عام الرّمادة.. ما أشبه البارحةَ باليوم!
تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT
لا يشكّ عاقلٌ في أنّ التأثيرات الاقتصاديّة لحرب الإبادة الإجراميّة على غزة ستكون مرعبةً عقب انتهاء الحرب كما هي في أثنائها مما تعيشه غزة من تجويع وتعطيش وتدمير لكل الموارد.
ولطالما كان التاريخ شعاعًا من ماضٍ غابرٍ يضيءُ في حاضرنا وينير لنا مستقبلًا نتلمسُ للخروج من ظلمائه قبسًا أو جذوةً فلعلّنا نجدُ على التاريخ هدى.
ففي العام الثّامن عشر الهجري إبان خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وقعت في جزيرة العرب مجاعة أنهكت البلاد والعباد وقد أطلق عليها "عام الرمادة" لأنَّ الرِّيح كانت تسفي ترابًا أسود كالرَّماد من شدّة الجدب والقحط.
واستمرّت المجاعة تسعة أشهر بلغ فيها الجهد من النّاس مبلغه، وغادرت قبائل العرب مضاربها ولجأت إلى المدينة علّها تجد عند الخليفة ما يسدّ رمق أبنائها وعيالها، فأقيمت مخيّمات اللاجئين حول مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حوت أكثر من ستين ألف لاجئٍ أنهكهم الجوع وانقطعت بهم السّبل.
أينَ البطون المُقَرقِرة؟!
كان أوّل إجراء اتّخذه الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إجراءً شخصيًّا لكنّه يمثّل المرتكز الأوّل للانطلاق الرّاشد في معالجة الأزمة.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "تقرقر بطن عمر ـ أي أخرجَ صوتًا من قلّة الطّعام ـ وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرّم على نفسه السمن، فنقر بطنه بأصبعه؛ وقال: تَقَرقَر تَقَرقُرَك؛ إنّه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس"، وأكل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشّعير، فصوَّتَ بطنه، فضربه بيده، وقال: "والله ما هو إلّا ما ترى حتى يوسّع الله على المسلمين".
فعمر رضي الله عنه مارس حالةً من التّقشّف الذّاتيّ بوصفه قائدًا ومسؤولًا حتّى يحسّ بأوجاع تلكم الشّريحة التي أنهكتها المجاعة من رعيّته، وهذا انعكاس للهمّ الحقيقيّ بأمر الرّعيّة.
قال أسلمُ رضي الله عنه: "كنّا نقول لو لم يرفع الله المَحْل عام الرمادةِ، لظنَّنا أن عمر يموت همًّا لأمر المسلمين".
وحاول أحدُ أصحابه مرّة أن يقنعه عام الرّمادة بأكل شيءٍ منن السّمن واللبن أحضرها له؛ فرفض الخليفة قائلًا له بكلّ وضوح: " كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسّني ما مسَّهم؟!"
وأما ما يحل بغزة اقتصاديًا فإنّ نقطة الانطلاق للتفكير الحقيقيّ بتلافي كارثة التجويع القائمة والمتوقع استمرارها؛ أن يستشعر قيادات المجتمع هذا المعنى العمريّ.
أمّا الحكّام فقد يئست الشّعوب من قرقرة بطونها، ولكن ماذا عن قيادات العمل الإسلاميّ من مسؤولي الجماعات والتّنظيمات والكيانات والمؤسّسات؟ وماذا عن القادة الذين تنظرُ إليهم الشّعوب على أنّهم مرجعيّات سياسيّة وفكريّة ودعويّة؟ وماذا عن المسؤولين الإداريين للمؤسسّات والشّركات التي بدأت بتسريح عمّالها وموظّفيها؟ كيفَ سيعنيهم شأن أهلهم المجوعين على مرأى البصر منهم إذا لم يشعروا بضيقهم وضنكهم وأوجاعهم وهم الذين ما عادت تسترُ الجدران أنينهم وزفرات جوعهم وحاجتهم؟!
التّوأمة التّكافليّة
امتدّ عام الرّمادة تسعة أشهر، وقد كان عمر رضي الله عنه يخطّط في حال اشتداد الأزمة أكثر وامتدادها بفرض ما يمكن تسميتُه "التّوأمة التّكافليّة".
يقول عمر رضي الله عنه: "والله لو أنّ الله لم يفرجها ما تركتُ أهل بيتٍ من المسلمين لهم سعةٌ إلّا أدخلتُ معهم أعدَادهم من الفقراء؛ فلم يكن اثنان يهلكان من الطّعام على ما يُقيمُ واحدًا".
