لجريدة عمان:
2024-08-26@00:14:15 GMT

الثقافة والأمن القومي

تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT

التصور الشائع هو أن أمن الدولة القومي قد يكون متوقفًا في المقام الأول على قوتها العسكرية والاقتصادية، فذلك ما يكفل استقرارها ومنعتها بحيث يحول دون اختراقها من قوى أخرى معادية، وفي إطار هذا التصور لا يكون للثقافة دور في الأمن القومي؛ إذ يُنظَر إليها باعتبارها ترفًا أو مكونًا هامشيًّا في هذا الصدد، فلا يعتد به بالقياس إلى قوة الدولة العسكرية والاقتصادية! هذا التصور-فيما أرى- هو تصور منقوص لمفهوم الأمن القومي بحيث يصبح منعزلًا عن مفهوم الأمن الداخلي، وأنا لا أزعم ذلك فقط باعتبار أن الثقافة تعد إحدى قوى الدولة التي تسمى بالقوة الناعمة من حيث تأثيرها في الخارج؛ وإنما باعتبارها أيضًا -وفي المقام الأول- قوة تكفل للدولة منعة من الداخل، أعني: قوة في نسيج الدولة الداخلي يجعلها مستعصية على الاختراق، وهذا ما أحاول البرهنة عليه في هذا المقال.

في هذا الصدد أتذكر موقفًا شخصيًّا لعله يكون مثالَا دالًا على ما أود قوله هنا: فقد التقيت منذ سنتين تقريبًا اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق في فترة الربيع العربي، وذلك في أحد الصالونات الثقافية. تحدث سيادة اللواء بالتفصيل عما جرى في مصر في ثورة يناير وما قبلها (وكذلك في ثورات الربيع العربي)، وكشف عما كان هناك من مخططات لاختراق الدولة المصرية وتقسيمها، وبيّن أن ما جرى إنما هو امتداد لمشروع قديم في تقسيم مصر وغيرها من الدول العربية، وهو مشروع سايكس بيكو. وبعد أن انتهى سيادته من كلامه وتوصيفه المفصل، قمت بالتعقيب على كلامه، وقلت: إن كل ما جاء في كلام سيادته صحيح من دون شك، ليس فقط من الناحية التاريخية، وإنما أيضًا لأنه يتوافق مع المعقولية: فالأصل هو أن القوى العظمى تتصارع من أجل الهيمنة والسيطرة على الدول الضعيفة، فذلك هو قانون الطبيعة الذي يسري على الأفراد مثلما يسري على الدول أيضًا: «فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان» كما قال هوبز؛ ولذلك فإن من يعارضون فكرة المؤامرة أو التآمر هم قوم لا يعرفون الطبيعة البشرية أصلًا، ومن ثم لا يفهمون طبيعة الصراع بين الدول على النفوذ والهيمنة! ومع ذلك، فإننا لا يمكن أن نكتفي بهذا القول، ونظن أن القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها يمكن أن تكفل لنا حائط صد في مواجهة الهيمنة على مقدراتنا، هذا على فرض أننا أمكننا تحقيق تلك القوة في هذين المجالين معًا. ولذلك قلت: لماذا لم تستطع القوى العالمية المهيمنة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترق دولًا أخرى مثل: دول النمور الآسيوية التي تنامت قوتها بشكل غير مسبوق؟! حقًّا إن المنطقة العربية تظل منطقة مركزية باعتبارها بؤرة أو بيئة حاضنة شعبيًّا لإمكان تجدد الصراع مع إسرائيل التي هي أداة أو ذراع لهيمنة أمريكا في الشرق الأوسط، ولكن سياسة الاختراق هذه لم تكن ممكنة من دون تسلل إلى التأثير في الوعي بهدف إضعاف دول المنطقة وإغراقها في حالة من الفوضى «غير الخلَّاقة»، وهو ما يقتضي اختراق النقاط الضعيفة في وعي الناس، وذلك من قبيل التلاعب بوعيهم الديني الهش، ومن ثم دعم الجماعات الدينية مثل: داعش والجماعات السلفية، فضلًا عن جماعة الإخوان المسلمين، بادعاء أن ذلك المسار هو طريق الخلاص والتحرر من أجل تحقيق نظام ديمقراطي مزعوم في مواجهة نظم استبدادية.

