لجريدة عمان:
2025-04-26@09:42:00 GMT

الثقافة والأمن القومي

تاريخ النشر: 17th, July 2024 GMT

التصور الشائع هو أن أمن الدولة القومي قد يكون متوقفًا في المقام الأول على قوتها العسكرية والاقتصادية، فذلك ما يكفل استقرارها ومنعتها بحيث يحول دون اختراقها من قوى أخرى معادية، وفي إطار هذا التصور لا يكون للثقافة دور في الأمن القومي؛ إذ يُنظَر إليها باعتبارها ترفًا أو مكونًا هامشيًّا في هذا الصدد، فلا يعتد به بالقياس إلى قوة الدولة العسكرية والاقتصادية! هذا التصور-فيما أرى- هو تصور منقوص لمفهوم الأمن القومي بحيث يصبح منعزلًا عن مفهوم الأمن الداخلي، وأنا لا أزعم ذلك فقط باعتبار أن الثقافة تعد إحدى قوى الدولة التي تسمى بالقوة الناعمة من حيث تأثيرها في الخارج؛ وإنما باعتبارها أيضًا -وفي المقام الأول- قوة تكفل للدولة منعة من الداخل، أعني: قوة في نسيج الدولة الداخلي يجعلها مستعصية على الاختراق، وهذا ما أحاول البرهنة عليه في هذا المقال.

في هذا الصدد أتذكر موقفًا شخصيًّا لعله يكون مثالَا دالًا على ما أود قوله هنا: فقد التقيت منذ سنتين تقريبًا اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق في فترة الربيع العربي، وذلك في أحد الصالونات الثقافية. تحدث سيادة اللواء بالتفصيل عما جرى في مصر في ثورة يناير وما قبلها (وكذلك في ثورات الربيع العربي)، وكشف عما كان هناك من مخططات لاختراق الدولة المصرية وتقسيمها، وبيّن أن ما جرى إنما هو امتداد لمشروع قديم في تقسيم مصر وغيرها من الدول العربية، وهو مشروع سايكس بيكو. وبعد أن انتهى سيادته من كلامه وتوصيفه المفصل، قمت بالتعقيب على كلامه، وقلت: إن كل ما جاء في كلام سيادته صحيح من دون شك، ليس فقط من الناحية التاريخية، وإنما أيضًا لأنه يتوافق مع المعقولية: فالأصل هو أن القوى العظمى تتصارع من أجل الهيمنة والسيطرة على الدول الضعيفة، فذلك هو قانون الطبيعة الذي يسري على الأفراد مثلما يسري على الدول أيضًا: «فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان» كما قال هوبز؛ ولذلك فإن من يعارضون فكرة المؤامرة أو التآمر هم قوم لا يعرفون الطبيعة البشرية أصلًا، ومن ثم لا يفهمون طبيعة الصراع بين الدول على النفوذ والهيمنة! ومع ذلك، فإننا لا يمكن أن نكتفي بهذا القول، ونظن أن القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها يمكن أن تكفل لنا حائط صد في مواجهة الهيمنة على مقدراتنا، هذا على فرض أننا أمكننا تحقيق تلك القوة في هذين المجالين معًا. ولذلك قلت: لماذا لم تستطع القوى العالمية المهيمنة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترق دولًا أخرى مثل: دول النمور الآسيوية التي تنامت قوتها بشكل غير مسبوق؟! حقًّا إن المنطقة العربية تظل منطقة مركزية باعتبارها بؤرة أو بيئة حاضنة شعبيًّا لإمكان تجدد الصراع مع إسرائيل التي هي أداة أو ذراع لهيمنة أمريكا في الشرق الأوسط، ولكن سياسة الاختراق هذه لم تكن ممكنة من دون تسلل إلى التأثير في الوعي بهدف إضعاف دول المنطقة وإغراقها في حالة من الفوضى «غير الخلَّاقة»، وهو ما يقتضي اختراق النقاط الضعيفة في وعي الناس، وذلك من قبيل التلاعب بوعيهم الديني الهش، ومن ثم دعم الجماعات الدينية مثل: داعش والجماعات السلفية، فضلًا عن جماعة الإخوان المسلمين، بادعاء أن ذلك المسار هو طريق الخلاص والتحرر من أجل تحقيق نظام ديمقراطي مزعوم في مواجهة نظم استبدادية.

