هل العالم على مشارف نهاية التاريخ؟
تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT
شهدت الساحة الفكرية العالمية منذ التسعينيات من القرن الماضي كتابات عديدة تناولت موضوع النهايات؛ فقد كتب "فرنسيس فوكوياما" عن "نهاية التاريخ"، وكتب "جون- كلود كاوفمان" عن "نهاية الديمقراطية"، وكتب "دجون هورغان" عن "نهاية العلم"، وكتب "إيفا إيلوز" عن "نهاية الحب". ويبرز بينهم الفيلسوف الفرنسي "بول فيريليو" (Paul Virilio) الذي يقترن اسمه بالحديث عن نهاية الجغرافيا، خصوصًا في مقالته المنشورة على صفحات "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية في أغسطس/آب 1997.
الواقع أن الحديث عن النهايات يشير إلى منعطف حضاري وثقافي وفكري حقيقي يستدعي التأمل والتدبر، بعيدًا عن الاختلاف في توظيف كل كاتب أو مفكر لمفهوم النهاية. ولعل ما يهمنا في سياقنا هنا هو دلالة ومعنى "نهاية الجغرافيا". فهل المقصود من وراء هذا الحديث هو نهاية الجغرافيا، أي العلم الذي عُني منذ آلاف السنين برسم خطوط الأرض، أو كتابتها كما تدل على ذلك لفظة "جغرافيا" اليونانية ولاتينية الأصل المكونة من "جيو" (geo) التي تفيد الأرض، و"غرافيا" (graphy) التي تفيد الخط والكتابة؟
أم أن المقصود بنهاية الجغرافيا هو انسداد الأفق أمام من يريد اكتشاف الأرض أو الجولان في رحابها والسياحة في أرجائها؛ طلبًا لاكتشاف محاسنها ومفاتنها المجهولة؟ هناك كتابات كثيرة تحوم حول هذا المعنى، ككتاب "طوماس فريدمان" عن "العالم المسطح" (The World is Flat)، الذي ينبه فيه إلى أن الإنسان حيثما يذهب يجد نفس المعالم الثقافية، وكأنه صار يرحل من مكان معلوم إلى أمكنة أخرى معلومة. ويصب هذا الكلام فيما ذهب إليه "فيريليو" من قول بأن العولمة ووسائل التواصل بقدر ما قربت المسافات، ورثت الإنسان شعورًا بضيق المكان ونهاية الأرض.
في جميع الأحوال، يمكن القول إن مفهوم الجغرافيا بِمَعْنَيَيْه – سواء "الجيوسياسي" (Geopolitical) المتعلق بخط وإبراز الحدود بين التكتلات البشرية وبين الدول والأمم والمجتمعات لفهم وإدارة الصراع حول الأرض، أو "الجيوشاعري" (Geopoetic) المتعلق بالجولان والسياحة بغرض تكثيف الشعور بالأرض – لم يعد مفهومًا يستوعب طبيعة التحولات الكبرى التي طرأت على علاقة الإنسان بالأرض. ولعل هذا ما دفع "تيم مارشال" (Tim Marshall) لتأليف كتاب يتساءل فيه حول "مستقبل الجغرافيا" (The Future of Geography).
يدور كتاب "مارشال" حول فكرة أساسية مفادها أن "الجيوسياسة" لم تعد تقدم الجهاز المفاهيمي الضروري لفهم حالة العالم وموازين القوة التي تحكم العلاقة بين الدول والمجتمعات. وذلك لأن الصراع الذي يجمع القوى الكبرى في عالمنا اليوم لم يعد صراعًا حول الأرض فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح صراعًا حول مناطق نفوذ في الفضاء.
لم يكن الصراع المحموم الذي جمع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية حول غزو الفضاء منذ منتصف القرن الماضي من أجل اكتشافات جغرافية جديدة يتوسع معه مجال حركة الإنسان فوق الأرض، بل كان صراعًا من أجل تحقيق التمكن في الجغرافيا من الفضاء الخارجي. الأمر الذي يؤشر على أن الإنسان لم يعد ينشد الخروج من ضيق المكان إلى سعة الأرض، بقدر ما صار ينشد الخروج من ضيق الأرض باتجاه رحابة السماء.
وعليه، يمكن لنا القول إن لفظة "جيوسياسة" أصبحت قاصرة عن تأدية معنى الصراع الحقيقي الذي أصبح يجمع بين القوى المتنافسة في عالمنا اليوم، خصوصًا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. ذلك أن هذه اللفظة لا تأخذ بعين الاعتبار ما أصبح للفضاء من دور في تحديد ملامح ميزان القوة بين هذه القوى، وإدارة الصراع بينها.