لم يكن لهذا المخطط المتآمر أن يحقق أهدافه إلا في سياق ثقافي هش يفتقر إلى الوعي، ليس فقط الوعي الديني، وإنما أيضًا الوعي بمعناه العام الذي يشمل أيضًا الوعي السياسي والتاريخي والعلمي والجمالي، وغير ذلك من أشكال الوعي التي يتم تغييبها بفعل تغييب الوعي الديني ذاته بحيث يصبح مهيمنًا على سائر مناحي النشاط الإنساني. وهكذا يمكن القول بأن هذا النظام أو المخطط الجديد كان يزعم أنه يسعى إلى تبديل الاستبداد السياسي، ولكنه في الحقيقة كان يسعى إلى إحلال شكل آخر من الاستبداد باسم الدين. جرى هذا المخطط في ظل غياب للوعي بمعنى الدولة والهوية والمواطنة، وغير ذلك من المفاهيم الأساسية التي تؤسس معنى وماهية الوجود الإنساني. هذا هو السياق الذي قفزت فيه جماعة الإخوان المسلمين على الحكم باسم الدين لا الدولة، وهو ما جرى في كل الدول التي عايشت ما يُسمَّى بالربيع العربي. ولكن السؤال الذي يبقى هو: هل تغير هذا السياق الثقافي بالفعل بحيث يكفل لهذه الدول منعة من الداخل على محاولات الاختراق التي لا تهدأ ولا تتوقف؟ وكيف يمكن مواجهة ما يُعرَف الآن «بالإمبريالية الثقافية»؟ هنا تبرز أهمية الثقافة في بناء الدولة والنهوض بها، وهذا أمر يظل مرهونًا بدعم الدولة للثقافة وسائر مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، على الأقل من الناحية السياسية، وبتوافر مناخ يتيح حرية الفكر والإبداع. فالثقافة هي ما تصنع نسيج الوعي في الأمة وتشكل هويتها في مواجهة سحق منظومة العولمة للهويات ولمفهوم الوطن والمواطنة. كل هذا يقتضي إصلاح آليات الثقافة التي تصنعها وزارة الثقافة مع منظومة التعليم والإعلام، وهي مسائل سبق أن تناولتها بالتفصيل في مقالات أخرى عديدة، فليرجع إلى ذلك من يشاء.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ذلک من

إقرأ أيضاً:

شُبهات الماعز والوعي المثقوب

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

حاولت الثَقافة اليونانية القديمة الخروج من ضَبابِّية تجريد الحزن لديها إلى واقعية تَشخيصه في محفل "أغنية الماعز" وتجسيد أحزانهم في ذلك الحيوان عبر طقوس دينيةٍ تنتهي بذبحه، وهي رمزيةٍ للعب على الوعي الذاتي المتصل بالجانب المادي في تفاعل الروح مع الجسد وتُوحي بنهاية الأحزان، حتى باتت تُعرف بالتراجيديا في السرديات القصصية الحزينة، والحقيقة أن الحزن لا يُذبح بموت الماعز مثلما يُذبح الموت المُجسَّد في الآخرة بعد الانتهاء من الحساب، وإنما هو عزاءٍ مؤقت وأمنية دنيوية استأثر بها وعي العامَّة في محاولة إقناع النفس بإقصاء الحزن، لما تعود به من راحة وهمية وطمأنينة زائفة وإن كانت لحظية.

