لجريدة عمان:
2025-04-30@22:55:32 GMT

سوف تفاجئنا كثيرا شواطئ المستقبل

تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT

في ديسمبر الماضي هبَّت عاصفة مفاجئة على مقاطعة يابلس في فلوريدا، فاجتثت في طريقها الشواطئ، وسلبتها نصف الكثبان الرملية فيما بين سان بطرسبرج وكليرووتر. كان الضرر جسيما، وشديد الإيلام، لأن المقاطعة كانت قد أنفقت للتو قرابة ستة وعشرين مليار دولار على نقل الرمال دعما للكثبان بعد أن ضربها إعصار في أغسطس.

ولكن هذا الحدث أبعد ما يكون عن الاستثنائية.

فسكان الشواطئ في أرجاء العالم ينفقون مبالغ مذهلة لتعويض الرمال التي تأتي عليها العواصف الكبيرة ويجرفها ارتفاع منسوب البحار. فكان ذلك يستوجب صيانة تجري كل عشر سنوات تقريبا ثم باتت في الغالب حدثا سنويا.

بالنسبة لكثير من مجتمعات تلك الشواطئ، تستحق إصلاحات الشواطئ الثمن الباهظ الذي يبذل لحماية الممتلكات العقارية والسياحة فيها. لكن مع تسارع تآكل تلك الشواطئ بسبب التغير المناخي، من المرجح أن يكون نقل أو شحن كميات ضخمة من الرمال لتجديد الشواطئ أمرا غير محتمل اقتصاديا وغير عملي لوجستيا. وقد يجد صناع السياسات أنفسهم مرغمين عما قريب على قرارات أليمة بشأن الشواطئ والهياكل التي يمكن إنقاذها.

وليس هذا وبالا على محبي الشواطئ بالضرورة. فالشواطئ بطبيعتها تتنقل، ويحسن حالها ويسوء. وخلافا لبعض آثار التغير المناخي الأخرى التي تبدو أشد جهامة كلما أوغلنا النظر في المستقبل، يمكن للشواطئ المهاجرة في نهاية المطاف أن تجعل سواحل أمريكا أفضل صحة بتوفيرها مواطن جديدة تزدهر فيها الشعاب المرجانية والحياة البرية اللتان تتأثران سلبا بتجديد الرمال.

لقد تعين في السابق على أهالي الشواطئ أن يقوموا بصيانة الرمل على سواحلهم نظرا لتحول الشواطئ في بواكير القرن العشرين إلى مقاصد مثلى للإجازات. وبحلول أواسط ثلاثينيات القرن العشرين كان العمران الشاطئي في كوني آيلند ونيويورك ووايكيكي وهاواي وأطلنطيك سيتي بنيوجيرزي قد أتى على الشواطئ فاستوجب ذلك تلقيها الدفعات الأولى من الرمال.

وازدادت الحكومة الفيدرالية انخراطا في تلك الجهود بحلول منتصف القرن العشرين، حينما أصبحت حماية الشواطئ الأمريكية من الكوارث الطبيعية جزءا من تكليفات سلاح المهندسين الذي يتحمل في العادة أكثر من نصف تكاليف مشروعات تجديد الشواطئ، في حين تتولى وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية المهمة في الغالب عندما تتضرر الشواطئ بسبب الأعاصير.

وقد بات أهالي الشواطئ يعتمدون الآن أكثر من ذي قبل على هذا الدعم في جذب السياح المحبين للمنتجعات الشاطئية، وبيوت الإجازات، وتأجير العقارات. وفي الولايات المتحدة وحدها، تبلغ الضرائب المحصلة من السياحة الشاطئية ستة وثلاثين مليار دولار سنويا. وإذن فمن المنطقي أن تكون الحكومة قد أنفقت ما يقدر بـ8.2 مليار دولار على تجديد الشواطئ في هذا القرن وحده، مقارنة بما لا يزيد إلا عن 3.6 مليار دولار في كامل القرن العشرين.

وسوف تحتاج الشواطئ إلى المزيد من التغذية مع تفاقم العواصف التي تجرف رمالها، وازدياد صعوبة الحفاظ على هذه الرمال في أماكنها بسبب ارتفاع منسوب البحر، ولأن الإفراط في استخراج المياه الجوفية يؤدي إلى غرق الأرض وجفاف الأنهار التي كانت ذات يوم تنقل الرمال إلى الساحل. ونحن نشهد بالفعل أن الشواطئ القريبة من سان دييجو وسان كليمنت في كاليفورنيا تتقلص بمتوسط 4.75 أقدام في العام. وفي غياب هذه الشواطئ، لا يبقى شيء يقي البيوت والمنتجعات وغيرها من المباني المنتشرة على الشاطئ من غضب المحيط.

