لجريدة عمان:
2025-02-16@13:49:43 GMT

أوّلُ القَصَصِ «2»

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

أوَّلُ بلد أزوره من الخليج العربي كانت عُمان، ولم أكن أعرف قبل سنة 2007 تلك البلاد ولا أهلها، وكانت وِجْهتي الأولى نزوى، حيث أقمْتُ في فُنْدق بـ «فرْق» قبل أن تنقلنا الجامعة إلى الشُقق المُخصّصة لنا، وكُنّا في شهر رمضان، فكانت الغُرْبة مضاعفة، خاصّة أنّ السنة التدريسيّة لم تبدأ بعد، وفي ليلة من ليالي السّمر الرمضانيّة التي استضافني فيها جملة من الأصدقاء العُمانيين الحادثين، فُوجِئتُ بأنّهم يتبارزون بعرْض أجدادهم، انتسابا إلى الجدّ الثامن أو العاشر أو ما يفوق ذلك، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون القبائل، وما تفرّع عنها من بطون وأفخاذ وعشائر، وفُوجِئتُ أيضا أنّهم يعرفون كل لقبٍ إلى أيّة قبيلة يرجع، وحكاية الانفصال أو التغيير أو التبدُّل، والأعراق وما داخلها من شعوبٍ وقبائل، وما إلى ذلك من معارف اجتماعيّة، أدركتُ من بعد ذلك أنّ معرفتها واجبٌ على كلّ فردٍ من القبيلة، وصُعِقت أنا الذي بالكاد يُمكن أن أعرف اسم جدّي ثمّ أقف لا أعرف من بعد ذلك شيئا، وهو أمرٌ لا أختصُّ بجهْله وعدم طلب العلم به، وإنّما هو ظاهرةٌ تسودُ جيلي والأجيال السابقة عنّي والأجيال اللاّحقة في بلادي، ذهلت أيضا أنّ صحْبي من العُمانيين يختزنون كمّا رهيبا من الحكايات، ومن الأساطير، ومن الوقائع التي تبدو لبعضهم حقائق وأراها من توليد عقل تخييلي له طاقة عجيبة على القصص.