لم يكن لهذا المخطط المتآمر أن يحقق أهدافه إلا في سياق ثقافي هش يفتقر إلى الوعي، ليس فقط الوعي الديني، وإنما أيضًا الوعي بمعناه العام الذي يشمل أيضًا الوعي السياسي والتاريخي والعلمي والجمالي، وغير ذلك من أشكال الوعي التي يتم تغييبها بفعل تغييب الوعي الديني ذاته بحيث يصبح مهيمنًا على سائر مناحي النشاط الإنساني. وهكذا يمكن القول بأن هذا النظام أو المخطط الجديد كان يزعم أنه يسعى إلى تبديل الاستبداد السياسي، ولكنه في الحقيقة كان يسعى إلى إحلال شكل آخر من الاستبداد باسم الدين. جرى هذا المخطط في ظل غياب للوعي بمعنى الدولة والهوية والمواطنة، وغير ذلك من المفاهيم الأساسية التي تؤسس معنى وماهية الوجود الإنساني. هذا هو السياق الذي قفزت فيه جماعة الإخوان المسلمين على الحكم باسم الدين لا الدولة، وهو ما جرى في كل الدول التي عايشت ما يُسمَّى بالربيع العربي. ولكن السؤال الذي يبقى هو: هل تغير هذا السياق الثقافي بالفعل بحيث يكفل لهذه الدول منعة من الداخل على محاولات الاختراق التي لا تهدأ ولا تتوقف؟ وكيف يمكن مواجهة ما يُعرَف الآن «بالإمبريالية الثقافية»؟ هنا تبرز أهمية الثقافة في بناء الدولة والنهوض بها، وهذا أمر يظل مرهونًا بدعم الدولة للثقافة وسائر مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، على الأقل من الناحية السياسية، وبتوافر مناخ يتيح حرية الفكر والإبداع. فالثقافة هي ما تصنع نسيج الوعي في الأمة وتشكل هويتها في مواجهة سحق منظومة العولمة للهويات ولمفهوم الوطن والمواطنة. كل هذا يقتضي إصلاح آليات الثقافة التي تصنعها وزارة الثقافة مع منظومة التعليم والإعلام، وهي مسائل سبق أن تناولتها بالتفصيل في مقالات أخرى عديدة، فليرجع إلى ذلك من يشاء.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ذلک من

إقرأ أيضاً:

ما هي الإمتيازات التي كانت تدافع عنها د. هنادي شهيدة معسكر زمزم

من أغرب أنواع الاختزال التحليلي الذي لا يصمد لثواني من الفحص قول بعض أهل اليسار أن الداعمين للدولة، وبالضرورة جيشها، هم صفوة حضرية غرضهم هو حماية إمتيازاتهم الإقتصادية التاريخية. هذا التبسيط مصاب بعمي الشعب الطوعي لانه يتعمد ألا يري عشرات الملايين من البسطاء من كل القبائل والمناطق يقفون مع الجيش – ومن معه من غاضبون وملوك إشتباك ومجموعات مني وجبريل ومتطوعين – لعدة أسباب منها بربرية الجنجويد غير المسبوقة التي استباحت دمهم وعرضهم ومالهم وأذلتهم وشردتهم. هذا الاختزال اليساري يعني أن معظم داعمي الدولة ضد الميلشيا هم من أثرياء المدن أو الريف ولكن هذا كلام لا تسنده الحقيقة التي يعرفها كل سوداني.

ولا أدري ما هي الإمتيازات التي كانت تدافع عنها د. هنادي شهيدة معسكر زمزم أو كيف يفسر إستشهادها أصحاب الاختزال الطبقي. المهم، جاءت قناة الجزيرة بخبر وفيديو لقاء المواطن حماد مع البرهان، وهذا حماد لا أعرف عنه شيئا سوي أنه من الدندر. سؤالي لاصحاب التحليل الطبقي هو هل يملك السيد حماد إمتيازات طبقية متوارثة تدفعه للوقوف مع الدولة لحماية هذه إمتيازات أم أنه مواطن بسيط لا يحب أن تنتهك حرماته؟ أم أن الحق في سلامة الجسد والمال من الاستباحة صار إمتيازا غير مشروعا في كتاب اليسار يدان من يطلبه بتهمة الأنانية الطبقية؟

** بدون التورط في شرعنة انفلات اللغة ولا التبرير له ولا لأي كائن، لا أملك من سطحية ونفاق التأدب البرجوازي ما يكفي لإدانة السيد حماد. أوفر غضبي لما فعل الجنجويد باهل منطقته واترك إدانة غضب الضحية لآخرين.
معتصم اقرع معتصم اقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • ما هي الإمتيازات التي كانت تدافع عنها د. هنادي شهيدة معسكر زمزم
  • برلماني: الرقم القومي للعقار خطوة حاسمة نحو اقتصاد رقمي شفاف
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • شاهد بالصور.. في موقف يُجسد الشرف والأمانة.. شرطي سوداني يعيد مبلغ 250 ألف دولار ومبالغ أخرى لصاحبها بعد تعرض سيارته التي يقودها لحادث سير بالطريق القومي
  • السيسي: التحديات التي يشهدها الاقتصاد العالمي تحتم تكثيف التعاون بين الدول العربية
  • أهم التهديدات التي تواجه الأمن القومي المصري.. ندوة بجامعة الملك سلمان الدولية
  • رفيق شلغوم يكتب: تعريف "كيسنجر" الدقيق وتصريح "عمرو موسى" المهم وعلاقتهما بالأمن القومي الجزائري!
  • دينية الشيوخ: تخريج الأئمة في الأكاديمية العسكرية يعكس إيمان الدولة ببناء الوعي
  • تزامناً مع العيد القومي لسيناء.. "بحوث الصحراء" يواصل دعم المزارعين ميدانيا
  • تزامناً مع العيد القومي لسيناء.. مركز بحوث الصحراء يواصل دعم المزارعين ميدانياً