نحن أمام ما نعاينه من تجويع وتعطيش وإبادة أهلنا في غزة وقد عجزت عنهم أنصارُهم وحولهم وقوتهم وأنفسهم، فلا بدّ من تعزيز الشّعور الجمعيّ بأنّه لا حول ولا قوّة لنا إلّا بالله تعالى؛ فنلزم بابه ونتعلّق بأستارِه؛ فهو وحده المغيث الناصر القاهر العزيز الحكيم.فقد كان عمر رضي الله عنه يخطّطُ على عقد توأمةٍ بين كلّ أسرةٍ لديها ما يكفيها من القوت مع أسرةٍ تماثلها في أعداد الأفراد تتقاسمُ معها قوتها اليوميّ المعتاد دون أن تزيد عليه شيئًا، فإنّ طعام الواحد إن تمّ تقاسمه بين اثنين يحميهما معًا من الهلاك.
وهذه التّوأمة التّكافليّة تنسجم تمامًا مع السيّاسة الأشعريّة التي امتدحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثناءً بالغًا حين قال: "إنَّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمّ اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويّة؛ فهم منّي وأنا منهم".
إنَّ تعميم هذه الثّقافة فيما يجري في غزة سيكون لها بالغ الأثر في العلاج العاجل وتخفيف الكثير من الآثار السّلبيّة الاقتصاديّة التي تفرزها هذه الإبادة الهمجيّة والتجويع الممنهج.
إنَّ الواجب اليوم على قيادات العمل الإسلاميّ من مفكّرين ودعاةً ووجهاء وأصحاب قرار تعميم هذه التّوأمة التّكافليّة الأشعريّة والعُمريّة حتّى تغدو ثقافةً عامّة لا مجرّد حالاتٍ فرديّة.
القوافل والحملات الإغاثيّة
في عام الرّمادة أرسل عمر رضي الله عنه إلى الولاة في مختلف الولايات في العراق والشّام ومصر يطلب منهم القيام بالإغاثة العاجلة للمدينة المنوّرة التي أحاطت بها خيام اللاجئين جوعًا.
وكان يخاطبهم زاجرًا مذكِّرًا بمسؤوليّاتهم مع نداء استغاثة عاجلة فمن نماذج ذلك ما أرسَله إلى عمرو بن العاص واليه على مصر: "أفتراني هالكًا وَمَنْ قِبَلي، وتعيش أنت منعَّمًا وَمَنْ قِبَلَك؟ فواغوثاه! واغوثاه!"
فكتب إِليه عمرو بن العاص: لعبد الله أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد الله إِليك الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: أتاك الغوث، فالرَّيث الرَّيث! لأبعثنَّ بِعِيْرٍ ـ أي قافلةٍ ـ أوَّلها عندك، وآخرها عندي، مع أنِّي أرجو أن أجد سبيلًا أن أحمل في البحر".
وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان والي الشام يقول: "إذا جاءك كتابي هذا فابعث إلينا من الطعام بما يصلح قِبَلَنَا؛ فإنّهم قد هلكوا إلا أن يرحمهم الله".
وفعل مثل ذلك مع باقي الولايات وفعلًا انطلقت قوافل الإغاثة حتّى وصلت المدينة فساهمت في تخفيف أعباء المجاعة.
وأمام ما يجري في غزة ما أحوجنا إلى القوافل والحملات الإغاثيّة التي تُدارُ باقتدار وتصلُ إلى مظانّها من بيوت الذين انقطعت بهم سبل المعيشة في هذا التجويع الذي يجلل البشريّة بالعار.
الاستغاثةِ باللّه أوَّلًا وآخرًا
مع كلّ الإجراءات التي اتّخذها عمر رضي الله عنه في عام الرّمادة لم تنقطع استغاثته وضراعته إلى الله تعالى في أحواله كلّها بل كان يعمل على تعميمها وجعلها حالة يوميّة مستمرّة من جميع المسلمين.
وكان من دعائه الذي يكثر منه عام الرّمادة: "اللّهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنّا حولُنا وقوّتُنا، وعجزت عنّا أنفُسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك"..
ونحن أمام ما نعاينه من تجويع وتعطيش وإبادة أهلنا في غزة وقد عجزت عنهم أنصارُهم وحولهم وقوتهم وأنفسهم، فلا بدّ من تعزيز الشّعور الجمعيّ بأنّه لا حول ولا قوّة لنا إلّا بالله تعالى؛ فنلزم بابه ونتعلّق بأستارِه؛ فهو وحده المغيث الناصر القاهر العزيز الحكيم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة مجاعة احتلال فلسطين غزة مجاعة رأي مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عمر رضی الله عنه فی غزة ة التی
إقرأ أيضاً:
حراك في نيويورك من أجل المشاركة باليوم العالمي للتضامن مع فلسطين (شاهد)
انشرت مقاطع مصورة لعدد من الشبان والطلاب والنشطين الداعمين للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة، وذلك من أجل الدعوة للمشاركة في اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين المقرر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
وعرف عدد من هؤلاء الشبان أنفسهم على أنهم أعضاء في تحالف "أغلقوها من أجل فلسطين - Shut it down for Palestine coalition" من فرع مدينة نيويورك، مؤكدين أنهم يسعون إلى تشجيع الناس للمشاركة في الاحتجاجات التي ستقام في التاسع والعشرين من الشهر الجاري".
