لجريدة عمان:
2025-11-05@23:38:57 GMT

مساحة إنسانية

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

مساحة إنسانية

يبدو كتابا وكأنه يأتي من زمن آخر؛ زمن جميل بالضرورة، لم يعد يعرفه العصر الحديث. ليس فقط بسبب محتواه – الذي يتضمن رسائل وقصائد بين شاعرين كبيرين من شعراء الحداثة العربية؛ هما العراقي سركون بولص واللبناني وديع سعادة – وإنما أيضا بسبب مضمون هذه الرسائل التي تُدخلنا إلى اهتمامات وانشغالات وطريقة تفكير هذين الإنسانين في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته.

لذا يبدو الكتاب أكثر من وثيقة أدبية، بل هو في العمق، وثيقة إنسانية (وهنا أهميته الفعلية والحقيقية)، بين شخصين التقيا صُدفة ذات يوم، لتمتدّ صداقتهما لعقود طويلة (وإن لم يلتقيا دائما بشكل مستمر)، وهي صداقة لم تنتهِ بعد، على الرغم من رحيل أحدهما (سركون)، فيما لو جاز القول، إذ تبقى الذكرى والذاكرة اللتان تعيدان إحياء تلك اللحظات التي ما فتئت حاضرة في حياة وديع سعادة.

حدثت البداية في بيروت، في ستينييات القرن الماضي. يومها غادر سركون بولص العراق، وهو الذي بدأ اسمه ينتشر مع جماعة كركوك الشعرية (وإن بقي في العمق مفترقا عنها)، ليأتي إلى بيروت – التي كانت تشكل مختبرا كتابيا حقيقيا، وحاضنة فعلية للشعراء العرب الذين عاشوا فيها وجعلوا منها «خرافة» حقيقية لا تزال تعيش على «مجدها الغابر» إلى اليوم – ليغادرها فيما بعد كي يترحّل لفترة في بقاع الأرض، قبل أن يستقر به الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم في ألمانيا في سنواته الأخيرة. ومن جهة أخرى، كان هناك وديع سعادة، الذي بدأ يحظى بانتشار مّا وحضور حقيقي، بعد أن نشر كتابه الأول «ليس للمساء إخوة»، الذي كتب نُسَخه بخط اليد، ليوزعه على المهتمين، وهو لم ينشره مطبوعا إلا في بداية الثمانينيات، ليقرر بدوره أيضا مغادرة بيروت، بداية عن طريق «الأوتوستوب» إلى العاصمة الفرنسية ومن ثم أستراليا، بعد أن عاد إلى بيروت لفترة، إذ لم يبق فيها كثيرا، لينتقل إلى قبرص ومن ثم العودة إلى أستراليا مجددا حيث يقيم من سنين طويلة.

ومع هذه الترحّلات العديدة، لسنا أمام كتاب يؤرخ لهجرات ما، بل هو كتاب يؤرخ فعلا لكتابة هذين الشاعرين، حيث نقرأ أحلام الكتابة والتفكير في مشاريعها، والسؤال عن الأصدقاء وتقصي أخبارهم... أي بمعنى آخر هو بحث عن هذه اللُحمة التي تربطهما مع العالم المحيط بهما، مع عالمهما الخاص بالدرجة الأولى، مع تفاصيلهما المشتركة، مع طموحات شاعرين شابين ينظران إلى الكون، بكلّ الأحلام التي كانا يمتلكانها.

هما، بداية، رسالتان طويلتان من سركون بولص إلى وديع سعادة، بقيتا بين متاع وديع، ولم يفقدهما من جراء ترحلاته الكثيرة؛ ومع ذلك، هما رسالتان، كافيتان بالمعنى الذي تُقدَّمان فيه، صورة حقيقية عن حياة الشاعر العراقي في تلك الفترة: مشاريع الكتابة، عمله على كتب متعددة (لا نعرف لغاية اليوم ما مصيرها، وما إذا كان قد انتهى من كتابتها، وحتى إذا كانت هناك مخطوطات لا تزال تقبع في مكان ما أو عند أحد ما)، كما علاقاته مع عدد من الشعراء: جان دمو، أدونيس، رياض فاخوري، جاد الحاج، الأب يوسف سعيد، يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، وسؤال سركون الدائم عن امرأة لبنانية تدعى نهى (وهي وفق وديع كانت حبيبته اللبنانية). أما أين أجوبة وديع على هذه الرسائل؟ وديع نفسه لم يحتفظ بأي نسخة عنها، ويرجح أنها موجودة مع ما تبقى من أوراق سركون عند ورثته، وفي سؤالي له، هاتفيا، قبل يومين، عمّا أجاب سركون يومها، يقول إنه لا يذكر بتاتا، بل على العكس يتمنى لو يستطيع أن يجد نسخة عند أي شخص ليتذكر ما الذي قاله. ويضيف وديع أنه حتى لا يذكر عدد الرسائل المتبادلة بينهما، كلّ ما تبقى له هاتان الرسالتان، هما بقية الذكرى المادية، أما الذكرى الأخرى، الروحية، فهي لا تزال تعيش في داخله.

عدا الرسالتين، ثمة قصائد إضافية، في الكتاب، لكل من سركون ووديع؛ قصائد سركون هي تلك التي كتبها في منزل وديع القروي (قرية شبطين، في لبنان الشمالي) كما تلك التي يذكره فيها، أما قصائد وديع، فهي التي يتذكر فيها صديقه سركون، الذي التقاه للمرة الأخيرة، قبل شهر من رحيله، في مدينة لوديف الفرنسية، خلال مهرجانها الشعري (مهرجان «أصوات من المتوسط») وإحدى الصور العائدة لهذا اللقاء، هي التي تزين الغلاف، كما يضيف الناشر كلمة وديع التي كتبها في رثاء صديقه بعد رحيله.

في مقدمته للكتاب، يشير الكاتب والناشر سليمان بختي (وهو الذي تكبد عناء إعداد وجمع هذا الكتاب الصادر عن «دار نلسن» في بيروت)، إلى فكرة، أجدها أساسية في رسائل سركون بولص الذي يطلب من وديع أن يبقى حرّا وأن: «دماغك لم يغسل بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك «ويقصد بيروت» الآن». ويعلق بختي بالقول: «هذا العصب من التمرد على الذات والحياة تكشفه الرسائل، التمرد الثوري الصادق لأجل هوية وثقافة أصيلة». فعلا لو نظرنا اليوم، إلى حياة الشاعرين، بعد هذه المسيرة، وبعد هذه الحياة، وبعد كل الكتابات، لوجدنا أنهما الأكثر حرية بين أقرانهما، لأنهما في الواقع لم يخلصا إلا للشعر. كان الشعر بالنسبة إليهما قضية وجودية بالدرجة الأولى، لم يساوما عليه، ولم يحاولا السير مع الركب الذي كان سائدا. بل أن كلّ واحد منهما، خط طريق قصيدته، بخاصية لا نجد مثلها عند كثيرين. وكان الثمن كبيرا: لن أقول التشرد، بل هذه الهجرة من المكان، صوب بلدان أخرى، للبحث عن فضاءات أكثر استقلالية، بعيدا عن أي ارتباط سياسي أو مؤسساتي أو ما شابه. وكأنهما بذلك يستعيدان «وصية» بودلير (الشاعر الفرنسي) الذي طالب الشعراء في قصيدته الشهيرة «دعوة إلى السفر»، أن يبحثوا عن آفاق لا تحدها الكلمة، بل أن تصبح الكلمة هي الأفق الذي تتحرك فيه البشرية.

قد تكون فترة القراءة التي يستغرقها الكتاب، فترة قصيرة نسبيا، لكنني متأكد أن القارئ سيبقى لفترة طويلة وهو يفكر في هذه الصداقة، بهذا المعنى الذي تتحول إليه الكلمة: فهي ليست خطا عابرا على ورقة، بل تصبح هذه المساحة الإنسانية التي علينا أن نعيشها فعلا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

البترول: تنفيذ مسح سيزمي متطور على مساحة 95 ألف كيلومتر في شرق المتوسط

شهد المهندس كريم بدوي وزير البترول والثروة المعدنية، توقيع اتفاقيتين للتعاون في تطبيق أحدث تقنيات المسح الاستكشافي المتقدم لموارد الغاز بشرق المتوسط، إلى جانب تطوير المنصة الرقمية للاستثمار في البحث والاستكشاف والإنتاج، بما يسهم في تسويق الفرص الاستثمارية وجذب المزيد من الاستثمارات.

كما شهد الوزير خلال مشاركته في مؤتمر ومعرض أديبك 2025 في أبوظبي توقيع اتفاقية تنفيذ مشروع للمسح السيزمي المتطور بتقنية (OBN) في منطقة شرق البحر المتوسط، على مساحة 95 ألف كيلومتر مربع، باستخدام أحدث التكنولوجيات للمسح والاستكشاف، وذلك بين الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية إيجاس وتحالف شركتي SLB (شلمبرجير) وفيريدين، والذي تم ترسية المشروع عليه بعد فوزه في المناقصة التي طرحتها شركة إيجاس.

