ماذا يقول لنا العِلم عن أسى الخسارة؟
تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT
لنبدأ من المصطلح «أسى grief»، الذي يُفيدنا بأن نُمايز بينه وبين الحِداد «mourning». للحِداد جانبان: جانب خاص، باطني، يخص العاطفة، أي مشاعر اللوعة والأسى جراء الفقد، والجانب الآخر الظاهر، الذي يشمل السلوكيات الثقافية التي تتم غالبا ضمن الجماعة. أحيانا يكون للحداد شروط وقواعد اجتماعية (مثل عِدّة المرأة لطلاق أو وفاة زوجها في الشريعة الإسلامية، التي تُحدد مُدتها وضوابطها)، أو الحداد الرسمي عند وفاة رئيس دولة، أو شخصية مهمة، الذي له هو الآخر بروتوكولاته.
في سياق الخسارات، الأسى يعني الحزن، ويعني الحسرة على الفقد. وليس غريبا أن يُشتق من جذر الكلمة ما يُشير إلى العلاج (إذ نقول أسى الجرح أو المريض أي عالجه)، وما يُشير -أيضا- إلى المواساة والعزاء (آسى)،إذ إننا نتحدث عن عملية نرجو منها معالجة الخسارة. «Grief» تحتمل أيضا معنى اللوعة، التشوق، وهو معنى مهم لمقال اليوم، قد لا تلتقطه كلمة «أسى»، ما يجعلني أشك في أنها الترجمة الأدق. مع هذا سأستخدمها إلى أن تُشتق كلمة جديدة، أو نلقى مرادفا أفضل.
تختص ماري فرانسيس أوكونور Mary-Frances O’Connor بدراسة أسى الخسارة، وهي مهتمة بفهم هذه الظاهرة على المستويين السيكولوجي والفسيولوجي. أوكونور رائدة في مجال «الأسى المطول prolonged grief» ويُعرف أيضا بـ«الحزن المعقد complicated grief»، وهي حالة اضطراب لا يتكيف فيها الأشخاص مع الخسارة، وتبقى فيها مشاعر الأسى بالحدّة والتواتر والوجع نفسه، ويظهرون زيادة في الحنين والتحاشي (تحاشي التذكير بالوفاة) والاجترار.
في تأملها لطبيعة الأسى، تُلفت أوكونور انتباهنا إلى أن علينا التوقف عن التفكير في الدماغ ككيان واحد، بل على أنه يضم مجموعة من الأنظمة. ثمة نظام للذاكرة يُخبرنا أننا حضرنا جنازة الحبيب الذي خسرناه. مسار المعلومات هذا يفهم أن الخسارة حدثت. لكن ثمة نظام آخر: بيولوجيا أعصاب التعلّقattachment neurobiology، نعتمد عليه عند غياب أحبائنا عن أنظارنا، وهو قائم على إيماننا بأنهم إن ذهبوا إلى مكاتبهم، أو مدارسهم، أو السوق سيعودون إلينا.
لفهم الخسارة لا بد أن نعود إلى كيفية تكوّن رابط بين شخصين، الذي يأتي مع إيمان بأبدية الرابط (وعد بأن نبقى لهم ومعهم ويبقون لنا ومعنا). لا تتغير بيولوجية أعصاب الترابط بمجرد أن يموت أحدهم. يبقى النظام الآخر يقول لنا إنهم في مكان ما في الخارج، وأن علينا انتظارهم، أو الذهاب لإيجادهم. هذا التعارض (ما بين ذكرى دفنهم، والإيمان بأنهم في الخارج، الذي لا يمكن أن يكون كلاهما صحيحا)، يجعل الدماغ يُجاهد، وهذا الجهاد يُترجم لوجع وأسى على الفقدان.
