عندما يقوم الباحثون بالتنقيب في الشواهد التاريخية لأحداث معينة فإن مهمتهم الأساسية تدور حول البحث عن كل قصة أو جملة أو حتى كلمة تذكر الحدث أو تشير إليه في كل المصادر التي يمكن الوصول إليها، لما في ذلك من أهمية لربط الحدث بكل مكوناته ثم الوصول للنتيجة الأقرب للواقع والمنطق العلمي. فمثلا، حين رصد الفلكيون سديم السرطان الذي نتج عن انفجار نجم في نهاية حياته قدّروا أن هذا النجم قد انفجر قبل حوالي ألف عام من الآن، أي في زمن حديث نسبيا من ناحية توثيق البشر ليومياتهم ومشاهداتهم، وعندما عادوا لسجل المشاهدات التاريخية لأهل الفلك، وجدوا أن اليابانيين والصينيين في شرق الكرة الأرضية قد وثقوا ذلك الحدث بدقة، وكذلك سكان قارة أمريكا الأصليون في الجانب الغربي من الكوكب، ليستنتجوا من خلال هذه الروايات أنها فعلا كانت تصف مشهد سطوع ظهر بشكل مفاجئ في بقعة معينة من السماء عام 1054م، وهي التي نرى فيها الآن سديم السرطان من خلال التلسكوبات، لتتوافق تقديراتهم العلمية حول التاريخ الذي وقع فيه انفجار ذلك النجم مع الرصد الفعلي.

ولدينا اليوم حدث وقع هذه السنة له علاقة بظواهر السماء أيضا، فقد كان أعضاء الجمعية الفلكية العمانية قاسم البوسعيدي وعلي الكندي ورفيقهما يحيى الكندي في رحلة اعتيادية إلى جبل السراة بمحمية الحجر الغربي لأضواء النجوم لتصوير السماء وجمالها بعيدا عن أضواء المدن التي تحجب الضوء العتيق القادم من النجوم، وبعد ضبط زاوية المشهد المطلوب والإعدادات المناسبة فتحوا أعين الكاميرات على السماء لتسهر طويلا للقيام بمهمة جمع الضوء حتى ساعات الفجر، ثم خلدوا إلى نوم هادئ بين أحضان أشجار العلعلان المعمرة،

ومع بزوغ الفجر كانت الكاميرات قد أغمضت أعينها بسبب نفاد الذاكرة أو البطارية، فوضّبوها وحملوها قافلين إلى بيوتهم، دون أن يدور بخلد أحدهم أن تلك الكاميرات حبست في ذاكرتها توثيقا تاريخيا فريدا لظاهرة لا يوجد أي ذِكر لها في الذاكرة التاريخية العمانية.

فعند الرجوع لتلك الصور لاحظوا أنه في ساعة معينة من منتصف الليل ظهرت أضواء براقة وملونة ما بين اللون الوردي والبنفسجي، لم يعتادوا على مشاهدتها في كل تصويرهم للسماء والممتد لسنين سابقة، ولم يعلموا في حينها ما كانت طبيعة تلك الأضواء سوى أنه نما إلى مسمعهم أن تلك الليلة شهدت واحدة من أعنف العواصف الشمسية التي ضربت الأرض، وبسببها شاهد سكان الكوكب الأضواء القطبية -أو ما يعرف بالشفق القطبي- من أماكن غير مُعتادة، وبسبب فرادة الحدث طلبوا مساعدة عدة مهتمين في المجال لتفسير ظهور تلك الأضواء الملونة وما إذا كان لها علاقة بالعاصفة الشمسية التي وقعت، وأحد أولئك المهتمين كانت مبادرة ناسا بالعربية لصاحبها عيسى آل الشيخ، والذي بدوره -لتأكيد التفسير العلمي للظاهرة- قام بالتواصل مع الدكتورة إليزابيث مكدونالدز، خبيرة الفيزياء الشمسية في مركز جودارد التابع لوكالة ناسا، واستجابت بشكل فعال مع تفاصيل الرصد لغرابته وأهميته في إيضاح تأثير تلك العاصفة الشمسية على كوكب الأرض.

طلبت الدكتورة ليز -كما تحب أن تنادى- الكثير من التفاصيل المتعلقة بالكاميرات المستخدمة، وعدساتها، وتفاصيل المنطقة الجغرافية التي تم التصوير منها، وكذلك التوقيت الدقيق للتصوير، والجهة التي تم توجيه الكاميرات إليها، وأدخلت ضمن البريد المتبادل زميلها من ألمانيا مايكل ثيوسنر، خبير أرصاد جوية وعالم فلك هاوٍ ومطور برنامج IDL، وهو بدوره ساهم بشكل فعال في تحليل الصور وتأكيد رقعة السماء التي ظهرت فيها تلك الأضواء، ومقارنتها برواية الراصدِين حول ظروف التصوير، والتأكد من أن كل ما يظهر في الصور لم يتم التلاعب فيه بأي طريقة أو لم تتأثر الكاميرات بأي عوامل أخرى تؤثر على تصويرها.