ولذلك، عندما فتحتُ مبحث سردية الخبر في التراث العربي في رسالة الدكتوراه التي أنْجزتُها بإشراف الرائد في علم الأخبار الأستاذ محمّد القاضي، اعتقدتُ أنّ الدخول بالكتابة في الأنساب والحكايات العالقة بها بهذا الشكل المفرط، الذي تتميّز به الآداب العربية، هو من نافلة المباحث، وأنّه اهتمام صفوةٍ من العرب، أرادوا الحفاظ على نِسْبَتهم وانتسابهم أمام دخولِ شعوب أخرى الإسلامَ، شعوبٌ تعرَّبت وانتمت إلى القبائل العربيّة، ولم يُرَد لها أن تذوب في الأصل العربيّ. والحالُ أنّ الأمر لم يكن لهذه الغاية فحسب، بل هو راجعٌ إلى ميزة فطريّة عند العربيّ أنْ يرتبط بأصله، وأن يظلّ موتودا إلى سلفه، مرْتبطا بعرقه، مفتخرا به. والحديث في النسب عند العرب، شفويّا كان في أحاديثِ شقٍّ من سُكّان الجزيرة العربيّة لحدّ اليوم، أو في المنقول المكتوب من كتب جمّة ووفيرةٍ، لم يكن محض روايةٍ لتسلسل النسب، وإنّما النسبُ حكاية، وقَصص تُرْوى، ولذلك عددتُ كُتب الأنساب من المصادر الأولى التي خلَّقت القَصص وولّدت أصوله في تراث العرب، ومن المقامات التي ساهمت بشكلٍ فاعلٍ في إنتاج مدوّنةٍ قصصيّة ما زالت فاعلةً بأشكال مختلفة في الأدب العربيّ. مدوّنات في النسب عديدة، يعسُرُ جمعها ووسْمها بسمةٍ واحدة، تُستَهلُّ تدوينا بكتابٍ له الأثر الكبير في مرويّات العرب الأخباريّة والإحاليّة والتخييليّة والأنسابيّة والسِيَريّة، وهو كتاب «جمهرة النسب» لأبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (تـ 204 هـ)، الذي جمّع المرويّات الشفويّة في النسب، ونقلها إلى صحيفةٍ مدوّنةٍ تناقلها عنه الرُّواة وصدّروها منطَلقا رئيسا لكلّ خائضٍ في «علم النَّسب»، الذي ظاهرُه بيانٌ لأصول القبائل العربيّة، وباطنُه حمَّالُ فِكَرٍ ومعتقدات، ومنه تفرّعت مُصنّفات تقترب منه وتبتعدُ، في ذكر أنساب العرب وقصّ حكايات الآباء والأجداد، والصلات والعلائق، الحوادث والوقائع، الأمّهاتُ ومنازلهنّ وما خلّفن من سلالات فانية أو باقية، إلى غير ذلك من معارف وأخبار وقصص قد لا نجد مصادرها إلاّ في كُتب الأنساب، وقد عَدّ محقّق كتاب «جمهرة النسب» هشام بن السائب الكلبي «رائدَ المؤرّخين في علم الأنساب، بما له من مشاركة ملموسة في الحياة الثقافية والفكرية للإسلام. وقد ظل ابن الكلبي لفترات طويلة تجاوزت عصره من أبرز وجوه الإسلام لدى مؤرخي عصره ومَن بعدهم. وقد تجلّى ذلك حين اعتمدت المؤلفاتُ اللاّحقة على كتاباته إلى حدّ بعيد». ولا فائدة في هذا المقام من التوسُّع في عرْض هذه المصنّفات التي تخصّصت في الأنساب العربيّة، فليس هذا مقام عرْضها، ولكن غايتنا توجيه الباحثين إلى ثراءٍ قصصيّ كبير موجود قي هذا المقام النثري ظلّ إلى حدّ اليوم بِكرا، غُفلا، يحتاج دراسةً عميقةً، تتوسَلُ بالأدبيّ واللّسانيّ والتاريخي والأنثروبولوجي، إعمالا للدرس التداوليّ الثقافيّ. ويُمكن أن نقصِر إشارتنا في مثالٍ مبينٍ عن ظاهرة علوّ السرديّة في تتبّع الأنساب، هو كتاب «الأنساب» لأبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي الصحاريّ، الذي توسّع فيه صاحبه في تقَصُّد قصص الأقدمين، وطلب حكايات الأنساب، وهو يبدأ ضَبْطَه للنسب من أوّل الخلْق، ويسير قُدُما عارضا قصّة آدم خلْقا وعصيانا ونزولا إلى الأرض، وحكايات الجنّ، وقصّة قابيل وهابيل وما دار من صراع بينهما، وغير ذلك، ممّا رافق سرد النسب من قصص موجودٍ في القرآن الكريم، أو مأثورٍ في التفاسير، أو مدوّن في مؤلّفات المؤرّخين. ومن ذلك أنّه عند بيانه لنَسَب مالك بن فهْم الأزدي وانتشار ولده، واختياره السكن في أرض عُمان، يروي قصّة جَنّتي «مأرب وما كان من أمرهما وانتقال الأزد منهما حين حُشِروا بسيْلٍ»، ويتوسّع في بيان قصّة الجنّتين الوارد ذكرهما في القرآن، يقول: «وكانت جنّتاهم من وراء السور، وقصورهم داخل الجنّتين. والجنّتان كلّ تؤتي أكلها كلّ حين. وكان أحدهم إذا أراد الماء رفع تلك الأبواب التي تلي جنته بابا، فخرج الماء إلى جداول تخترق في قصورهم، وجنّاتهم، وحدائقهم، وإذا استغنى أرسل الباب. وكانوا قد غرسوا على ذلك الماء الجنّتين اللّتين ذكرهما الله تعالى في القرآن عن يمين وشمال وظلّلوهما حتى كانتا لا تدخلهما الشمس ولا الريح وكان من أمرهما كما ذكر الله تعالى (...) فكانت المرأة تخرج من مأرب، إلى بلد الشّام، تريد بيت المقدس، ومغزلها في يدها، ومكتلها على رأسها، بلا زاد. وكانت إذا أرادت الأكل أصابت مكتلها مملوءًا كلّه ثمر، ممّا ألقته الريح من غير أن تجتنيه، فتأكله. ولم يكن في بلدهم سبُع، ولا حيّة، ولا شيء من الهوامّ يُخاف منه». وقِس على ذلك من أُصول الحكايات التي يُهْتَدى في شِقٍّ من صياغتها السرديّة بهيْكلة القصص القرآنيّ، ويُهْتدى في شِقّ آخر بقوّة المخيَّلة العربيّة على ابتداع «عوالم قصصيّة ممكنة». ولا يحيد العوتبي في روايته عن الثيمات القصصيّة الكُبرى الواردة في القصص القرآني، وهو يجتهد في تعبئة الموتيفات القصصيّة التوسيعية، التي تضخِّم النوى الأصليّة وتفخّمها وتُفصّلها، ليَصْنَع بذلك سُرُودا أُولى يُمكن أن تكون مشاريع روائيّة تستلهم تخييل التاريخ، ولا ننسى أنّ أعمالا روائيّة وسينمائيّة عالميّة كبرى مَتَحت نواها السرديّة من موروثها التاريخي والأسطوري، وهو الأمر الذي يُكوّن ثغرة وَسيعة في أعمال الروائيين العرب اليوم، الذين ظلّ التاريخ بعيدا عن تناولهم التخييلي، التاريخ الذي تكتّلت قصصه حدّ بلوغ أوجها في «ألف ليلة وليلة»، ولذلك، هل يحقّ للناقد أن يستبق الروائيّ وأن يُفتّح له مسالك في الكتابة القصصيّة، تبدو بعيدة المنال، وهي الأقرب؟ هل يحقّ لي أن أتحدث عن قصص ضاربٍ في التاريخ، منغرسٍ في الطبع العربيّ؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العربی ة