ثمة استعارتان أساسيتان في معجم علماء الأعصاب. الأولى، هي النظام الكهربائي. فيقولون أنه عندما يرتبط شخصان فإن توصيلة wiring الدارات العصبية في الدماغ تتغير. أما الاستعارة الأخرى فهي نظام المعلومات. فيقولون: إن «تحديث» المسارات عند الفقد يتطلب وقتا. الكثير من الالتباس يأتي من تصديق الاستعارات، وأخذها بمعناها الحرفي. وهو أمر لا يفعله غير المختصين وحدهم، بل أصحاب الاختصاص أيضا. وعلينا أن نستمر بتذكير أنفسنا دائما بأنها مجرد استعارة.
يجد البعض صعوبة أكبر في التعامل مع الفقد، ويحتاجون لوقت أطول لتجاوز تجارب الخسارة. تشرح أوكونور أن موجات الأسى تُصبح أقل تكرارا وحِدّة مع الوقت، لكنها تبقى لدى البعض بالحدة والحضور نفسه أشهرا بعد وفاة القريب أو الشريك، ويتجاوبون معه بردة الفعل ذاتها التي أظهروها مباشرة بعد حدث الوفاة. ورغم أن شعور الأسى الأول، يبدو أنه لن يزول أبدا، إلا أنه يزول في النهاية، دون الحاجة إلى تدخل طبي. اضطراب الأسى المطول هو الاستثناء، الذي لا يتكيف فيه الفاقد مع فكرة الفقد. ويقترح الدارسون أن ثمة عوامل تستطيل الحزن منها مثلا وجود مشاكل نفسية سلفا لدى الشخص، العُزلة، وضعف الدعم الاجتماعي الذي يحصل عليه، وأنه بالإمكان علاجه عبر العلاج النفسي.
أسعى اليوم إلى الاستفادة من أبحاث ماري فرانسيس أوكونور حول الأسى، والتأمل فيما إذا كان بالإمكان إسقاطها على أنواع الفقد الأخرى مثل الانفصال. لكن قبلها، لا بد من ملاحظة مجموعة من الأمور. أولا، ثمة فارق مهم بين تجربتي الخسارة عبر الانفصال، والخسارة عبر الموت. فالشريك/ة قد يُطيل حزنه، إطالة مصدرها الأمل: الأمل بأن تتغير الأوضاع، أن يكون ثمة ما يُمكن فعله لتفادي الخسارة، أو استعادة الشريك، بينما لا يوجد أمل في استعادة شخص ميت (إلا إذا كان جون سنو). ثانيا، يتأتى في الانفصال النقاش حول أسبابه، كيف بإمكان الشريكين أن يُعينا بعضهما البعض لتجاوز الأمر، خصوصا إذا امتلكا مكنات التعاطف المتبادل، والاهتمام بمصير الآخر بغض النظر عن أنهما لن يكونا معا. ثالثا، في حالة الموت لا يُمكن بأي حال من الأحوال لوم الطرف الغائب، يُستقبل حادث الخسارة باعتباره قدر لا جدوى من الجدال حول مغزاه.
هذا بعكس حالات الانفصال التي يُمكن أن يُلام فيها طرف (على الخيانة، على التقصير، الخ). تُشير إحدى الدراسات الكمية حول الموضوع، أن الطرف الذي يُبادر بالتخلي غالبا ما يكون الأقل تأثرا- وهو أمر مفهوم، ويُمكن توقعه- ما قد يؤجج مجموعة من المشاعر الإضافية (لا تتوفر في الخسارة عبر الموت) مثل الخذلان، والرغبة في الانتقام، وعدم الأمان وانعدام الثقة بالنفس.
بالرغم من كل هذا، فأنا أشعر أن مثل هذه الدراسات (أعني الخسارة عبر الموت) يُمكنها أن تُسهم في فهمنا لكل أنواع الخسارات. لأنها وبتمثيلها النسخة الأكثر تطرفا من الأسى، تفتح لنا آفاقا للتفكير بالأشكال الأقل تطرفا (أو حتى تلك التي نعدها «نموذجية» أو «طبيعية» أو «موافقة للمعيار»)، وتمدنا بأسئلة جديدة تُقربنا من فهم الظاهرة، خصوصا أن دراسات الانفصال تفتقر لمثل هذه المنهجيات لدراسته، وتعتمد بشكل أساسي على شهادات عينة البحث، وتقييمهم الذاتي للتجربة. صحيح أن التفكير «بمعيار»، والتفريق بين ما هو طبيعي وغير طبيعي في سياق الخسارات يبدو وكأنه ينتقص من تجاربنا الإنسانية الشخصية، إلا أنه قادم من حاجتنا لأن نُشرّح الظاهرة، ونرسم الحد بين ما يحتاج إلى تدخل طبي، وما لا يحتاج.