لِكثرة التفكُّر في غُموض الوعي، فقد اعتقد الكثير بأنَّه وهمٌ كالسراب لا وجود له، والواقع أنه موجود ولكنه مفهوم لا يُعرف له تفسير ثابت وتحليل صلب أو تعريفٍ متفق عليه، إذ يختلف الانطباع من إنسانٍ إلى آخر وتحدد الفطرة قابليته ومن حيوان إلى آخر وتحدد الغريزة أهميته، فإذا تسنى لأحدنا مشاهدة منظرٍ جميل لمروجٍ خضراء شاسعة وبجانبه يقف ماعزٌ يرقب نفس الحدث فإنَّ وقع تلك المشاهد وبكل تأكيدٍ سيختلف بين الإنسان والحيوان وهذا المثال مبني على قصة حقيقية، وربما يكون الانطباع الأول لدى الماعز بالهروب والعودة إلى القطيع هو الأكثر ترجيحًا من أكل الأعشاب والحشائش، بينما قد يُفكر الإنسان بأكل الماعز نفسه وكلا الانطباعين حرَّكتهما الغريزةِ والفطرة، وفجأة تلاشت السهول المروج الخضراء.

وهكذا تَسرَّب من ثقوب وعينا تصديقُ كل قِصة تسبقها مقولة "مبني على قصةٍ حقيقية" وهو أمر شائع في عالم الروايات والسينما، لنشرع بفرضية أن كل ما نقرأه ونراه حقيقيًا وكل المشاهد واقعية وقد حدثت بالفعل، وإن لم تحدث إلّا في خيال الكاتب أو المؤلف المحتمل معايشته للقصة أو جزء منها ومُعظمها من وحي الخيال وإن فرض المحال ليس بمحال، ولازلنا نتابع معتقدين بأنها حدثت بالفعل، كما إن احتمال كذب المؤلف وارد جدًا بما أنه سيُضفي على حبكةِ قصته لمسة التشويق المطلوبة قياسًا على "أعذبُ الشعر أكذبه" كما يظهر في السينما الهندية، وقد يصل في مرحلةٍ من مراحل نبوغه التأليفي إلى سبر غور تفكير قطيعٍ من الماعز مثلًا وتشبيه وعيه الذاتي بالوعي الإنساني، أو إيصال راعي القطيع في مرحلة يأسٍ إلى حدود الكفر أو الإلحاد وقد لا يكون للمؤلف قصد من وراء ذلك ولكن وقع تلك المشاعر على المتلقي سيحدث التأثير العميق المنشود.

لا يُمكننا اليوم نُكران التقارب بين سينما بوليوود الهندية وهوليوود الأمريكية، ونلاحظ انعكاسات هذا التفاهم والتعاون على مستوى الممثلين الهنود المشاركين في السينما الأمريكية التي ما انفكت تسيء للإسلام عمومًا والمسلمين خصوصًا والعرب تحديدًا ولا زالت تفعل ولا يخفى ذلك على المُتابع كما لا يخفى سلوك بوليوود الهندية مؤخرًا نفس النهج من خلال مجموعة غير قليلةٍ من أفلامها، إذ تُظهر علامات تبطين الإساءة للإسلام والمسلمين لا سيما الأفلام التاريخية إبان الحكم المغولي الإسلامي للهند مع إهمال فضائل تلك المرحلة، ويتبين فيها التزييف والتدليس المتعمد بكل جلاء والأمثلة عليها كثيرة ولكن نتجاوز ذكرها تجنبًا للترويج لها.

مُعظم القِصص التي تتخذ مسار السردية الذاتية إن لم يكن كلها تتبنى القانون الأزلي للخير والشر وهي أبسط صورة لاستدراج الوعي وتضع المُتابع في حالةِ تعاطف وترجيح أحد الأطراف المُتضادة، وبالتالي سيُعمد إلى شيطنة الطرف المُمثل للشر ليكون مكروهًا ويتوجب عليه نيلُ جزاءه وغالبًا ماتميل النهاية إلى كفَّة الطرف الذي يُمثل الخير، وهذه الصورة النمطية التقليدية تتشكل في الوعي الإنساني السليم منذ بداية القصة وربما قبل بدايتها مع ظهور إشارة "مبني على قصة حقيقية" حيث تستحوذ هذه المقولة بسرعة قياسية على الذهن، وتُدخل انفعالات المتابع في دائرة التصديق التام والقبول الكامل بأن ما يشاهده هو أقرب للواقع منه للخيال أو الكذب.

