحـدّده، ووحـده يعـتـرف بمـن يسـتحـقّـه.
الإصـغاء إلى الغيـر ممنـوعٌ في معـتـقـد المتـكـلِّـم وحـده، لأنّـه يُـفـسد عليه مفـهومَـه للكـلام وللحـقّ فيه ويـهْـبِـط بـمَـقـامـه من عليـائـه إلى تحـت. إتيـانُ فـعْـلِ الإصغـاء معـنـاهُ تسلـيـمُ مَـن يُـصغي بمشـروعـيّة كلام المتـكـلِّـم، حتّى وإن هـو خـالَـفَ منطـوق كلامِ ذلك المتـكلِّـم. المهـمّ، عنـد المتـكـلِّـم وحـده، أنّ الإصـغـاءَ عـلامـةَ اعتـرافٍ من المُـصـغي بالمُـصْـغَى إلـيه: اعـتـرافٌ بشـراكـته في الحـقّ في الكـلام؛ وهـذا ممّـا لا يجـوز عنـد مَـن وطَّـن نـفسَـه على أنّـه صاحـب الحـقِّ الأوحـدُ فيه، ومَـن كـرّس جَـهْـده لاحتكـاره ومنـع غيـره مـن أن يـزاحمـه عليه. إذا كـان هنـاك مَـن عليه أن يصـغيَ فهـو الغيـر؛ تلك وظيـفـتُـه حين يتـكـلّـم، أو يكـتـب، أمّـا هـو فـوحـده المتـكـلّم، ولا متـكـلّم سـواه. ولأنّـه متـكـلّـم، كان لِـزامـا أن يكـون هناك مُخَـاطَـب، وكان على هـذا المخاطَـب، بالتّـالي، أن يَـهَـبَ سمْـعه لِـمَـا يَـرِد على لسان الأوّل... أو قـلمـه. وعليه، إذا كان هناك مَـن يـنـبـغي لـه أن يصـغـيَ فهـو الغيـر؛ تلك وظيـفـتُـه حيـن يتـكـلّم، أو يكـتب، مَـن هـو أهـلٌ لذلك: المتـكلّـمُ وحـده. لا بـدّ، إذن، مـن أن تُـحْـفَـظ المَـقامـات فلا يُـزرَى بـمَـقامـه إلى حـدّ مشابـهـتـه في المنـزِلـة والقَـدْر بغيـره: هذا أقـلُّ ما يطـلُـبُـه صاحبُ الكـلام لنـفسه تميـيـزا لـه عـن غيـره.
يـفـعـل المـتـكـلّـمُ وحـده ذلك عـن حسـابٍ دقـيـقٍ يجـاوِز مـنازعـه المَـرَضيّـة الـثّـاويـة فيـه (= النّـرجسيّـة) ويتـخـطّـاها إلى أهـدافٍ أبعـد من مجـرّدِ إشبـاع نَهَـم الـولـع بالذّات. يـفعـل ذلك لأنّـه يُـدرك، على الحقـيـقة، أنّ احـتـكار الكـلام وسيـلـتُـه المُـثْـلى لبـسْـط السّـيـطرة على الآخـرين. هـو يعـرف، قـطـعا، أنّ الكـلام رأسمـال ثميـن في مجتـمعٍ يحـتـلّـه الصّـمت على ما فيـه من فيـضِ الكـلام العادي (التّـخاطُـب اليـوميّ)، وهـو لذلك السّـبب سلـطـةٌ لا سبيل إلى الاستـغـناء عنها أو النّـيْـل مـن قـدرها في مضمـار أيّ سعيٍ إلى تحقيق السّـيطـرة: الماديّـة منـها والرّمـزيّـة. على أنّـه يعـرف، بالتّـبِـعـة، أنّـه لا يَـعود سلطـةً حين تصـير هـذه قابلـةً للتّـقاسـم أو للشّـراكـة فيها معه من غيرٍ آخَـر. الكـلامُ السّـلطـة هـو، في عُـرف المتـكـلِّـم وحـده، الكـلام الذي لا يُـقال بأكـثـر من لسانٍ واحـد، وإلا انـتـهـيـنا مع تعـدُّد الألسنـة إلى حـالةٍ من الكـلام السّـائـب الذي يُـبْـطِلـه كـلامٌ، ومن اللّسـان الذي يُخـرِسـه لسانٌ؛ وذلك ليس من السّـلطـة ومعـناها المـركزيّ في شيء... عند المتكلِّـم وحده.
