في كتابه "300.000 عامٍ من الخوف.. قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد" يفسِّر جمال أبو الحسن، وهو كاتب مقال معروف ودبلوماسي مصري، سبب تضمينه تيمة "الخوف" في العنوان، فالإنسان (الضعيف جدًا) وجد نفسه فجأة محاطًا بظواهر كونية مرعبة، لا يستطيع إيقافها، كالنيازك التي تضرب الأرض وتهدد بقاءه، والفيروسات التي تسعى لحفظ بقائها من خلال استخدامه كوسيط، وطبعًا كان على الإنسان أن يفكّر في الموت قبل تفكيره في النيازك والفيروسات، فهو الحقيقة الحتمية الكبرى، وبالتالي كان عليه أن يفكّر كذلك في معنى الحياة وأصلها، وكيف يضمن خلوده في كونٍ محكومٍ عليه بالتحلل والفوضى!

رغم أن الكتاب مكتنز (384 صفحة) فإن لغة جمال أبو الحسن البسيطة الجذابة، وأسلوبه السلس الذي يناسب كل الثقافات، وهضمه المعلومات، ومزجها بطريقة رائعة في سرده المتدفق، يجعلك تستغرق تمامًا في القراءة، حتى أنك قد تدعوه لكتابة جزء ثانٍ عن قصة البشر مع الخوف يبدأ من زمن الديانات الإبراهيمية الذي توقف عنده.

اختار جمال أبو الحسن أن يخاطب على امتداد الكتاب ابنته "ليلى" بلغةٍ تفهمها، ولم يجعل المصطلحات العلمية نتوءات تعوق قراءتها أو قراءتنا، فالسياق يضيئها ويجعلها جزءًا عاديًّا من مادة الكتاب، وقد آثرت أن أعرض مقتطفاتٍ بسيطة منه بأسلوب مؤلفه، حتى يمكن أن يأخذ القارئ فكرة عامة على ما ينتظره في هذا الكتاب الشيق والممتع.

يؤكد أبو الحسن أنه منذ 65 مليون سنة اصطدم كويكب عملاق في حجم جبل إيفرست بسرعة تفوق سرعة الصوت 60 مرة. وقد جعلت حرائق الغابات، التي تولدت عن الانفجار، الأرض تبدو ككتلة لهب، واكتسح التسونامي الهائل كل شيء أمامه. والنتيجة كانت انقراض 70 في المائة من المخلوقات بما فيها الديناصورات التي عاشت على الأرض أكثر من 150 مليون سنة، أي أطول ألف مرة تقريبًا من وجودنا نحن البشر على الأرض. ويلفت أبو الحسن الانتباه إلى حقيقة أن الديناصورات تضع بيضًا مثلها مثل الطيور، وبالتالي فإن الطيور هي أحفاد الديناصورات البعيدة. ويقول إن اختفاء الديناصورات سمح بانتشار كائنات أصغر في حجم الفئران. تلك هي الثدييات، أي الكائنات التي تلد ولا تبيض. هذه الثدييات الصغيرة كانت تتغذَّى على أي شيء. صغر حجمها ساعدها على الفرار من الكارثة. وتلك الثدييات هي أصلنا البعيد جدًا.

أما النوع الذي ننتمي إليه ويُدعى بالإنسان العاقل، فقد ظهر في وقتٍ ما منذ 300 ألف سنة تقريبًا. أقدم حفرية بشرية للإنسان العاقل عُثر عليها عام 2017 في جيل "إيغود" في المغرب. قبل العثور على هذه الحفرية كان يُعتقَد أن نوعنا ظهر، للمرة الأولى، في شرق إفريقيا منذ 200 ألف سنة. انطلق أسلافنا من إفريقيا وملأوا مساحاتٍ شاسعة من الكرة الأرضية إلى أن ضربت الكارثة الأرض من جديد منذ 74 ألف سنة. انفجر بركان "توبا" قرب سومطرة بشكل هائل، وخلَّف أخدودًا ضخمًا، وأطلق في الجو ملياري طن من حمض الكبريتيك. كان هذا وما يزال أقوى انفجار شهده الإنسان في تاريخه على الأرض. تشكلت سحابة بركانية كبرى وتكونت سحب حمضية بعد أن حملت الرياح الرماد البركاني لأصقاع بعيدة، وحجبت نحو 90 بالمائة من أشعة الشمس، وتعطلت عملية التمثيل الضوئي، التي يعتمد عليها النبات.