وبهذا الاعتبار يصبح لزامًا علينا البحث عن لفظة جديدة تكون أكثر مناسبة من لفظة "الجيوسياسة" لوصف وجود الإنسان في علاقته بالسياسة وبالفضاء. يرى "تيم مارشال" أن لفظة (Astropolitics) تفي بالغرض في هذا الباب.
وإذ عجزت "الجيوسياسة" عن استيعاب حالة العالم اليوم وما يعتمل داخله من عزائم ومصالح بين القوى الكبرى، فقد أصبح من الضروري التوسل بعلم جديد يُجلي وجود الإنسان في بعديه السياسي والفلكي، كما تحيل على ذلك لفظة (Astropolitics) المكونة من (Astro) و(politics). فلعله من الوهم مواصلة الاعتقاد بأن الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين هو صراع ذو طبيعة "جيوسياسية" يدار من الأرض فقط. فهاتان القوتان تتنافسان اليوم من أجل سن قوانين جديدة للفضاء كما يوضّح "تيم مارشال".
مثلما ظهرت الحاجة إلى تجاوز "الجيوسياسة"، تظهر الحاجة كذلك لتجاوز "الجيوستراتيجية" باتجاه (Astrostrategy) أفقًا للتفكير في القوة والسياسة ومجالات تطبيقاتهما في عالم اليوم، كما يوضح "إيفيريت دولمان" (Everett Dolman) صاحب كتاب "الأستروسياسة: الجيوسياسة التقليدية في زمن الفضاء" (Astropolitik: Classical Geopolitics in the Space Age).
هناك مؤشرات كثيرة تدل على طبيعة التحول الحاصل في عالمنا اليوم في مجال الفكر السياسي والإستراتيجي. يشير "تيم مارشال" في "نهاية الجغرافيا" إلى أن الحلف الأطلسي قد أضاف في سنة 2019 لفظة "فضاء" إلى "الأرض والجو والبحر والفضاء السيبراني" لتعيين مجالات عملياته، وأنه تبعًا لذلك قام بفتح مركز للفضاء في قاعدة "رامشتاين" بألمانيا سنة 2021.
لا جدال في أن فهم "جغرافية الفضاء" قد أصبح شرطًا ضروريًا لفهم طبيعة الصراع الدائر اليوم بين القوى العظمى من أجل اقتسام مساحة الوجود. فقد أصبح من الواضح الجلي أن شؤون الأرض تدار من الفضاء. لتأكيد هذه الحقيقة يكفي التأمل فيما أصبح لنظام تحديد المواقع (GPS) من دور في إرشاد الإنسان فوق الأرض، وتنظيم تنقله وحركة مروره.
يحيل "تيم مارشال" على إحصائيات تفيد بأن نظام تحديد المواقع (GPS) قد ساهم في دعم الاقتصاد الأميركي بما يقرب من تريليون ونصف التريليون دولار، ليكون بذلك من أهم مصادر التنمية الاقتصادية خلال العقد الأخير. وفي إطار السعي الحثيث لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية في هذا الباب، تعمل الصين على تطوير نظامها الخاص المعروف بـ (BeiDou)، هذا النظام الذي أصبح يبث معلوماته إلى أكثر من 400 مليون هاتف نقال، وما يزيد على 8 ملايين سيارة.
بناء على ما تقدم نخلص إلى نتيجة مفادها أن الشيء المحقق هو أننا نعيش في عالم هجين لم يعد وجود الإنسان فيه مرتبطًا بحسّ الانتساب إلى الأرض فحسب، بل هو مرتبط بالشعور بالعلاقة مع الفضاء كذلك. لم يعد الإنسان يخرج من مضايق المكان بحثًا عن فسحة الأرض؛ بل ضاقت الأرض في نظر هذا الإنسان فأصبح ينشد الخلاص من خارجها.
لا يخفى أن التكنولوجيا اليوم قد غيّرت معاني كثير من الأشياء. لم يعد السفر في زمن أنظمة الإرشاد وتحديد المواقع وزمن الذكاء الاصطناعي وسيلة لاكتشاف المجهول؛ بل صار السفر في هذا الزمن لاكتشاف المعلوم سلفًا. ألا ترى أننا صرنا قبل الذهاب إلى أي مكان فوق الأرض نطلب تصفح صوره والتزود بالمعلومات عنه من محركات البحث الإلكترونية. يؤشر هذا الأمر على نهاية الجغرافيا، أو الانتهاء من كتابة الأرض.