وقع الاتفاقية المهندس محمود عبد الحميد، رئيس الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، مع المهندس شريف بيومي، رئيس شركة شلمبرجير مصر، إلى جانب نائب شركة فيريدين لمشروعات المسح السيزمي، إيرلينج فرانتزين.

وأكد الوزير أن المشروع يستهدف تعظيم الاستفادة من إمكانات وموارد الغاز بشرق المتوسط، وزيادة فرص الاستثمار في أنشطة البحث والاستكشاف عن الغاز في مصر.

يشار إلى أن البيانات الدقيقة التي سيوفرها المشروع، باستخدام أحدث التكنولوجيات، ستسهم في تقليل المخاطر، بما يتيح طرح فرص استثمارية جاذبة للشركات العالمية للتوسع في أنشطتها في مصر، وتكثيف أعمال حفر الآبار، وهو ما يدعم زيادة الإنتاج المحلي، وسيجرى تنفيذ المشروع على ثلاث مراحل، وتنطلق المرحلة الأولى عام 2026 بمساحة 18 ألف كيلومتر مربع.

كما شهد وزير البترول توقيع تمديد عقد بوابة مصر الإلكترونية للاستكشاف والإنتاج لمدة ثلاث سنوات، بين المهندس صلاح عبد الكريم، الرئيس التنفيذي للهيئة المصرية العامة للبترول، والمهندس شريف بيومي، رئيس شلمبرجير مصر، باستثمارات جديدة للتطوير بنحو 44 مليون دولار.

ومنذ إطلاقها عام 2021، أسهمت البوابة في جذب استثمارات جديدة إلى مصر في أعمال استكشاف وإنتاج البترول والغاز، بلغ حدها الأدنى 1.2 مليار دولار للعمل في 52 منطقة، وحفر ما يقرب من 130 بئراً، كما تضم البوابة قرابة 50 شركة عالمية ومحلية تشارك وتستفيد من خدمات دعم وتسهيل الاستثمار التي تقدمها البوابة.

وأكد الوزير أن بوابة مصر للاستكشاف والإنتاج أصبحت منصة رقمية متطورة لتيسير إجراءات الاستثمار، حيث تتيح أحدث البيانات الجيولوجية، وغرف الاطلاع الافتراضية، والدراسات المتخصصة التي توفر للمستثمرين وصولاً سريعاً وواضحاً للمعلومات، بما يسهم في سرعة اتخاذ القرار الاستثماري، وخفض المخاطر، وتعظيم جدوى مشروعات البحث والاستكشاف للبترول والغاز، وفتح آفاق أوسع لضخ استثمارات جديدة.

حضر التوقيع بالجناح المصري الدكتور سمير رسلان، وكيل الوزارة للاتفاقيات والاستكشاف، والدكتور محمد رضوان، نائب رئيس شركة جنوب الوادي المصرية القابضة للبترول للاتفاقيات والاستكشاف ومدير بوابة مصر للاستكشاف والإنتاج، وعدد من قيادات قطاع البترول وشركتي شلمبرجير وفيريدين.

اقرأ أيضاًالبترول: «إكسون موبيل» تنقب عن الغاز في منطقة جديدة غرب حقل ظهر

البترول: «إكسون موبيل» العالمية تستعد للتوسع في أعمال التنقيب غرب حقل ظهر

وزير البترول يبحث مع الأمين العام لـ «أوبك» تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين مصر والمنظمة

مقالات مشابهة

  • موسم من القصص في مساحة المشروع بـ «نيويورك أبوظبي»
  • غداً الخميس.. الديار القطرية توقع شراكة استثمارية مع الحكومة المصرية
  • عن التهديدات الاسرائيلية الاخيرة بضرب بيروت.. هذا ما قاله مكّي
  • وفد من التيار زار مطران بيروت للسريان الأرثوذكس
  • البترول: تنفيذ مسح سيزمي متطور على مساحة 95 ألف كيلومتر في شرق المتوسط
  • منظمات إغاثة إنسانية : المساعدات التي تصل غزة ضئيلة للغاية
  • محافظ المنيا يتفقد التجهيزات النهائية بمجمع مواقف سمالوط الجديد
  • إزالة 16 حالة تعد بالبناء على مساحة 12 قيراطاً بالشرقية .. صور
  • ننشر معاينة انهيار جزئى داخل منزل فى الخليفة
  • وفد ليبي في بيروت.. هذا ما سيسلمه للبنان