الخلاصة التي توصل لها الفريق -بعد شهر من النقاش تقريبا والكثير من رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة، وحتى لحظة كتابة هذا المقال- هي أن تلك الأضواء تمثل أول رصد عملي وتوثيق رصين لظهور الشفق القطبي في سماء سلطنة عمان، وهي سابقة نوعية لم تحدث من قبل لندرة حدوث عواصف شمسية قوية تتسبب في مشاهدة الظاهرة من دوائر عرض بعيدة عن المناطق القطبية، وتم اعتبار التقرير حول هذا الحدث «تقرير الشهر» في موقع مشروع «أوروراصورس» الذي تقوده الدكتورة ليز والمخصص لتسجيل بلاغات مشاهدة الأضواء القطبية من مختلف أنحاء العالم بغرض توثيقها وفهرستها ودراستها، ومقارنة بعضها ببعض عند حدوث العواصف الشمسية، مع ربطها بمختلف عوامل ظهورها كحالة الطقس، وشدة العاصفة الشمسية، وطريقة الرصد، وهذا التوثيق سيساعد آخرين -في عُمان أو خارج عُمان- على محاولة تكرار الرصد واعتباره تحديا جديدا في ساحة الأرصاد الفلكية، حيث إن المصورين الفلكيين لديهم مجموعة من الأحداث والظواهر المتعلقة بالسماء والتي يجدون فيها تحديا لرصدها أو التقاط أفضل مشهد لها، أو مصارعة العوائق مثل الظروف الجوية والمعدات المتاحة في تصويرها.

عيسى بن سالم آل الشيخ صاحب مبادرة ناسا بالعربية، وعضو مجلس إدارة الجمعية الفلكية العُمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

"نماء لتوزيع الكهرباء" تختتم مشاركتها في "مؤتمر كهرباء الخليج" بالبحرين

مسقط- الرؤية

اختتمت شركة نماء لتوزيع الكهرباء مشاركتها الفاعلة في مؤتمر ومعرض كهرباء الخليج 2024، الذي أقيم في مملكة البحرين خلال الفترة من 11 إلى 13 نوفمبر الجاري، بمشاركة عدد من أبرز الخبراء وصناع القرار في قطاع الكهرباء.

وقدم المهندس أحمد بن زايد الشقصي، مدير عام الاستراتيجيات والاستدامة بشركة نماء لتوزيع الكهرباء، ورقة بحثية بعنوان "تقييم سياسات تخزين الطاقة"، والتي استعرضت تحليلاً معمقاً لسياسات وتقنيات تخزين الطاقة في سلطنة عمان.

وركّزت الورقة على أربعة محاور رئيسية: الأهداف الاستراتيجية، الدعم المالي، الإطار التنظيمي، وتقييم الأثر البيئي والاقتصادي لتقنيات تخزين الطاقة، بهدف تحقيق التحول المستدام وتعزيز كفاءة استخدام الموارد.

وأكد المهندس علاء بن حسن اللواتي الرئيس التنفيذي لشركة نماء لتوزيع الكهرباء، أن هذه المشاركة تأتي في إطار تعزيز التعاون مع الشركاء في قطاع الطاقة على المستويين الخليجي والدولي، ودعماً لرؤيتنا الاستراتيجية في بناء شراكات فعالة تسهم في تحقيق أهداف الشركة المستقبلية وتأكيد دورها الريادي في تطوير قطاع الطاقة المستدامة في سلطنة عمان.

مقالات مشابهة

  • سفير البحرين: سلطنة عمان تشهد نقلة نوعية في كافة قطاعاتها
  • أشرف تادرس: الليلة قمر الصقيع والظلام ينير سماء مصر
  • نُطلق اعلانات الشارقة للكتاب في سلطنة عُمان لأن القارئ العماني نهم
  • اختتام أعمال دورة المفتشين الوطنيين والتدريب على رأس العمل لمراقبة الجودة
  • "نماء لتوزيع الكهرباء" تختتم مشاركتها في "مؤتمر كهرباء الخليج" بالبحرين
  • وفد عُماني يطلع على التجربة القطرية في التنمية الاجتماعية
  • منجزات من أجل الإنسان
  • صادم: أكاديمي يمني يكتشف نسخة منه دون علمه!
  • إطلاق التشغيل التجريبي لتطبيق TaxiF في سلطنة عمان
  • سانتوس يعود للأضواء ويترقب مصير نيمار مع الهلال !