التصور الشائع هو أن أمن الدولة القومي قد يكون متوقفًا في المقام الأول على قوتها العسكرية والاقتصادية، فذلك ما يكفل استقرارها ومنعتها بحيث يحول دون اختراقها من قوى أخرى معادية، وفي إطار هذا التصور لا يكون للثقافة دور في الأمن القومي؛ إذ يُنظَر إليها باعتبارها ترفًا أو مكونًا هامشيًّا في هذا الصدد، فلا يعتد به بالقياس إلى قوة الدولة العسكرية والاقتصادية! هذا التصور-فيما أرى- هو تصور منقوص لمفهوم الأمن القومي بحيث يصبح منعزلًا عن مفهوم الأمن الداخلي، وأنا لا أزعم ذلك فقط باعتبار أن الثقافة تعد إحدى قوى الدولة التي تسمى بالقوة الناعمة من حيث تأثيرها في الخارج؛ وإنما باعتبارها أيضًا -وفي المقام الأول- قوة تكفل للدولة منعة من الداخل، أعني: قوة في نسيج الدولة الداخلي يجعلها مستعصية على الاختراق، وهذا ما أحاول البرهنة عليه في هذا المقال.
في هذا الصدد أتذكر موقفًا شخصيًّا لعله يكون مثالَا دالًا على ما أود قوله هنا: فقد التقيت منذ سنتين تقريبًا اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق في فترة الربيع العربي، وذلك في أحد الصالونات الثقافية. تحدث سيادة اللواء بالتفصيل عما جرى في مصر في ثورة يناير وما قبلها (وكذلك في ثورات الربيع العربي)، وكشف عما كان هناك من مخططات لاختراق الدولة المصرية وتقسيمها، وبيّن أن ما جرى إنما هو امتداد لمشروع قديم في تقسيم مصر وغيرها من الدول العربية، وهو مشروع سايكس بيكو. وبعد أن انتهى سيادته من كلامه وتوصيفه المفصل، قمت بالتعقيب على كلامه، وقلت: إن كل ما جاء في كلام سيادته صحيح من دون شك، ليس فقط من الناحية التاريخية، وإنما أيضًا لأنه يتوافق مع المعقولية: فالأصل هو أن القوى العظمى تتصارع من أجل الهيمنة والسيطرة على الدول الضعيفة، فذلك هو قانون الطبيعة الذي يسري على الأفراد مثلما يسري على الدول أيضًا: «فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان» كما قال هوبز؛ ولذلك فإن من يعارضون فكرة المؤامرة أو التآمر هم قوم لا يعرفون الطبيعة البشرية أصلًا، ومن ثم لا يفهمون طبيعة الصراع بين الدول على النفوذ والهيمنة! ومع ذلك، فإننا لا يمكن أن نكتفي بهذا القول، ونظن أن القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها يمكن أن تكفل لنا حائط صد في مواجهة الهيمنة على مقدراتنا، هذا على فرض أننا أمكننا تحقيق تلك القوة في هذين المجالين معًا. ولذلك قلت: لماذا لم تستطع القوى العالمية المهيمنة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أن تخترق دولًا أخرى مثل: دول النمور الآسيوية التي تنامت قوتها بشكل غير مسبوق؟! حقًّا إن المنطقة العربية تظل منطقة مركزية باعتبارها بؤرة أو بيئة حاضنة شعبيًّا لإمكان تجدد الصراع مع إسرائيل التي هي أداة أو ذراع لهيمنة أمريكا في الشرق الأوسط، ولكن سياسة الاختراق هذه لم تكن ممكنة من دون تسلل إلى التأثير في الوعي بهدف إضعاف دول المنطقة وإغراقها في حالة من الفوضى «غير الخلَّاقة»، وهو ما يقتضي اختراق النقاط الضعيفة في وعي الناس، وذلك من قبيل التلاعب بوعيهم الديني الهش، ومن ثم دعم الجماعات الدينية مثل: داعش والجماعات السلفية، فضلًا عن جماعة الإخوان المسلمين، بادعاء أن ذلك المسار هو طريق الخلاص والتحرر من أجل تحقيق نظام ديمقراطي مزعوم في مواجهة نظم استبدادية.