بل إن العثور على الرمال بات أكثر صعوبة، فكثير من مصادره البحرية استنزفت، مما أجبر سفن الجرف على الإيغال في البحر بحثا عن الرمل واستخراجه من قاع المحيط. في بعض الأماكن تحتم نقل الرمل بالشاحنات من البر بتكلفة أكبر كثيرا، بل تحتم في بعض الحالات شراؤه من بلاد أخرى. فقد استورد منتجع «جويل جراندي» في خليج مونتيجو على سبيل المثال رمالا من جزر البهاماس لصيانة شواطئه قبل افتتاحه للعمل في عام 2017.

تتنافس البلدات الشاطئية بالفعل مع الشركات التي تستعمل الرمل في تصنيع ما لا يقتصر على الخرسانة والزجاج والأسفلت بل يمتد إلى تصنيع الهواتف المحمولة وأشباه الموصلات والرقائق الدقيقة. لقد تزايد الطلب على الرمل خلال العقدين الأول والثاني من هذا القرن إلى ثلاثة أمثال ما كان عليه. وأدت المنافسة إلى ما يعرف بعصابات مافيا الرمل التي تجرفه بشكل غير شرعي في بلاد كثيرة من المغرب إلى إندونيسيا، مما أسفر إلى رفع أسعاره في العالم.

بالنسبة لكثير من المجتمعات الأمريكية التي يقوم اقتصادها على السياحة الشاطئية، قد يكون إنفاق أموال الضرائب على تجديد الشواطئ أمرا مستحقا الآن، ولكن هذه الاقتصادات تقل جاذبية من عام إلى عام. في جنوبي كاليفورنيا، من المرجح أن ترتفع كمية الرمال اللازمة لتجديد الشواطئ إلى ثلاثة أمثالها بحلول عام 2050، وقد ترتفع التكلفة إلى خمسة أمثالها، وفقا لدراسة حديثة. وكثير من المناطق الشاسعة في ساحل جيرزي تستوجب بالفعل إصلاحا كل سنة أو سنتين، وفي حال ارتفاع منسوب البحر هناك قدما واحدا خلال الأعوام الثلاثين القادمة، بحسب ما تنبأت به الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، فسوف تتعاظم الحاجة. وسرعان ما ستستحيل المواكبة.

سوف تتوقف بعض المجتمعات الشاطئية في نهاية المطاف عن ترميم شواطئها، إما فجأة أو من خلال ما يعرف بالانسحاب المدار، وهو ابتعاد مرتب وتدريجي عن الشواطئ يجتنب إحداث صدمات لملاك العقارات والمقيمين فيها. في هذه الحالات، يمكن إعادة توجيه الأموال المخصصة حاليا لدعم الشواطئ إلى إقامة مبان مؤقتة كالمنازل النموذجية والخيام التي يسهل نقلها من أماكنها. كما يمكن توجيه التمويلات إلى برامج حكومية تشتري العقارات، وبخاصة من أصحاب المنازل الذين يمكن أن ينقلوا بيوتهم إلى أماكن أخرى أو يستأجرونها من الحكومة وتبقى في الوقت نفسه مرنة. والانسحاب المدار يتسبب في تثبيط التطوير خلافا لتجديد الشواطئ التي تشجع التطوير.

طبعا، سوف تختفي الشواطئ. لكنها قد تظهر في أماكن أخرى، وبهذا قد يفيد تآكل الشواطئ اليوم سواحل أخرى غدا.

وفي حين أن التغذية متجذرة في إصرارنا على أن تبقى الشواطئ في مكان معين، فالحقيقة هي أن الشواطئ لم تكن مثلما نتخيلها، فلو تركت الشواطئ وشأنها لأدواتها، فإنها ببساطة سوف تتنقل، مع ارتفاع منسوب البحر، وبعضها سوف ينجرف صعودا أو هبوطا، أو يتقلص ثم يعود فيتوسع في ظل أن قوة الرياح والأمواج والمد تمضي بالرمل في وجهات عديدة. بعض الشواطئ سيتوغل في البر، وسعيد الحظ منها سوف يتسع. ومثل هذه الهجرات طبيعية، بل هي صحية من وجهة النظر الجيولوجية، إذ تتيح للشواطئ دعم الطيور والأسماك والشعاب المرجانية التي تعتمد عليها.