أُريد أن أسأل مع ذلك، هل تنتمي مواضيع مثل الحب، والتعلّق، والخسارة، والموت إلى المجال العلمي. هذه مواضيع نشعر بأننا يُمكن أن نتأملها من منظور فلسفي أو إنثروبولوجي، ومثل هذه التأملات تمنحنا نفاذ بصيرة تفشل الإحصائيات، أو التشريح العصبي في منحه. رغم هذا، فأنا أشعر أن لغة التحليل الإحصائي صارت جزءًا من كيف نُفكر بأنفسنا. تقول مثلا، أنه من أصل المرتين اللتين ارتبطت فيهما، لم تُبادر إلى الانفصال. ومن هنا يُمكنك أن تُعرّف طبيعة الارتباط والانفصال عندك: أنا دائما الطرف الذي يُترك، أو يَترُك. وأيا يكن موقفنا من هذا الانشغال (الهوسي تقريبا) بمعرفة أنفسنا، فنحن نفعله أوتوماتيكيا طوال الوقت. هذا أولا، أما ثانيا، فالمعرفة الكمية والإحصائية تساعد على تشخيص المصابين بالأسى المطول.
أبحاث ماري فرانسيس أوكونور والفِرق التي تعمل معها، مُهمة بشكل خاصّ لأنها -ولأول مرة- تستعين بالتصوير العصبي الوظيفي، لتشريح الأسى. وهي تنظر في مناطق الدماغ التي تنخرط في عمليات الاستذكار، والفقد. وفي الورقة المعنونة بـ«التشريح العصبي الوظيفي للأسى: دراسة الرنين المغناطيسي الوظيفي Functional Neuroanatomy of Grief: An fMRI Study» توصل الفريق إلى الآتي: تمتد فترة الفجيعة على الفقد بين شهر إلى عام، بمعدل ثمانية شهور ونصف. و«على النقيض من المشاعر الأساسية مثل الحزن أو الخوف، والتي يمكن تظهر للعيان باستخدام نفس المحفزات القياسية لجميع الأشخاص، فإن أسى الخسارة تجربة شخصية للغاية قد يصعب استنباطها في بيئة التصوير العصبي الاصطناعي». وكان الفريق قد سعى إلى تحفيز مشاعر الأسى عبر الصورة والكلمة، ومراقبة نشاط الدماغ أثناء ذلك.
هذا التحدي غير جديد على علماء الوعي، وعلماء النفس. فهم يُقرون أنه مهما بلغ تعقيد التجارب التي يُصممونها يبقى أنها تحدث في ظروف اصطناعية. فاستثارة الأسى في مختبر، أو بينما يستلقي المدروس في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، مُتلقيا التعليمات من الباحثين، يختلف عن الأسى واللوعة اللذين يتكبدهما المرء في ليالي الوحدة. الأمر الآخر، هو أن وجود مُراقب قد يحفز مشاعر مختلطة وربكة، خصوصا مع من يشعرون أن من واجبهم ألا ينسوا، وأن يكونوا أوفياء لمن فقدوا عبر استطالة الحزن وإظهاره. وبهذا يختلط الأسى بالحداد. ويُمكن للمرء أن يُجادل أن هذا يعني أن قياس الأسى غير مُتأت بالمرة. فوق هذا، فالسياق والمحيط جزآن جوهريان من التجارب الشعورية وظواهر الوعي. مثلا، أن تُمسك بيد شخص ما في الشارع، يختلف عنه في مكان خاص، ويتباين بتباين علاقتك باليد التي تُمسكها، فلا يُمكن اختزال هذه اللمسة -على بساطتها- لمجرد مُحفز خارجي. وبهذا تبقى المعرفة التي نتحصلها من التجارب المخبرية محدودة، ولا يُمكن الاعتماد عليها إلا في نطاق محدود وضيق.