قبل البركان المدمِّر كان عدد البشر ربما يتجاوز مائة ألف انتشروا في عددٍ من قارات العالم. عرف العلماء ذلك لأنهم عثروا على آثار أدواتٍ حجرية موزعة على أماكن مختلفة من المعمورة، وتعود لهذا التاريخ البعيد. بعد البركان يرجح العلماء أن عدد سكان الكوكب تراجع بشدة ما بين 4 إلى 5 آلاف شخص. يعلق أبو الحسن: "كلنا أبناء تلك القبيلة الناجية"، ويؤكد أن هذا ما يفسر التقارب المذهل بيننا في التركيب الجيني. أبناء هذه الجماعة ونسلها واجهوا بيئة تفيض بالخطر، حيث يختبئ الموت في كل ركن. لقد عشنا أغلب حياتنا على الأرض تحوطنا أنهار هائلة من الجليد تُغطِّي كل شيء بطبقة سمكها 4 كيلومترات.

كما تركت هذه الكوارث أثرًا غائرًا في أعماقنا، وغرست بداخلنا هذا الشعور المضني والمستمر معنا إلى اليوم بانعدام اليقين والخوف من المجهول، على أن الكوارث والتهديدات المستمرة التي ظل احتمال وقوعها سيفًا مسلطًا علينا دفعتنا دفعًا إلى ارتياد طرق ومسارات انتهت بنا إلى إبداع حضارة ننعم اليوم بثمارها ونرى منجزاتها في كل شيء حولنا، وبذلك فإن القلق والخوف هما صانعا الحضارة البشرية الحقيقيان.

البشر وجدوا أنفسهم منذ اللحظة الأولى، بحسب أبو الحسن، في مواجهة هذا الصديق الثقيل الذي يفرض نفسه عليك، وهو القلق. كل ما فعله البشر عبر رحلتهم على الأرض لم يكن سوى محاولات متواصلة لتقليص مساحة انعدام اليقين في حياتهم. إن عقولنا تكره انعدام اليقين. والحل كان السعي للحصول على معلومات تطمئننا.

ويطرح أبو الحسن مجموعة من الأسئلة تشكل إجاباتها مجمل كتابه، مثل كيف ترتبط كل الأشياء والأحداث والأفكار ببعضها في شبكة واحدة كبيرة، لتنتج لنا ما نسميه بالتاريخ؟ لماذا تتحرك الأحداث في اتجاه بعينه؟ هل هناك مغزى لكل ما حدث ويحدث؟ هل من سبيل لفك شيفرة الماضي لتساعدنا على تلمُّس الطريق إلى المستقبل؟ هل يشبه تاريخنا على الأرض قطارًا يتحرك على خط سكك حديدية أم أنه يشبه شبكة عملاقة تحمل عددًا لا نهائيًّا من العقد والخيوط المتداخلة؟

ولكي يؤكد على أن كل ما يحيط بالإنسان مرتبط في شبكة واحدة يقول إن الخلية وحدة مشتركة بين الكائنات الحية جميعًا من نبات وحيوان وبشر. وهناك دليل علمي قوي على أن أصل هذا التنوع البيولوجي الذي يملأ عالمنا هو كائن وحيد الخلية عاش في الماء قبل نحو 3.7 مليار سنة. أي بعد نحو مليار سنة من تشكل الأرض والنظام الشمسي. هذا يعني أن ظاهرة الحياة بدأت مبكرًا على كوكبنا. يرجح العلماء أنها ظهرت عبر تفاعلات كيميائية خاصة جدًا في باطن المحيطات، وتحت درجات حرارة عالية جدًا، مشددًا على أنه إلى اليوم لا يزال العلماء يجتهدون لفك أسرار هذا الحدث الفريد، ولا أحد يعرف بالضبط كيف بدأت الحياة. ما نعرفه أن القصة، بعد اندلاع شرارة الحياة، اتخذت منعطفات أكثر إثارة. ويقول: الشكل الوحيد للحياة على الأرض عبر السواد الأعظم من تاريخها كان إذن كائنًا وحيد الخلية لا يمكن رؤيته سوى بميكروسكوب يهيم في المحيط لا يلوي على شيء.