من الواضـح، هنـا، أنّ هـذا المفهـوم للكـلام/السّـلطة مفـهوم سائـدٌ في الثّـقـافـة العربيّـة؛ ليس فـقـط لأنّ لـه جـذورا في بعـض التّـراث الثّـقافـيّ الإسلاميّ، الذي يضيـق بالتّـعـدُّد أو الذي يـربّـي الوعـيَ على الأوْحَـديّـة في التّـفـكـير، بل لأنّ لـه مـا يـشرعِـنُـه في كيـان الـدّولـة العربيّـة نفـسـها. أليست السّلطـة نـفـسُـها فـوق أيِّ قسـمةٍ أو مشاركـة؟ أليس الشّـركاءُ الكُـثـر في القـرار منـتهيـن في عُـرْفـهـا، حُـكْـما، إلى تعطيل القـرار؟ وهكذا لا يـبـتـدع المتـكـلّـم وحـده بـدعةً في ما يعـتـقـده ويقـول بـه، بـل هـو يتـصرّف تـصـرُّف المتـفاعـلِ مع محيـطِـه التّـفاعـلَ المنـاسِـب والمطـابِـق، أي الذي لا يبـدو فيه وكـأنّـه يغـرِّد خارج السِّـرب أو يـجـدّف ضـدّ التّـيّـار، بل يبـدو أميـنـا لِـمَـا هـو راسـخٌ في ذلك المحيـط، مـدروجٌ عليـه ومـألوف. أمّـا حيـن نَـزِن مـعتَـقَـدَه في الكـلام/ السّـلطـة بميـزان المجتمع ومحـصَّـلةِ قِـيـمه وعـوائـدِه ويـقيـنـيّـاتـه فسنُـلْـفيـه ابـنَ بيـئـتـه الاجتماعيّـة بأكـثـر ممّـا كـنّـا نظـنّ؛ الابـن الذي يعيـد، بـزهـوه واستـعلائـه الطّـاووسـيّ، إنتـاج مـا ترك الأقـدمـون فـيـنا من بصْـمات... وروائـح!
تُـطْـلِـعنا ظاهـرة المتـكـلِّـم وحـده على عـقـيـدةٍ ثـقافـيّـة مستـبـدّة بالوعـي العربيّ، والوعـي الإسلامـيّ عمـوما، يـفـكّـر أهـلُ القلـم من داخلـها على اختـلاف مياديـن الـدّرس عنـدهم: فـقهاءً كانوا أو مؤرّخيـن، أو فـلاسفـةً، أو عـلمـاءَ سياسـةٍ واجتـماع، أو أدبـاءً؛ أعـني بـها عقـيدة حيـازة الحـقيـقة الحيـازة الحصريّـة. مـن تصـيـبـه حمّى هـذه العـقيـدة لا يعـود لـديـه ولو شبـهـةُ استـعدادٍ للإصـغـاء إلى غيره؛ إذْ كـيف لمالكِ الحـقيـقة أن يتـلـقّـى «حـقيـقةً» أخـرى مـن غيره والحالُ أنّ الحـقيـقةَ واحـدةٌ لا اثـنـتـان، ولو حصـل وكانت هناك حـقيـقـتـان لَـتَـبَـيَّـن أنّ إحـداهُـما مغـلوطـة، أي ليست حقـيقـة (على مثـال ما كـان يقـول لينين عن أوحـديّـة التّـمثـيل السّياسيّ، وعـن أنّـه إذا كـان هناك حـزبـان شيوعـيّـان في بـلـدٍ واحـد فـإنّ أحـدَهـما، لا محالة، انـتـهازيّ). مَـن يسـكـنه هـذا الاعـتـقـاد بامتـلاك الحـقيـقـة لا يُـلـقي بـالا إلاّ لكـلامٍ واحـدٍ مبـنـيٍّ على ضميـرٍ واحـد هو ضميـر المتـكـلِّـم. وما أغـنانا عـن التّـنـفيـل والإفاضـة في الشّـرح لبيان وجـوه الاستحالة أمام إمكـانِ نشـأة أيِّ لحـظـةِ حـوارٍ في الثّـقـافـة التي يكـون هـذا المتـكـلِّـم وحـده نـموذجَ المثـقّـف فيها!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الکـلام الس ـلطـة ـم وحـده الذی ی
إقرأ أيضاً:
ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.
انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.
إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.
وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.
إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.
وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".
إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.
وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.
في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.
وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".
وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".
تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).
خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.
x.com/hasanabuhanya