في بعض الأماكن، يحدث هذا بالفعل. ففي جنوب لوس أنجلوس يتسع شاطئ هنتنتن كل عام. وفي هولندا، تتعامل جزيرة شيرمونيكوج بسهولة مع ثلاثمائة ألف زائر كل سنة وتتسع شواطئها سنويا. والجزر الحاجزة البرية قبالة ساحل جورجيا متماسكة تماما ومتاح لها من خلال المد والجزر التكيف مع الظروف الطبيعية المتغيرة. كما وجد الباحثون الذين درسوا 184 جزيرة غير مأهولة تقريبا في المالديف أن 42% منها تتآكل، لكن 39% مستقرة نسبيا و20% تنمو.

لا يمكننا أن نتنبأ لأي شاطئ معين كيف سيكون سلوكه حينما يترك وشأنه، ولا نعرف بالضبط أي شكل سوف تأخذه السواحل الجديدة. لكن إنهاء التغذية لا يعني أن نودع بهجة قضاء يوم على الرمل. فلو أننا تنحينا جانبا، سوف تستمر الشواطئ.

سارة ستودولا مؤلفة «الملاذ الأخير: وقائع الجنة والربح والخطر في الشاطئ».

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرن العشرین ارتفاع منسوب ملیار دولار الشواطئ فی

إقرأ أيضاً:

السودان… مشاهد من يوميات حرب عبثية

(1)
صحوتُ على دويّ المدافع في الفجر، قبل أن يصل آذان الصلاة إلى مسمعي. لكأنَّ المطلوب ساعتها أن نتهيأ لتلبية دعوة عاجلة للموت، وليس لأداء الصلاة حين تبيّن خيوط الفجر الأولى. غير أن أزيز الطائرات القاتلة يشقّ الظلام الحالك، وهي طائراتٌ نعرف أنها من نوع مجهول الصلاحية، فكيف تُرى يحسن قباطنتها تصويب قنابلها على أهدافها في الأرض والظلام دامس وسواد في سواد. ليس السودان من البلدان التي تمرّست على حرب المدن، تتمدّد مساكن السودانيين في مساحات أفقية شاسعة المساحة، فليس في ثقافة معمار المدن في السودان مخابئ تُحفَر تحت الأرض، ولا كهوف يتلمّسها الناس ملاذاتٍ ليختبئوا فيها. في المدن الراشدة مثل بيروت، التي جرّبت حروب الشوارع في المدن، تسمع صافرات تنبّه السكّان الأبرياء، فيهرعون إلى الملاجئ الآمنة تحت الأرض نشداناً للسلامة.