وارتباطًا بهذا فإن السعي إلى البقاء والتجدد هو ما يجعل من الخلية كائنًا متميزًا له هدف وأجندة وخطة عمل. إنها خطة، بحسب أبو الحسن، لا تختلف كثيرًا عن خطتنا نحن. إننا نسعى أيضًا لإيجاد نسخ أخرى منا لكي تستمر قصتنا. من دون هذا التجدد لا معنى للقصة من الأصل. في محيط من الفوضى واللاهدف تخلق الخلية نوعًا من النظام والهدف والغاية. الخلية تلخص قصتنا كلها. نحن البشر أيضًا نتحدى الفوضى والعدم حولنا بعمل نوع من النظام. نضع حدودًا وقواعد للأشياء لذلك فإن الخطوة الأولى في تكوين الخلية هي بناء جدارٍ يعزلها عن محيطها يسمى "غشاء". هذا الجدار هو الفارق بين العدم واللاشيء المحيط بالخلية والنظام المنتج في داخلها. نحن أيضًا نصنع الشيء ذاته. نعيش في بيوت لها جدران تفصلها عن المحيط الخارجي، كذلك نؤسس المدن ونحيطها بالأسوار. هذه المدن تصير أيضًا مراكز للنظام. تحصل على الطاقة مثل الخلية من خارجها، فالمدن عبر التاريخ لم تكن تزرع ما تأكل وإنما تحصل على الغذاء من أراضٍ زراعية خارجها. المدن تعمل على الحفاظ على نفسها بنفسها في عملية متجددة تمامًا كما تفعل الخلية، وهي تدافع عن نفسها في مواجهة الأعداء مثلما تصد الخلية شرور الفيروسات، وهي أيضًا برغم تجددها تفنى وتنقرض وتظهر نسخٌ منها مكانها، بدليل أن مدينة منف أو طيبة لا وجود لهما اليوم، وفي مكانهما تقع الجيزة أو الأقصر. هذا بالضبط ما يحدث لبعض أنواع الكائنات الحية التي تنقرض فلا يصير لها وجود. ويؤكد أن الحياة تجدد نفسها، عبر نسخ المعلومات ونقلها من الآباء إلى نسلهم. كل كائن حي قادر على صناعة نسخ من نفسه عبر الـ"دي أن أي". يتم نقل هذه النسخ من جيل إلى جيل مثل ألبوم الصور العائلية التي نتوارثها.

ولكي تنسخ الخلية نفسها فإنها تحتاج إلى الطاقة. قصتنا الكبيرة كما يقول أبو الحسن هي قصة السعي إلى الطاقة، مؤكدًا أن الأجزاء الصغيرة، مثل الخلايا، تستطيع الحصول على طاقة أكبر من البيئة إذا عملت معًا في إنشاء تكوينات أكبر، وكذلك يفعل الأفراد عندما ينشئون مجتمعات تصير دولًا وإمبراطوريات هائلة الاتساع.. لكن بالطبع فإن الكائنات التي تحصل على الطاقة لا تبقى للأبد. الطاقة ذاتها لا تفنى ولكن الكيانات التي تحصل عليها من النجوم إلى الخلايا الحية إلى الإمبراطوريات الكبرى تفنى وتزول.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أبو الحسن على الأرض على أن

إقرأ أيضاً:

فعاليات ورشة عمل لقيادات وزارة الصحة حول "تنمية القدرات والموارد البشرية"

شهد الدكتور خالد عبدالغفار نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية البشرية وزير الصحة والسكان، فعاليات ورشة العمل التي نظمتها الوزارة لقياداتها ، تحت عنوان "تنمية القدرات والموارد البشرية"، والتي حاضر فيها الدكتور محمد هشام منصور  رئيس شركة "هارت تو هارت للاستشارات والتدريب" وذلك بمقر أكاديمية الأميرة فاطمة للتدريب والتعليم الطبي المستمر.


وقال الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان ، إن الورشة شهدت نقاشًا مفتوحًا ومطولًا بين نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، وقيادات الوزارة، حول سبل وآليات الإدارة المسؤولة والناجحة، للوصول إلى تحقيق أعلى معدلات من الإنتاجية والتمييز العملي، وهو ما ينعكس ايجابيًا على المواطن المصري بشعوره بالرضا أثناء حصوله على خدماته الحكومية وعلى رأسها الخدمات الصحية والعلاجية.

 

وأوضح أن ورشة العمل تهدف إلى تزويد القيادات بالخبرات والمعلومات الحديثة، مع التعريف بأفضل الأساليب العالمية المتبعة في الإدارة الناجحة، والقواعد المُثلى للاختيار الجيد للمواهب الوظيفية، وكيفية الاستثمار الجيد للموارد البشرية، لضمان تطوير الخدمات الصحية.