تقترح الورقة التي نشرتها أوكونور مع فريق من الباحثين والتي يُمكن ترجمة عنوانها إلى اشتهاء الحب؟ الحزن الدائم ينشط مركز المكافأة في الدماغ Craving love? Enduring grief activates brain’s reward center»، أن الآليات المفترضة -عند مقارنة الأسى المُعقد بغير المعقد- تشمل كلا من النشاط المرتبط بالألم (الألم الاجتماعي للخسارة)، والنشاط المرتبط بالمكافأة (سلوك التعلّق).
وأنا أقرأ هذا، تتبادر إلى ذهني أحاديث خضتها مع الأصدقاء حول الحب غير المتبادل، يقولون إنهم يُفضلّون التورط في حب دون أن يُبادلهم الطرف الآخر المحبة، على أن يحل محل هذا الخواء، أي أن لا يتوفر بتاتا موضوع لحبهم. يُقال أحيانا إن عذاب العشق حلو، لأنه رغم كل شيء يُثري عالمك الداخلي، ويُوفر شماعة للحزن والقنوط، لمن يبحثون عن منفذ للمشاعر المهتاجة والمعقدة. وإذا كان لي أن أخمن أساس هذا الشعور الطيب الذي يستثيره الفقد المُستطال، فسأقول أنه قادم من الشعور بالوفاء، بالقيام بعمل خيّر، بالامتثال لأفكار رفيعة، وقيمٍ عُليا، حتى وإن لم يُجاز فاعله.
نوف السعيدية .كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخسارة عبر الذی ی التی ی التی ت
إقرأ أيضاً:
قائد الأسطول الأمريكي يقول إن وقف تدفق الأسلحة للحوثيين مفتاح لوقف الهجمات التجارية
يمن مونيتور/قسم الأخبار
قال قائد قوات الأسطول الخامس اليوم الخميس إن منع تدفق الصواريخ والطائرات بدون طيار والأسلحة والأجزاء الأخرى من إيران إلى الحوثيين في اليمن هو المفتاح للحفاظ على أمن مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر للشحن التجاري.
وقال الأدميرال داريل كودل، متحدثًا في فعالية لرابطة البحرية، “لا يمكننا التنازل عن هذا الممر المائي” للحوثيين المدعومين من إيران فيما كان أحد أكثر الممرات البحرية التجارية ازدحامًا.
ومنذ بدء الهجمات، قررت مئات السفن التجارية، وخاصة أكبر شركات نقل الحاويات، اتخاذ الطريق الأطول حول إفريقيا لضمان التسليم من وإلى أوروبا وآسيا بدلاً من المخاطرة بالتعرض لهجمات على الطريق الأقصر إلى قناة السويس.
وقال الأدميرال داريل كودل، متحدثًا في فعالية لرابطة البحرية، “لا يمكننا التنازل عن هذا الممر المائي” للحوثيين المدعومين من إيران في ما كان أحد أكثر الممرات البحرية التجارية ازدحامًا. منذ بدء الهجمات، قررت مئات السفن التجارية، وخاصة أكبر شركات نقل الحاويات، اتخاذ الطريق الأطول حول إفريقيا لضمان التسليم من وإلى أوروبا وآسيا بدلاً من المخاطرة بالتعرض لهجمات على الطريق الأقصر إلى قناة السويس.
وأضاف كودل أن القوات البحرية الفرنسية والبريطانية ستعمل أيضًا في تلك المياه قريبًا.
وقال إن قواعد الاشتباك لابد وأن تعكس هذا التحدي المتغير باستمرار من جانب الحوثيين، حتى لا تكتفي البحرية بالرد على الهجمات، بل وتتصرف “وفقا لتوقيتنا وإيقاعنا” لمنعها. “علينا أن نعمل على تجاوز هذا الأمر”.
وقال كودل إن الحوثيين هاجموا نحو 80 سفينة تجارية في المضيق منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.