(2)
في السودان. ليس لمقاتلات سلاح الطيران خبرات تُذكَر في التصويب المُحكم، وقبل رمي قذائفها، ولا السكّان الأبرياء في العاصمة الخرطوم مهيؤون لتفادي مثل تلك القذائف. أكثر من قتلوا بالقذائف العشوائية، هم من دفعهم حبّ الاستطلاع البريء إلى الوقوف وتقصّي ما يحدث من حولهم، وما يسمعون من دويّ فتصادفهم زخّات من رصاص طائش، وشظايا من قتلة لا يجيدون التصويب، فيقضي كثيرون نحبهم وهم يتطلّعون لمعرفة ما يجري. القاتل من جهله وسذاجته لا يدرك أبعاد جريمته، بل قد لا يدرك أنه ارتكب جريمة أصلاً. أمّا القتيل فيرحمه الله. وقد يرحمه بعض من يشهدون مقتله فيدعون الناسَ إلى ستر الجثمان في مقبرة، وفي ساعات الخطر قد لا يمرّ على القتيل أحد فتبقى جثته أياماً مسجّاة غارقةً في دمائها.
(3)
طلبة في جامعة الخرطوم في كلّية الهندسة حوصروا في فصل دراسي، فظلّوا منتظرين أن يخفّ القصف. عجزوا عن اللحاق بزميل لهم أصابته شظية في مقتل، وهم محبوسون مع قتيلهم أيّاماً عديدةً أمام فصلهم الدراسي، فاضطروا في آخر الأمر إلى ستر جثمان زميلهم في باحة كلية الهندسة، ليس بعيداً من القاعة التي تلقّى فيها الدرس الأخير قبل مقتله.
آسيا عبد الماجد، وهي من رائدات المسرح السوداني، وأول من اعتلتْ خشبة المسرح القومي السوداني في سنوات الستينيات الأولى من القرن العشرين، أنشأت إثر تقاعدها واعتزالها التمثيل مؤسّسة تربوية رعتها بعرق جبينها. أمّا وقد بلغت من الكبر مبلغاً، فإنها لم تستسلم لموجبات التقاعد، فحملتْ بإرادة غلّابة عبء أن تنشئ مشروعاً تربوياً لجيل من فتيات السودان ليواصلن رسالة الإسهام في بناء وطن أحبّته. لحقتها (والقتال العبثي في أوجِه) شظية عشوائية قاتلة، أطلقها صبي من الصبيان المسلّحين الذين سـلّحهم القتلة، فأودتْ بحياتها. من شدة احتدام الاشتباكات، فشل الذين شهدوا المقتلة في القيام بواجب ستر جثمانها في مقبرة تليق، فستروا جثمانها الطاهر في أرض المؤسّسة، التي أنشأتها ورعتها في حياتها.
السيدة الممثلة الفنّانة آسيا عبد الماجد هي (بالمناسبة) أم إيهاب، وأمّ صديقي العزيز تاج الدين، نجل الشاعر الكبير الرّاحل محمّد مفتاح الفيتوري، زوجها الأول.
(4)
مشهد ثالث من مشاهد الحرب العبثية، بل الحرب التي عبستْ في وجوه السّودانيين، وأيقظتْ في نفوس بعضهم شياطين الشرِّ وقد كانت في سباتها منسيةً في قمقمها، فإذا هي حيَّات سعت لابتلاع كلّ الذي شاع من دعاوى الأمانة الناكرة للذات، ومن غزل أهل الخليج في خصال الوفاء عند الملائكة السودانيين. نظرت حولي وأنا غير مصدّق ما رأيت في جامعة أم درمان، جيوش جرّارة من أناس عقلاء تحوّلوا فجأة عصاباتٍ من نهّابين يسرقون الكحل من العين. رأيتهم صفوفاً من "موتوسيكلات" الـ"توك توك"، وعربات تجرّها الجياد وأخرى تجرّها الحمير. حملوا كلّ ما ثقل وأيضاً ما خفَّ وزنه، وما كبرت قيمته أو قلّت، فلم يتركوا أثاث تلك الجامعة من كراس وطاولات، ومن حواسيب وأرفف كتب خشبية وحديدية. اقتلعـوا أجهزة التكييف من جدران الفصول ولم يتركوا مروحةً كهربائية، ولا مفاتيح إضاءة، ولا نوافذ زجاجية، إلا اقتلعوها. ولم يسلم من نهش أيدي السرّاقين، حتى السيراميك من أرضيّات قاعات وفصول الدراسة. ذلك ما يسمّونه بلغة الشركة "الانفلات الأمني"، لكن هل هنالك شرطة لتكبح جماحه؟
(5)
أنشأ جامعةَ أمّ درمان الأهلية نفرٌ كريم من أهل المدينة، ومن حرّ مالهم وجزيل تبرعاتهم، ما انتظروا دعماً من حكومة أو عوناً من نظام سياسي. تدافعوا من دون مَنّ ولا أذى لنصرة التعليم الجامعي في مدينتهم، يوفّرونه لأبنائها المحرومين، ولمن لم تتوفّر لهم فرصٌ لتلقّي التعليم الحكومي المدعوم، فإذا بأولئك المحرومين، وآباء أولئك المحرومين، هُم أول من تسوَّروا تلك الجامعة ونهشوا هياكلها ومقوّماتها وأثاثها، فتركوها قاعاً صفصفاً، وعرّوها من كلّ ما يذكّر بأنها كانت يوماً جامعةً تخرّج على أيدي أساتذتها اقتصاديون ودبلوماسيون وأدباء وفنّانون. شيء أشبه بأسطورة تُحكى من أساطير الخيال. أصيب مدير تلك الجامعة بحالة من الذهول إذ زارها ليجد مكتبه منهوباً وقد عرّوه من كلّ شيء فيه، حتى من كرسي المكتب الذي يجلس عليه. أسرع الرجل النبيل، وهو برفسور ومعلّم كبير، يطلب عون الشرطة وهم في مركز قريب من جامعته والقتال محتدم، ردّوه على عقبيه حزيناً كسيفاً، فقد أبلغوه أن منطقة جامعته خارج منطقة سيطرتهم. تلك هي الشرطة التي عرفت كيف تضع توصيفاً للانفلات الأمني. لعن الرجل حرباً قال عنها مشعلوها إنها حرب عبثية، وابتعد من خرائب كانت يوماً جامعةً هي من بين أرقى الجامعات وأكثرها رصانةً أكاديمية في العاصمة السودانية.
(6)
هذه بعض مشاهد حرب عُميتْ عيون من أشعلوها عن تاريخ بلاد شامخة المعالم والأثر، وهي بلادهم هُم لا بلد أعدائهم، فداسوا عليها ببنادق الجهل وصلف عسكرية خائرة القوى بلا قدرات، بلا تدريب، بلا نُبل. هكذا وقفتُ على أطلالٍ كانت يوماً لوطن عشنا نحن السودانيين في رحابه. علّمنا كبارُنا أن نحبّه لا أن نبغضه، أن نجلّهُ لا أن نستضعفه، أن نعتزّ بحمايته، لا أن ندفع به إلى ذئاب جائعة ونلقّمه لأفواه أسود متربّصة.
يذكّر مؤرّخونا أن قروناً خمسة قد انصرمتْ منذ نهوض سلطنة الفونج السودانية القوية في سنوات القرن السادس عشر الميلادي، والسودان في سنوات تكوينه الأولى، ثم شهدت أرض السودانيين حروباً تباينت شدّتها وقسوتها بين طوائفه ومجتمعاته سنوات طوال، فأضعفت تماسك تلك السلطنة، فجاء إليها محمد علي باشا الكبير في القرن التاسع عشر من الشمال، ليضمها إلى سلطنته، ثمّ جاءت الثورة المهدية فأرست حكماً وطنياً على أنقاض صلف الحكم التركي الذي ابتدره محمد علي باشا حاكم مصر فترةً قاربت الستّين عاماً في السودان. لكن حين تكالبت القوى العظمى لدحر الثورة المهدية أواخر القرن التاسع عشر، وقع السودان في براثن حكم استعماري نفذ منه بشقّ الأنفس أواسط سنوات القرن العشرين، فنال السودان استقلاله عام 1956... اختصرتُ لك تاريخاً مليئاً بالمواجهات، محتشداً بحرارة السياسة، وملتهباً بين كرٍّ وفرٍّ. لكن، وللحقيقة التي عرفناها وقرأناها في كتب تاريخ بلادنا السودان، فإنّ حرباً مثل الحرب الماثلة الآن، التي أشعلها السودانيون بأيديهم قبل أن يلهب فتيلها الآخرون، هي حرب غير مسبوقة، ولم يعرف مثلها السودانيون. تستعر الآن بغير كوابح، ولا عقلاءَ سودانيين ذوي حكمة يوقفونها.