لكن، ومع هذا التطور المذهل، ومع نفاذ الإنسان إلى الفضاء وسعيه إلى اقتسام القمر، يظل سؤال المعنى قائمًا، بل يزيد إلحاحًا. إذا صح القول بأن نهاية الجغرافيا يؤشر على انتقال الصراع السياسي بين القوى المهيمنة في العالم من الأرض إلى الفضاء، فإنه يصح من وجه آخر أن نتساءل: هل البشرية مستدرجة من حيث لا تعلم إلى ما قد لا يحمد عقباه؟ لأنها تنزع نحو التضييق على الإنسان في الأرض وهي تلجأ إلى الفضاء، عوض أن تتخذ من الرحلة إلى الفضاء وسيلة لدفع مضايق العيش فوق الأرض.
فليس صحيحًا أن الإنسانية قد انتهت من كتابة الأرض، بل إننا نجهل من أمر هذه الأرض أكثر بكثير مما نعلم، ولعل التأمل في زهرة واحدة، في نبتة واحدة، يفتح أمام العاقل أفقًا وجوديًا رحبًا، لا يقل رحابة عن النفاذ إلى أقطار السماوات كلها.
في الختام نقول إن الحديث عن نهاية الجغرافيا يصح من وجه، كما يصح من وجه آخر الحديث عن بداية الجغرافيا، بداية الاهتمام الحقيقي بالأرض، موطن السكن والمعنى والاستقرار والمتاع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الإنسان فی إلى الفضاء الحدیث عن فوق الأرض بین القوى لم یعد من أجل صراع ا
إقرأ أيضاً:
عيار 21 بـ 5490 جنيها.. سعر الذهب في نهاية التعاملات المسائية اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025
ارتفع سعر الذهب اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 في نهاية التعاملات المسائية، فسجل سعر الذهب عيار 21 في بداية التعاملات المسائية نحو 5345 جنيها للبيع، ولكنه ارتفع مجددا ليسجل نحو 5490 جنيها للبيع، وسجلت أوقية الذهب نحو 4112.96 دولار.
سعر الذهبوتوفر «الأسبوع» لمتابعيها كل ما يخص سعر الذهب اليوم، وذلك من خلال خدمة متقدمة تتيحها لمتابعيها في جميع المجالات، ويمكنكم المتابعة من خلال الضغط هنــــا.
سعر الذهب اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 سعر الذهب عيار 24ارتفع سعر الذهب عيار 24 خلال التعاملات المسائية إلى مستوى 6274.25 جنيه للبيع، 6217.25 جنيه للشراء.
سعر الذهب عيار 22صعد سعر الذهب عيار 22 في مساء التعاملات إلى مستوى 5751.5 جنيه للبيع، 5699 جنيها للشراء.
سعر الذهب عيار 21سيطر الصعود على سعر الذهب عيار 21 في الأسواق المحلية في مصر ليسجل نحو 5490 جنيها للبيع، 5440 جنيها للشراء.
سعر الذهب عيار 18هيمن الارتفاع على سعر الذهب عيار 18 في سوق الصاغة المصرية ليسجل نحو 4705.75 جنيه للبيع، 4662.75 جنيه للشراء.
سعر الذهب عيار 14زاد سعر الذهب عيار 14 في محلات الصاغة المصرية إلى مستوى 3660 جنيها للبيع، 3626.75 جنيه للشراء.
سعر الذهب عيار 12سجل سعر الذهب عيار 12 في نهاية التعاملات نحو 3137.25 جنيه للبيع، 3108.5 جنيه للشراء.
سعر الذهب عيار 9وصل سعر الذهب عيار 9 خلال التعاملات النهائية إلى مستوى 2352.75 جنيه للبيع، 2331.5 جنيه للشراء.
سعر الجنيه الذهببلغ سعر الجنيه الذهب اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 نحو 43920 جنيها للبيع، 43520 جنيها للشراء.
سعر الذهب الآن| سعر الذهب الآن عيار 24 | 6274.25 جنيه | 6217.25 جنيه |
| سعر الذهب الآن عيار 22 | 5751.5 جنيها | 5699 جنيه |
| سعر الذهب الآن عيار 21 | 5490 جنيها | 5440 جنيها |
| سعر الذهب الآن عيار 18 | 4705.75 جنيه | 4662.75 جنيه |
| سعر الذهب الآن عيار 14 | 3660 جنيه | 3626.75 جنيه |
| سعر الجنيه الذهب | 43920 جنيه | 43520 جنيه |
| سعر الأوقية الذهبية | 4112.96 دولار | 4112.59 دولار |
اقرأ أيضاًعيار 21 بكام؟.. ارتفاع سعر الذهب بمصر ختام تعاملات اليوم
ارتفاع سعر سبيكة الذهب اليوم.. الـ 10 جرامات بكام؟
15 جنيها دفعة واحدة.. ارتفاع سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين «تحديث مباشر لـ عيار 21»