لجريدة عمان:
2024-12-23@12:02:34 GMT

أوّلُ القَصَصِ «2»

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

أوَّلُ بلد أزوره من الخليج العربي كانت عُمان، ولم أكن أعرف قبل سنة 2007 تلك البلاد ولا أهلها، وكانت وِجْهتي الأولى نزوى، حيث أقمْتُ في فُنْدق بـ «فرْق» قبل أن تنقلنا الجامعة إلى الشُقق المُخصّصة لنا، وكُنّا في شهر رمضان، فكانت الغُرْبة مضاعفة، خاصّة أنّ السنة التدريسيّة لم تبدأ بعد، وفي ليلة من ليالي السّمر الرمضانيّة التي استضافني فيها جملة من الأصدقاء العُمانيين الحادثين، فُوجِئتُ بأنّهم يتبارزون بعرْض أجدادهم، انتسابا إلى الجدّ الثامن أو العاشر أو ما يفوق ذلك، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون القبائل، وما تفرّع عنها من بطون وأفخاذ وعشائر، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون كل لقبٍ إلى أيّة قبيلة يرجع، وحكاية الانفصال أو التغيير أو التبدُّل، والأعراق وما داخلها من شعوبٍ وقبائل، وما إلى ذلك من معارف اجتماعيّة، أدركتُ من بعد ذلك أنّ معرفتها واجبٌ على كلّ فردٍ من القبيلة، وصُعِقت أنا الذي بالكاد يُمكن أن أعرف اسم جدّي ثمّ أقف لا أعرف من بعد ذلك شيئا، وهو أمرٌ لا أختصُّ بجهْله وعدم طلب العلم به، وإنّما هو ظاهرةٌ تسودُ جيلي والأجيال السابقة عنّي والأجيال اللاّحقة في بلادي، ذهلت أيضا أنّ صحْبي من العُمانيين يختزنون كمّا رهيبا من الحكايات، ومن الأساطير، ومن الوقائع التي تبدو لبعضهم حقائق وأراها من توليد عقل تخييلي له طاقة عجيبة على القصص.