(7)
إن كانت معركة كرري التي أنهى عبرها اللورد كيتشنر حكم المهدية الوطني في السودان في 1899، وأزهق أرواح ما يزيد على عشرة آلاف سوداني، على قسوتها حرباً أشعل أُوارَها أجنبيٌ غازٍ ضدّ نظام وطني قائم، وانتقم البحر للشهداء الذين قضى عليهم كيتشنر، بموته غرقاً في بحر الشمال، فمَن يا تُرى سينتقم للقتلى السودانيين الذين أُزهقتْ أرواحهم في حربٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا بعير، بل أشعلها جنرالان من أبناء السودان، لا غرباء عنه مثل الجنرال كيتشنر، ولا أجانب جاؤوه من وراء البحار.
تُرى من يتحرّك قلبه لنجدة السودان. ولقد أتيح لي أن أنصتَ لكلّ خطابات من تداعوا إلى القمّة العربية أخيراً في جدّة، فرصدت (ويا للأسف!) من بين الزعماء العرب من تجاهل حتى ذكر اسم السودان في خطابه، في دورة لجامعة الدول العربية دعا من نظّمها لمناقشة بندها الرئيس الأول؛ الأزمة الطاحنة التي قد تفضي (لولا لطف الله) إلى فناء دولة عربية من خريطة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي.

نقلا عن العربي الجديد  

مقالات مشابهة

  • 118 سفينة ترسم لوحة القفال في نسخته الـ34
  • متخرجوش من البيت .. الأرصاد تحذر من طقس غد بسبب الرياح والأتربة
  • مناقشة مشروع حديقة الرمال ومقترحات التطوير بجنوب الباطنة
  • السودان… مشاهد من يوميات حرب عبثية
  • إصابة امرأة بطلق ناري أثناء خروجها للنزهة في شواطئ عدن
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي
  • والي جهة سوس ماسة يوجه رسالة حازمة لتنظيم عمليات الاصطياف بشواطئ أكادير
  • إطلاق مبادرة “حماية ومعالجة الشواطئ” في جدة
  • لماذا أدعو كثيرا ولا يستجيب الله لي؟.. أمين الفتوى يجيب
  • أسامة عرابي: قرار إقالة كولر من تدريب الأهلي كان منتظرا وتأخر كثيرا