كلام الناس
نورالدين مدني
نشأتي في أسرة صوفية عصمتني من الوقوع في شباك الغلو والتطرف وجعلتني بحمد الله وتوفيقه متصالحاً مع نفسي ومع الاخرين منذ صباي الباكر في مدينة عطبره.
كانت عطبره في ذلك الوقت تجسد روح التسامح والتعايش بين مكونات نسيجها المجتمعي التعدد الثقافات والأعراق كما كان السودان التليد حينها وكانت لي علاقات طيبة مع عدد من أسر الأقباط السودانيين.
أثرت روح التسامح الصوفي بصورة إيجابية في تشكيل شخصيتي وتوجهاتي السياسية والفكرية منذ أن بدأت التعاطف مع أطروحات الحزب الوطني الإتحادي وشاركت في ليلة انتخابية لمرشح الحزب في ذلك الوقت إبراهيم المحلاوي لكنني لم انتم لتنظيم الحزب.
بعدها فشلت محاولة لاستقطابي للانضمام لتنظيم الأخوان المسلمين الذي كان ناشطاً في تنظيم خلاياه في المساجد، وظللت محتفظاً باستقلالي الفكري رغم تعاطفي من على البعد مع أطروحات الحزب الوطني الإتحادي.
عندما انتشرت التيارات الاشتراكية والعروبية بعد 23 يوليو 1952م المصرية وسطوع نجم الزعيم جمال عبدالناصر تعاطفت مع الطرح الناصري لكنني لم أنضم لأي حزب حتى بعد قيام الحزب الناصري في السودان وكذلك تعاطفت من على البعد مع الجبهة الديمقراطية لكنني لم أنتم للحزب الشيوعي السوداني.
هكذا ظللت عصياً على التحزب والتعصب حتى عندما تعمقت علاقتي بحزب الأمة القومي إبان زعامة الإمام الصادق المهدي عليه رحمة الله ورضوانه له وبالأمين العام لهيئة سؤون الأنصار الشيخ عبدالمحمود أبو لم انتم لحزب الأمة ولا كيان الانصار.
ذكرت لكم من قبل كيف أنني رفضت العمل مع الحركة الاسلامية السياسية التي كانت تحكم السودان تحت مظلة نظام الانقاذ وكيف انتصر الصحفي على السياسي حتى انتقلت للعيش في دولة أستراليا.
قصدت بهذا السرد المختصر لجانب من سيرتي الذاتية التأكيد على حيادي الإيجابي تجاه الأحزاب مع كامل احترامي للحراك الحزبي السياسي بعيداً عن الغلو والتطرف، ووجدت في أستراليا النموذج الديمقراطي الذي ظللنا نسعي لتحقيقه في السودان، ومازلنا نسعى لوقف الحرب واسترداد الحكم المدني الديمقراطي وتحقيق السلام الشامل وبسط العدالة والعدالة الانتقالية وتأمين الحياة الحرة الكريمة لكل المواطنين رغم كل الانقلابات العسكرية التي عطلت مسار الحراك السياسي الديمقراطي ورغم المحاولات البائسة القائمة عبر تأجيج الحرب العبثية للعودة من جديد للتسلط الأحادي المرفوض.
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
رفض اتفاقية الحكم الذاتي ثم شارك في الانتخابات التي أجريت بموجبها (3- 15)
نواصل عرض ونقاش تجارب الحزب الشيوعي في التحالفات. في المقال السابق أوضحنا العداء الذي كان يكنه الحزب الشيوعي (الجبهة المعادية للاستعمار آنذاك) للأحزاب، وخاصة حزب الامة، وركز حملاته العدائية القوية على السيد عبد الرحمن المهدي، راعي حزب الامة. وأوضحنا انه عندما صارت قضية الاستقلال او الوحدة مع مصر، هي التدي الأساسي، قرر الحزب الانضمام للجبهة الاستقلالية التي يتزعمها السيد عبد الرحمن المهدي، وتضم أيضا الحزب الاشتراكي الجمهوري وهو حزب رجال الإدارة والشيوخ، ويتهم بأنه صنيعة الدولة الاستعمارية، بالإضافة للحزب الجمهوري المعروف. هذا المثال يؤكد ان الخلافات مهما تعمقت والعداوات مهما تجذرت، يجب الا تقف امام الوحدة عند اللحظات التاريخية والمفصلية.