وأضاف أن ورشة العمل ، دارت حول تعريف قيادات الوزارة، بأهم المبادئ التوجيهية ، ومجموعة الأدوات العملية للمديرين التنفيذيين لإدارة مواردهم البشرية، من خلال دمج النظريات المقبولة مع التطبيقات الأكثر تقدمًا عالميًا ، لتزويد المشاركين بالمعرفة والمهارات الأساسية اللازمة لتطوير خبراتهم العملية، ورفع الكفاءات الوظيفية لجميع العاملين ضمن الإدارات الإدارية والفنية للقطاع الصحي المصري، وإرشادهم للعمل كمجموعات مُنظمة قادرة على تحمل المسؤولية.

 


أشار" عبد الغفار " إلى أن الورشة تطرقت إلى التعريف بالمهارات الإدارية للموارد البشرية الاستراتيجية ومدى ارتباطها بعملية الإدارة، وتبادل المعلومات حول مناقشة وتوضيح الاتجاهات الهامة التي تؤثر على إدارة الموارد البشرية، والوصول إلى تحديد معايير وآليات الاختيار الجيد للموظفين، وكذلك المهارات الأساسية اللازمة التي لابد من توافرها بموظفي الإدارات والقطاعات الصحية، وذلك لخلق أفراد مسؤولة بكفاءات عالية قادرة على العمل المؤسسي بتمييز وبجدارة حقيقية ، وكذلك التعريف بالآليات المتبعة عالميًا بنظام المكافآت، وطرق الإثابة والعقاب.


تابع المتحدث الرسمي، أن الورشة استهدفت ، شرح المحور الخاص بإدارة رأس المال البشري (HCM) ، ودوره في الحصول على البيانات المستخدمة لإدارة الأشخاص ذات القيمة المضافة ، وتحديد معايير الاستثمار الاستراتيجي وإتخاذ القرارات التشغيلية الجيدة على مستوى القطاعات والمؤسسات والشركات، الأمر الذي يساهم في إدراة المواهب والاحتفاظ بها والتعليم والتطوير، وهو ما ينعكس إيجابيًا على جودة العمل الإنتاجي للموظفيين ، وتمكينهم من القيام بمهامهم الوظيفية، وكذلك ارتفاع رضاء المواطن المصري.


وأوضح "عبدالغفار" أنه تم تعريف المشاركين بقياسات رأس المال البشري، والذي يشكل عنصرًا رئيسيًا في القيمة السوقية للمؤسسات والهيئات الحكومية وغير الحكومية، مستشهدًا بدراسة بحثية أجريت في عام 2003 أوضحت أن قيمة رأس المال البشري يمثل 36% من إجمالي الإيرادات للمنشآت العملية، كما أن الإدارة الجيدة لرأس المال البشري يساهم في تحسين وتعظيم قيمة وعائد الاستثمار للموظفيين، فضلًا عن تركيز الورشة عل متطلبات رأس المال البشري.


ونوه إلى أن الورشة  ركز خلالها   الدكتور محمد منصور على التعريف بنهج الإدارة عالي الأداء، والذي يهتم بتطوير عدد من الآليات ، التي تؤثر على أداء المؤسسة من خلال موظفيها في مجالات الإنتاجية والجودة، بالإضافة إلى استعراض نموذج لإدارة الإلتزام العالي، والذي يتم من خلاله تنظيم السلوك ذاتيًا بدلًا من السيطرة على أداء وسلوكيات الموظفين بالعقوبات.

مقالات مشابهة

  • إشكال حمانا إلى الواجهة من جديد.. أبو الحسن يوضح!
  • توجيهات رئاسية بتشكيل لجنة لرصد أوجه القصور في أولمبياد 2024
  • الإشارة الكونية واو لم تصدر من كائنات فضائية
  • كيف ستعيد ناسا رائدي فضاء عالقين في الفضاء؟
  • محافظ المنيا يبحث أوجه التعاون مع التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي
  • بني سويف تستعد لتفعيل المبادرة الرئاسية بداية جديدة
  • فعاليات ورشة عمل لقيادات وزارة الصحة حول "تنمية القدرات والموارد البشرية"
  • وزير الشباب والرياضة يبحث مع سفير اليابان سبل تعزيز أوجه التعاون المشترك
  • شهادات الغزيين على تحولات الأرض الزراعية
  • بوليتيكو: هل يضع حزب الله لبنان على القائمة الرمادية؟