ولذلك، عندما فتحتُ مبحث سردية الخبر في التراث العربي في رسالة الدكتوراه التي أنْجزتُها بإشراف الرائد في علم الأخبار الأستاذ محمّد القاضي، اعتقدتُ أنّ الدخول بالكتابة في الأنساب والحكايات العالقة بها بهذا الشكل المفرط، الذي تتميّز به الآداب العربية، هو من نافلة المباحث، وأنّه اهتمام صفوةٍ من العرب، أرادوا الحفاظ على نِسْبَتهم وانتسابهم أمام دخولِ شعوب أخرى الإسلامَ، شعوبٌ تعرَّبت وانتمت إلى القبائل العربيّة، ولم يُرَد لها أن تذوب في الأصل العربيّ. والحالُ أنّ الأمر لم يكن لهذه الغاية فحسب، بل هو راجعٌ إلى ميزة فطريّة عند العربيّ أنْ يرتبط بأصله، وأن يظلّ موتودا إلى سلفه، مرْتبطا بعرقه، مفتخرا به. والحديث في النسب عند العرب، شفويّا كان في أحاديثِ شقٍّ من سُكّان الجزيرة العربيّة لحدّ اليوم، أو في المنقول المكتوب من كتب جمّة ووفيرةٍ، لم يكن محض روايةٍ لتسلسل النسب، وإنّما النسبُ حكاية، وقَصص تُرْوى، ولذلك عددتُ كُتب الأنساب من المصادر الأولى التي خلَّقت القَصص وولّدت أصوله في تراث العرب، ومن المقامات التي ساهمت بشكلٍ فاعلٍ في إنتاج مدوّنةٍ قصصيّة ما زالت فاعلةً بأشكال مختلفة في الأدب العربيّ. مدوّنات في النسب عديدة، يعسُرُ جمعها ووسْمها بسمةٍ واحدة، تُستَهلُّ تدوينا بكتابٍ له الأثر الكبير في مرويّات العرب الأخباريّة والإحاليّة والتخييليّة والأنسابيّة والسِيَريّة، وهو كتاب «جمهرة النسب» لأبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (تـ 204 هـ)، الذي جمّع المرويّات الشفويّة في النسب، ونقلها إلى صحيفةٍ مدوّنةٍ تناقلها عنه الرُّواة وصدّروها منطَلقا رئيسا لكلّ خائضٍ في «علم النَّسب»، الذي ظاهرُه بيانٌ لأصول القبائل العربيّة، وباطنُه حمَّالُ فِكَرٍ ومعتقدات، ومنه تفرّعت مُصنّفات تقترب منه وتبتعدُ، في ذكر أنساب العرب وقصّ حكايات الآباء والأجداد، والصلات والعلائق، الحوادث والوقائع، الأمّهاتُ ومنازلهنّ وما خلّفن من سلالات فانية أو باقية، إلى غير ذلك من معارف وأخبار وقصص قد لا نجد مصادرها إلاّ في كُتب الأنساب، وقد عَدّ محقّق كتاب «جمهرة النسب» هشام بن السائب الكلبي «رائدَ المؤرّخين في علم الأنساب، بما له من مشاركة ملموسة في الحياة الثقافية والفكرية للإسلام. وقد ظل ابن الكلبي لفترات طويلة تجاوزت عصره من أبرز وجوه الإسلام لدى مؤرخي عصره ومَن بعدهم. وقد تجلّى ذلك حين اعتمدت المؤلفاتُ اللاّحقة على كتاباته إلى حدّ بعيد». ولا فائدة في هذا المقام من التوسُّع في عرْض هذه المصنّفات التي تخصّصت في الأنساب العربيّة، فليس هذا مقام عرْضها، ولكن غايتنا توجيه الباحثين إلى ثراءٍ قصصيّ كبير موجود قي هذا المقام النثري ظلّ إلى حدّ اليوم بِكرا، غُفلا، يحتاج دراسةً عميقةً، تتوسَلُ بالأدبيّ واللّسانيّ والتاريخي والأنثروبولوجي، إعمالا للدرس التداوليّ الثقافيّ. ويُمكن أن نقصِر إشارتنا في مثالٍ مبينٍ عن ظاهرة علوّ السرديّة في تتبّع الأنساب، هو كتاب «الأنساب» لأبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي الصحاريّ، الذي توسّع فيه صاحبه في تقَصُّد قصص الأقدمين، وطلب حكايات الأنساب، وهو يبدأ ضَبْطَه للنسب من أوّل الخلْق، ويسير قُدُما عارضا قصّة آدم خلْقا وعصيانا ونزولا إلى الأرض، وحكايات الجنّ، وقصّة قابيل وهابيل وما دار من صراع بينهما، وغير ذلك، ممّا رافق سرد النسب من قصص موجودٍ في القرآن الكريم، أو مأثورٍ في التفاسير، أو مدوّن في مؤلّفات المؤرّخين. ومن ذلك أنّه عند بيانه لنَسَب مالك بن فهْم الأزدي وانتشار ولده، واختياره السكن في أرض عُمان، يروي قصّة جَنّتي «مأرب وما كان من أمرهما وانتقال الأزد منهما حين حُشِروا بسيْلٍ»، ويتوسّع في بيان قصّة الجنّتين الوارد ذكرهما في القرآن، يقول: «وكانت جنّتاهم من وراء السور، وقصورهم داخل الجنّتين. والجنّتان كلّ تؤتي أكلها كلّ حين. وكان أحدهم إذا أراد الماء رفع تلك الأبواب التي تلي جنته بابا، فخرج الماء إلى جداول تخترق في قصورهم، وجنّاتهم، وحدائقهم، وإذا استغنى أرسل الباب. وكانوا قد غرسوا على ذلك الماء الجنّتين اللّتين ذكرهما الله تعالى في القرآن عن يمين وشمال وظلّلوهما حتى كانتا لا تدخلهما الشمس ولا الريح وكان من أمرهما كما ذكر الله تعالى (...) فكانت المرأة تخرج من مأرب، إلى بلد الشّام، تريد بيت المقدس، ومغزلها في يدها، ومكتلها على رأسها، بلا زاد. وكانت إذا أرادت الأكل أصابت مكتلها مملوءًا كلّه ثمر، ممّا ألقته الريح من غير أن تجتنيه، فتأكله. ولم يكن في بلدهم سبُع، ولا حيّة، ولا شيء من الهوامّ يُخاف منه». وقِس على ذلك من أُصول الحكايات التي يُهْتَدى في شِقٍّ من صياغتها السرديّة بهيْكلة القصص القرآنيّ، ويُهْتدى في شِقّ آخر بقوّة المخيَّلة العربيّة على ابتداع «عوالم قصصيّة ممكنة». ولا يحيد العوتبي في روايته عن الثيمات القصصيّة الكُبرى الواردة في القصص القرآني، وهو يجتهد في تعبئة الموتيفات القصصيّة التوسيعية، التي تضخِّم النوى الأصليّة وتفخّمها وتُفصّلها، ليَصْنَع بذلك سُرُودا أُولى يُمكن أن تكون مشاريع روائيّة تستلهم تخييل التاريخ، ولا ننسى أنّ أعمالا روائيّة وسينمائيّة عالميّة كبرى مَتَحت نواها السرديّة من موروثها التاريخي والأسطوري، وهو الأمر الذي يُكوّن ثغرة وَسيعة في أعمال الروائيين العرب اليوم، الذين ظلّ التاريخ بعيدا عن تناولهم التخييلي، التاريخ الذي تكتّلت قصصه حدّ بلوغ أوجها في «ألف ليلة وليلة»، ولذلك، هل يحقّ للناقد أن يستبق الروائيّ وأن يُفتّح له مسالك في الكتابة القصصيّة، تبدو بعيدة المنال، وهي الأقرب؟ هل يحقّ لي أن أتحدث عن قصص ضاربٍ في التاريخ، منغرسٍ في الطبع العربيّ؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العربی ة