لم يكن لهذا المخطط المتآمر أن يحقق أهدافه إلا في سياق ثقافي هش يفتقر إلى الوعي، ليس فقط الوعي الديني، وإنما أيضًا الوعي بمعناه العام الذي يشمل أيضًا الوعي السياسي والتاريخي والعلمي والجمالي، وغير ذلك من أشكال الوعي التي يتم تغييبها بفعل تغييب الوعي الديني ذاته بحيث يصبح مهيمنًا على سائر مناحي النشاط الإنساني. وهكذا يمكن القول بأن هذا النظام أو المخطط الجديد كان يزعم أنه يسعى إلى تبديل الاستبداد السياسي، ولكنه في الحقيقة كان يسعى إلى إحلال شكل آخر من الاستبداد باسم الدين. جرى هذا المخطط في ظل غياب للوعي بمعنى الدولة والهوية والمواطنة، وغير ذلك من المفاهيم الأساسية التي تؤسس معنى وماهية الوجود الإنساني. هذا هو السياق الذي قفزت فيه جماعة الإخوان المسلمين على الحكم باسم الدين لا الدولة، وهو ما جرى في كل الدول التي عايشت ما يُسمَّى بالربيع العربي. ولكن السؤال الذي يبقى هو: هل تغير هذا السياق الثقافي بالفعل بحيث يكفل لهذه الدول منعة من الداخل على محاولات الاختراق التي لا تهدأ ولا تتوقف؟ وكيف يمكن مواجهة ما يُعرَف الآن «بالإمبريالية الثقافية»؟ هنا تبرز أهمية الثقافة في بناء الدولة والنهوض بها، وهذا أمر يظل مرهونًا بدعم الدولة للثقافة وسائر مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، على الأقل من الناحية السياسية، وبتوافر مناخ يتيح حرية الفكر والإبداع. فالثقافة هي ما تصنع نسيج الوعي في الأمة وتشكل هويتها في مواجهة سحق منظومة العولمة للهويات ولمفهوم الوطن والمواطنة. كل هذا يقتضي إصلاح آليات الثقافة التي تصنعها وزارة الثقافة مع منظومة التعليم والإعلام، وهي مسائل سبق أن تناولتها بالتفصيل في مقالات أخرى عديدة، فليرجع إلى ذلك من يشاء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ذلک من
إقرأ أيضاً:
باحث: الأمن القومي العربي خط أحمر ولا يمكن التعدي عليه
شدد الدكتور فواز كاسب، باحث سعودي في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، على أنه من منظور نظرية التحدي والاستجابة، فإن تصريح ترامب جمع كل الدول العربية والبيانات التي خرجت في الوكالات الرئيسية عبر وسائل الإعلام تؤكد أن الأمن القومي العربي خط أحمر ولا يمكن التعدي عليه من خلال القضية الفلسطينية.
وأضاف كاسب، في مداخلة هاتفية مع الإعلامية بسمة وهبة، مقدمة برنامج "90 دقيقة"، عبر قناة "المحور": "مثل هذه التصريحات تكشف المخططات الأمريكية، ولكن هناك وعيا سياسيا للشارع العربي، الذي أصبح لديه الوعي الأمني والسياسي وثقة عالية جدا في قيادته بمصر والسعودية وبقية الدول العربية".
وتابع باحث في الشؤون الاستراتيجية والأمنية: “نحن على إدراك ووعي بأن ما تقوم به القيادة يأتي في مصلحة الأمن القومي العربي، ولكن الرئيس الأمريكي يفتقر إلى الجانب التاريخي والثقافي في الملف الفلسطيني والثقافة العربية”.