نعرض اليوم مثالا آخر من أحداث تلك الفترة الهامة في تاريخ بلادنا.:
ذكر فيصل عبد الرحمن على طه في كتابه " السودان على مشارف الاستقلال الثاني" في صفحة 25:
" عارض الحزب الشيوعي اتفاقية الحكم الذاتي ونشر أحد كوادره وهو قاسم امين ضابط نقابة عمال السكة الحديد كتيبا بعنوان " اتفاقية السودان في الميزان" عرض فيه لبعض أوجه الاتفاقية وتناولها بنقد وتحليل اتسم في بعض جوانبه بالمبالغة والتهويل".
ما حقيقة موقف الحزب الشيوعي من الاتفاقية: كتب عبد الخالق محجوب في كتاب لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني:
"ان الدعاوي العريضة للاستعماريين وللدوائر المصرية التي تتبجح بانها، منحت، الشعب السوداني استقلاله مجافية للواقع ووقحة في نفس الوقت فالاستعماريون نجوا بجلودهم من وطننا وكانت الاتفاقية انقاذا لهم من تطور الحركة الجماهيرية بطابعها الجديد.
لقد وقعت اتفاقية فبراير 1953 في ظرف كانت الحركة الجماهيرية فيها تسير بخطوات سريعة في نضالها ضد المستعمرين وتتخذ طابعا جديدا بظهور الجبهة المتحدة لتحرير السودان وقيام النقابات العمالية بدور فعال فيها. لقد كانت الحركة الجماهيرية تطالب بالجلاء الناجز للمستعمرين وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره وفي بناء سودان ديمقراطي حر، ولكن الاتفاقية لم تحقق هذا المطلب الشعبي، بل اجلته الى ثلاث سنوات ووضعت قيودا عدة على حرية الشعب السوداني وأعطت الحاكم العام البريطاني سلطات خطرة ليستغلها في تقوية النفوذ البريطاني والضغط على البرلمان. لقد اتخذت أحزاب الطبقة الوسطى موقف التبعية فقبلت الاتفاقية دون تعديل أو نقد ومن وراء ظهر الجبهة المتحدة لتحرير السودان التي كانوا يشتركون فيها.
رغم هذا الجو التهريجي الذي خلقته تلك الأحزاب وقف الحزب الشيوعي ناقدا لتلك الاتفاقية وموضحا مزالقها ومشيرا الى انها لا تتمشي مع الرغبة الجماهيرية الملحة في وجوب الجلاء الناجز للمستعمرين قبل اجراء أي انتخابات في بلادنا.
ان التاريخ يثبت ان الحزب الشيوعي السوداني كان الحزب الوحيد في السودان الذي نظر للاتفاقية المصرية البريطانية نظرة ناقدة وكشف عيوبها ومزالقها التي اتضحت لدي الناس فيما بعد. "
كما قاد اتحاد العمال، الذي كان يسيطر الحزب الشيوعي على قيادته، حملة قوية ضد الاتفاقية، ونشر قاسم أمين كتابه الشهير ضد الاتفاقية. ورغم كل ذلك العداء الشديد والحملة القوية والرفض التام للاتفاقية، قرر الحزب الشيوعي (الجبهة المعادية للاستعمار آنذاك) ان يشارك في الانتخابات التي أجريت بموجب الاتفاقية التي رفضها. ونلاحظ هنا انه رغم كل النقائص التي ذكرها الحزب الشيوعي في نقده للاتفاقية واتهامه للأحزاب الأخرى بانها ايدت الاتفاقية من خلف ظهر الجبهة المتحدة لتحرير السودان، لم يقاطع وانما قرر ان يحول المعركة الانتخابية لحملة ضد الاستعمار. وفعلا خاض الحزب الشيوعي (الجبهة المعادية للاستعمار آنذاك) الانتخابات التي فاز فيها حسن الطاهر زروق عن إحدى دوائر الخريجين، ويقال انه اول نائب شيوعي ينتخب في برلمان في العالم العربي.
نلاحظ هنا ان الحزب الشيوعي هو الأكثر تمسكا بالجبهة المتحدة رغم خلافه الحاد مع الأحزاب حول الموقف من الاتفاقية، وينقدها بانها تخلت عنها، وأيدت الاتفاقية من وراء ظهر الجبهة.
مما يجدر ذكره، هنا، ان الحزب الشيوعي قام، لاحقا، بتصحيح موقفه من الاتفاقية. وقال أنه أخطأ في النظر اليها من زاوية واحدة، نظر الى مزالقها التي يستغلها المستعمرون، والى كونها مناورة للمستعمرين ليخلقوا وضعا شرعيا في البلاد لاستمرار نفوذهم ولم ينظر اليها باعتبارها نتاجا من نتاج الكفاح الشعبي الذي كان في الإمكان ان يثمر أوفر منها لو تقيدت أحزاب الطبقة الوسطى بحلفها في الجبهة المتحدة لتحرير السودان.
siddigelzailaee@gmail.com