@bkforpalestine New York City - Columbus Circle 2pm on November 29th for International Palestinian Solidarity Day ♬ original sound - bkforpalestine
وأضافوا أن هذه الفعاليات والدعوات التي انتشرت في مدينة نيويورك تأتي أيضا ومن أجل جمع التبرعات لصالح غزة، قائلين: "بينما نعود إلى بيوتنا الآمنة الليلة، يواجه الفلسطينيون خطر الموت كل ليلة".
@bkforpalestine Congress is going to vote on two huge bills this week: 1/ HR 9495 will give the department of treasury the power to defund non profit orgs at will for supporting “terrorism”. Lobby your house rep to vote no on this anti-democratic bill. 2/ A yes on SJR 111-116 will block $22b in weapons to Israel. Lobby your senators who can help put an end to this slaughter. ♬ original sound - bkforpalestine
ويقدم التحالف نفسه على أن مهمته تتمثل بضرورة الاستمرار في بناء الزخم وزيادة الضغط بمزيد من المسيرات والمظاهرات والاعتصامات وغيرها من أشكال العمل المباشر الموجه إلى المكاتب السياسية والشركات وأماكن العمل التي تمول وتستثمر وتتعاون مع الإبادة الجماعية والاحتلال الإسرائيلي.
ويؤكد أن هناك حركة عالمية متنامية من أجل حرية فلسطين، وفي مختلف أنحاء العالم يشارك الملايين من الناس في المظاهرات وينظمون مسيرات كبرى تضامنا مع القضية الفلسطينية، قائلا "تحظى مطالبنا بوقف إطلاق النار الفوري، وقطع كل المساعدات لإسرائيل، ورفع الحصار عن غزة بدعم أوسع من أي وقت مضى".
ويضيف أنه "في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، تجمع أكثر من 500 ألف شخص في واشنطن العاصمة للمشاركة في أكبر مسيرة في الآونة الأخيرة للتضامن مع فلسطين، كما اندلعت احتجاجات شارك فيها نصف مليون شخص في شوارع لندن، واحتل الناخبون في مختلف أنحاء كندا أكثر من 17 مكتباً للبرلمان من الساحل إلى الساحل، ورفضت نقابات عمال الموانئ البلجيكية نقل الأسلحة بالطائرات أو البحر المتجهة إلى إسرائيل".
ويؤكد أنه "يتعين علينا أن نستمر في بناء الزخم وزيادة الضغط من خلال المزيد من المسيرات والإضرابات والاعتصامات وغيرها من أشكال العمل المباشر الموجهة إلى المكاتب السياسية والشركات وأماكن العمل التي تمول وتستثمر وتتعاون مع الإبادة الجماعية والاحتلال الإسرائيلي، والآن هو الوقت المناسب لتنمو تحركاتنا في الحجم والوتيرة والتركيز؛ إن بناء مناخ سياسي يجعل أعمال الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل غير مستدامة".
وفي مطلع الشهر الجاري، أعلنت حركة مقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها "BDS" إطلاق أسبوع عالمي من العمل من أجل الضغط وتطبيق قرارات الأمم المتحدة بفرض عقوبات مختلفة على الاحتلال الإسرائيلي.
وقالت الحركة في بيان لها إنه في أيلول/ سبتمبر الماضي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا تاريخيًا يدعو الدول والأمم المتحدة إلى فرض عقوبات على "إسرائيل"، وقد التزمت 124 دولة في جميع أنحاء العالم باتخاذ الخطوات الأولى لفرض عقوبات قانونية.
وأضافت أن "الآن هو الوقت المناسب لجعل هذا حقيقة واقعة.. انضموا إلينا في أسبوع عالمي من العمل من 20 إلى 29 تشرين الثاني/ نوفمبر واضغطوا على حكومتكم للاستجابة للدعوة الفلسطينية الموحدة لفرض العقوبات".
وأكدت أن هذا الضغط يكون بالدعوة إلى "تعليق عضوية إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو دعمها واستبعادها من المنتديات الدولية، وفرض حظر عسكري إلزامي شامل في الاتجاهين على إسرائيل".