إقرأ أيضاً:

أول رد إسرائيلي على الصاروخ اليمني الذي سقط في تل أبيب

نظام الدفاع الصاروخي ثاد (وكالات)

في هجوم غير مسبوق، أطلقت جماعة الحوثي اليمنية صاروخاً باليستياً باتجاه تل أبيب، في عملية فاجأت الدفاعات الجوية الإسرائيلية.

وعلى الرغم من تفعيل صفارات الإنذار، فشلت منظومة القبة الحديدية في اعتراض الصاروخ الذي اخترق طبقات الدفاع الجوي وسقط في وسط المدينة، مما أسفر عن إصابة 14 شخصاً بجروح متفاوتة الشدة.

اقرأ أيضاً بمدرّعة روسية رفقة 3 أشخاص.. تفاصيل جديدة حول فرار بشار الأسد إلى موسكو 21 ديسمبر، 2024 أول لقاء يجع الجولاني بالأمريكيين في سوريا.. ماذا دار فيه؟ 20 ديسمبر، 2024

يمثل هذا الفشل ضربة قوية لسمعة القبة الحديدية التي تعتبر من أهم أنظمة الدفاع الصاروخي في العالم، ويثير تساؤلات حول مدى فعالية هذه المنظومة في مواجهة التهديدات الصاروخية المتطورة.

وفي أول تعليق له، قال الجيش الإسرائيلي، إن محاولات اعتراض صاروخ قادم من اليمن فشلت بعد فترة وجيزة من انطلاق صفارات الإنذار في وسط إسرائيل.

وتابع أنه جرى رصد مقذوف سقط في المنطقة، فيما أوضح المتحدث باسم الجيش: "عقب التنبيهات التي تم تفعيلها منذ قليل وسط البلاد، تم رصد إطلاق صاروخ واحد من اليمن، حيث تم إجراء محاولات اعتراض فاشلة، ورصد سقوط الصاروخ في المنطقة".

مقالات مشابهة

  • أحمد زعيم.. صوت الإبداع الذي يحلّق في سماء الفن العربي
  • كيف اختزلت حادثة ماغديبورغ مدى الاحتقان الطائفي والعرقي والسياسي الذي ينخر في جسد الوطن العربي؟
  • الإعلان عن الشهر الذي شهد أكبر عدد من الولادات في تركيا
  • من هو النبي الذي قتل جالوت؟.. تعرف على القصة كاملة
  • في عكّار.. ما الذي ضبطه الجيش؟
  • أول صورة للمُجرم الذي دهس الدراج في بيروت.. شاهدوها
  • أول رد إسرائيلي على الصاروخ اليمني الذي سقط في تل أبيب
  • علي جمعة: الصدق الذي نستهين به هو أمر عظيم
  • اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
  • ما حجم النفط الذي يمكن أن يضخَّه ترامب؟