إقرأ أيضاً:

مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!

في 14 شباط (فبراير) 2005، كان اغتيال رفيق الحريري. كان ذلك قبل 20 عاماً.

كان إيذاناً بحرب جديدة تستهدف إلغاء لبنان عبر قتل مشروع إعادة الحياة إلى البلد على غرار إعادة الحياة إلى بيروت بكلّ ما ترمز إليه. صدّ لبنان الحرب التي استهدفته. لم يربح بعد الحرب التي شنّت عليه باسم «المقاومة»، لكنّه خسر رفيق الحريري الذي يظلّ مشروعه المحاولة الوحيدة لإعادة وضع لبنان على خريطة المنطقة والعالم... وإعادة لبنان بعمقه العربي إلى اللبنانيين، جميع اللبنانيين إلى الشيعي والمسيحي قبل السنّي.
قتلوا رفيق الحريري، القتلة معروفون. لكنّ هؤلاء القتلة لم يتمكنوا من مشروعه الذي هزمهم. إنّه المشروع الذي لا خيار آخر أمام العهد الجديد في لبنان غير العودة إلى خطوطه العريضة التي تستند إلى ربط البلد بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم... بدل أن يكون لبنان ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
خسر لبنان رفيق الحريري، لكنه لم يخسر نفسه بفضل ما بناه الرجل، بفضل رؤيته المستقبلية، التي عمّرت خمس سنوات تقريباً. بين نهاية 1992 ومنتصف 1998، عندما انتخب إميل لحود رئيسا للجمهورية في سياق حرب إيرانيّة - سوريّة على رفيق الحريري. جُنّد في تلك الحرب بشار الأسد، الذي كان يجري تحضيره لخلافة والده، تمهيداً لعملية وضع اليد الإيرانيّة على سوريا ولبنان في آن.
استطاع رفيق الحريري، إعادة بناء جزء كبير من البنية التحتية بأقل مقدار ممكن من الاستدانة وأكبر مقدار ممكن من الفعاليّة. فعل ذلك على الرغم من كلّ الحملات التي شُنّت عليه من كلّ حدب وصوب. اغتيل سياسياً ومعنوياً قبل اغتياله جسدياً. تبيّن أنّه كان على حق عندما قال لي شخصياً مساء السبت، قبل أقلّ من 48 ساعة من تفجير موكبه: «من سيغتالني مجنون». كان ذلك في منزله في قريطم، حيث سألني عن مدى جدّية التهديدات التي تستهدفه، فأجبته إنّها «أكثر من جدّية». زدت على ذلك ردّاً على سؤال منه: «هل النظام السوري عاقل أم مجنون؟» إن هذا النظام «بقي عاقلاً إلى اليوم الذي قرّر فيه التمديد لإميل لحود، في رئاسة الجمهوريّة على الرغم من صدور القرار 1559».
في الواقع، ما كنت لأجازف بالقول إنّ النظام السوري لم يعد عاقلاً لولا لقاء لي مع بشّار الأسد، قبل وفاة والده بأسابيع. اكتشفت في اللقاء الذي استمرّ ثلاث ساعات، في حضور شاهد، أنّ بشّار، شخص متهور لا علاقة له لا بما يدور في المنطقة ولا بما يدور في العالم. يقول بشّار، الشيء وعكسه في غضون دقائق قليلة. زادت قناعتي بأنّه سيقدم على عمل مجنون مثل تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري، وجرائم أخرى. معلومات بلغتني لاحقاً من شخص موثوق به فحواها أنّ خليفة حافظ الأسد «معجب بحسن نصرالله وبات تحت تأثيره»!
ما حقّقه رفيق الحريري، للبنان كان أقرب إلى معجزة من أي شيء آخر. مضى عشرون عاماً على غيابه ولا يزال حاضراً أكثر من أي وقت، خصوصاً بعد كلّ ما شهده اللبنانيون في عقدين كان فيهما الهمّ الأوّل لـ«الحرس الثوري» الإيراني، عبر أداته اللبنانيّة، تدمير كلّ مؤسسة لبنانية وكل رموز لبنان. هذا ما فهمه رفيق الحريري، باكراً، أي قبل تسلّمه مهمات رسمية.
لذلك، دعم المجتمع اللبناني عن طريق التعليم. ثلاثون ألف شاب لبناني من كلّ الطوائف والمناطق تعلموا على حسابه. دعم أيضاً كلّ ما له علاقة بصمود لبنان مثل المؤسسة العسكرية التي تكفل في مرحلة معيّنة بجزء من رواتب ضباطها وعناصرها. دعم الجامعة الأميركية وأساتذتها في بيروت على كل المستويات وقبل ذلك الجامعة اللبنانية. دعم أيضاً جريدة «النهار» بكل ما تمثله في وقت مرّت فيه بظروف صعبة. أثار ذلك غضب بشّار الأسد، الذي طلب منه بيع أسهمه في «النهار». ما لبث بشّار، أن حرض على جبران تويني، الذي اغتيل في أواخر العام 2005، مع مجموعة الشرفاء، من سمير قصير، إلى لقمان سليم ومحمد شطح وباسل فليحان، مروراً ببيار أمين الجميل، وكلّ مَنْ ساهم في ترسيخ فكرة «لبنان أوّلاً» مثل وسام الحسن ووسام عيد وجورج حاوي ووليد عيدو وانطوان غانم وفرنسوا الحاج...
بعد 20 عاماً على اغتيال رفيق الحريري، بقي المشروع، مشروع قيامة لبنان... ورحل القتلة. ليس ما يدعو إلى الشماتة، مقدار ما أنّ ليس هناك ما يعوض خسارة رجل أمضى حياته القصيرة وهو يبني. بنى نفسه أولاً ثم انتقل، بدعم سعودي وعربي ودولي، إلى بناء بلد كان مهووساً به اسمه لبنان.
كان رفيق الحريري، مهووساً بسوريا أيضاً. لم يسع إلى إنقاذ لبنان فحسب، بل سعى أيضاً إلى إنقاذ سوريا. سألني بعد عودتي من دمشق إلى بيروت ومقابلتي بشّار الأسد، عن رأيي في الرجل، فاجبته إنّّه «يكرهك إلى أبعد حدود». أخرجني من الغرفة التي كنا فيها إلى حديقة المنزل في قريطم، ليسألني مجدداً: «إلى أي حد يكرهني بشّار؟». أجبته مستخدماً عبارة بالفرنسية معناها «كرهه لك في العظم». لم اتجرأ وقتذاك، في العام 2000، على القول إنّّه يمكن أن يصل الأمر ببشار إلى حد التحريض على اغتيالك.
ليس ما يعوض خسارة لبنان لرفيق الحريري. لكنّ الأكيد أن مشروعه لايزال حيّاً يرزق. انتقم التاريخ له. انتقم له في لبنان وسوريا التي كان رفيق الحريري، أيضاً حريصاً عليها حرصه على لبنان!

مقالات مشابهة

  • عن بيان الهلال الحربي: استخدم نفس الأسلوب الذي تستخدمه الأندية الكبرى
  • ترامب:الذي ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون
  • التحدي الوجودي الذي يواجه العرب!
  • صريح جدا: هذا هو الشخص الذي يثق فيه الجزائري و يبوح له بسره
  • أردوغان: نتوقع أن يفي ترامب بالوعد الذي قطعه قبل الانتخابات
  • المملكة تدين حادث الدهس الذي وقع في مدينة ميونخ الألمانية
  • في الذكرى الـ20 لرحيله.. "ثابت" البطل الذي لا ينسى
  • كيف رد ترودو على ترامب الذي يرى في ضم كندا فرصة؟
  • خبراء أردنيون: القمة العربية التي دعت لها مصر رسالة للعالم بوحدة الصف العربي ضد التهجير
  • مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!