وكل ذلك في حيثيات تلك القصة بشخوصها وزمانها ومكانها لا يزال في النطاق التجريدي وهو مقبول جدًا في حدودها، ولكن ما هو غير معقول أن تخرج القصة من حدود إطارها الكتابي أو التمثيلي إلى نطاق التشخيص الواقعي لتسقط شخصية واحدة مُنتقاه بعناية على المجتمع وكأنها تُمثله وفجأةً تلاشت القصة الطويلة مع استيقاظ المعرفات القمَّامة، فتتدخل أقلامها الطفيلية والتي لاغرض لها سوى التكاثر على أجساد الماعز في حياته وبعد مماته وتحللهِ بالنَّيل من الشخصية التي مثلت دور الشر وتعميمها بكل صلافةٍ على الجميع، وكأنها ترغب بالانتقام من تلك الشخصية بإخراجها من القصة وتجسيدها على الواقع ومواصلة الانتقام منها بتأليب الرأي العام حولها ويأبى الكفيل لتلك الأقلام إلا أن تكون النهاية على الواقع مناصرة للشر ومناقضة للقانون الأزلي، وهذا افتِعالٍ في منتهي المكر والعنصرية.

لا يمكن سَوق الشعوب الواعية خلف آراءِ رعاعٍ لا يعلمون شيئًا عن النقد الفني والأدبي، وأفواهٍ صفراء لا يُعلم عنها شيء سوى سعيها الدؤوب لإشاعة البغضاء والكراهية في المجتمعات النقية، عندما تستهدفها في ظاهر كلمة حقٍ أريد بها باطل، وقد بان عوار تلك الأسماء والمُعرفات وبات غرضها معلومًا لدى البعيد قبل القريب، فهي وبكل بساطة لا تتردد في النيل من بلادٍ بأسرها وسياستها العامة بناءً على أسخف وأتفه الأسباب، وحتى لو وصل بها الأمر للاستعانة بأقصوصة لاتخلو من الخرافة أو التلفيق، وبما أن ذلك قد عُلم وأصبح واقعًا وتأكدت لنا توجهات الأقلام القمَّامة المأجورة فإننا وصلنا هنا إلى النهاية السعيدة للقصة، وهي مرحلةٍ متقدمة من الحصانة بحيث لم يعد ينطلي على وعينا أباطيلها وتضليلها، ولكن تبقَّت هناك شرذمة أشبه بقطيع الماعز يسوقها الراعي بعصاه وكلبه تحت ترهيب وترغيب الكفيل حيثما شاء وكيفما أراد وجب إيقاظ الوعي لها، فإذا نزعنا عصا الراعي من يده وحجبنا عنه كلبه فإنَّ القطيع من حوله سيتشتت، وهو ماعلينا فعله في مواجهة المعرفات الوهمية التي ترعى حول الحمى وتعتاش بالمفتريات والإفتآت على القيل والقال وتتغذى على الشبهات وتكره الطيبات وتُحرم الحلال.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  •  بـ«الحكمة والحسم».. مصر تصون أمن الإقليم
  • شُبهات الماعز والوعي المثقوب
  • محافظ الفيوم يناقش آليات وخطة عمل المبادرة الرئاسية "بداية"
  • «الثقافة» توضح تفاصيل المشروع القومي للتنمية البشرية.. يُناسب جميع الفئات والأعمار
  • بداية جديدة لبناء الإنسان.. ما أهداف وأولويات أول مشروع بـالتنمية البشرية؟
  • حاتم صابر يكتب: الأمن القومي المصري.. رؤية استراتيجية لتعزيز الحماية والتقدم
  • عبد السند يمامة: حزب الوفد يلتزم بدعم الدولة المصرية في مختلف القضايا الوطنية
  • لاتقتصر على العسكريين.. مدير كلية الدفاع الوطني يكشف الدرجات العلمية التي تمنحها
  • الأمن القومي رؤية جديدة لمواجهة التحديات.. جهود حثيثة للدولة لحمايته على جميع الاتجاهات الاستراتيجية (ملف خاص)
  • وزارة السياحة تعلن القطع الأثرية لشهر أغسطس بالمتاحف.. تعبر عن النيل