لجريدة عمان:
2024-12-29@17:28:49 GMT

مساحة إنسانية

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

مساحة إنسانية

يبدو كتابا وكأنه يأتي من زمن آخر؛ زمن جميل بالضرورة، لم يعد يعرفه العصر الحديث. ليس فقط بسبب محتواه – الذي يتضمن رسائل وقصائد بين شاعرين كبيرين من شعراء الحداثة العربية؛ هما العراقي سركون بولص واللبناني وديع سعادة – وإنما أيضا بسبب مضمون هذه الرسائل التي تُدخلنا إلى اهتمامات وانشغالات وطريقة تفكير هذين الإنسانين في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته.

لذا يبدو الكتاب أكثر من وثيقة أدبية، بل هو في العمق، وثيقة إنسانية (وهنا أهميته الفعلية والحقيقية)، بين شخصين التقيا صُدفة ذات يوم، لتمتدّ صداقتهما لعقود طويلة (وإن لم يلتقيا دائما بشكل مستمر)، وهي صداقة لم تنتهِ بعد، على الرغم من رحيل أحدهما (سركون)، فيما لو جاز القول، إذ تبقى الذكرى والذاكرة اللتان تعيدان إحياء تلك اللحظات التي ما فتئت حاضرة في حياة وديع سعادة.

حدثت البداية في بيروت، في ستينييات القرن الماضي. يومها غادر سركون بولص العراق، وهو الذي بدأ اسمه ينتشر مع جماعة كركوك الشعرية (وإن بقي في العمق مفترقا عنها)، ليأتي إلى بيروت – التي كانت تشكل مختبرا كتابيا حقيقيا، وحاضنة فعلية للشعراء العرب الذين عاشوا فيها وجعلوا منها «خرافة» حقيقية لا تزال تعيش على «مجدها الغابر» إلى اليوم – ليغادرها فيما بعد كي يترحّل لفترة في بقاع الأرض، قبل أن يستقر به الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم في ألمانيا في سنواته الأخيرة. ومن جهة أخرى، كان هناك وديع سعادة، الذي بدأ يحظى بانتشار مّا وحضور حقيقي، بعد أن نشر كتابه الأول «ليس للمساء إخوة»، الذي كتب نُسَخه بخط اليد، ليوزعه على المهتمين، وهو لم ينشره مطبوعا إلا في بداية الثمانينيات، ليقرر بدوره أيضا مغادرة بيروت، بداية عن طريق «الأوتوستوب» إلى العاصمة الفرنسية ومن ثم أستراليا، بعد أن عاد إلى بيروت لفترة، إذ لم يبق فيها كثيرا، لينتقل إلى قبرص ومن ثم العودة إلى أستراليا مجددا حيث يقيم من سنين طويلة.

ومع هذه الترحّلات العديدة، لسنا أمام كتاب يؤرخ لهجرات ما، بل هو كتاب يؤرخ فعلا لكتابة هذين الشاعرين، حيث نقرأ أحلام الكتابة والتفكير في مشاريعها، والسؤال عن الأصدقاء وتقصي أخبارهم... أي بمعنى آخر هو بحث عن هذه اللُحمة التي تربطهما مع العالم المحيط بهما، مع عالمهما الخاص بالدرجة الأولى، مع تفاصيلهما المشتركة، مع طموحات شاعرين شابين ينظران إلى الكون، بكلّ الأحلام التي كانا يمتلكانها.

هما، بداية، رسالتان طويلتان من سركون بولص إلى وديع سعادة، بقيتا بين متاع وديع، ولم يفقدهما من جراء ترحلاته الكثيرة؛ ومع ذلك، هما رسالتان، كافيتان بالمعنى الذي تُقدَّمان فيه، صورة حقيقية عن حياة الشاعر العراقي في تلك الفترة: مشاريع الكتابة، عمله على كتب متعددة (لا نعرف لغاية اليوم ما مصيرها، وما إذا كان قد انتهى من كتابتها، وحتى إذا كانت هناك مخطوطات لا تزال تقبع في مكان ما أو عند أحد ما)، كما علاقاته مع عدد من الشعراء: جان دمو، أدونيس، رياض فاخوري، جاد الحاج، الأب يوسف سعيد، يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، وسؤال سركون الدائم عن امرأة لبنانية تدعى نهى (وهي وفق وديع كانت حبيبته اللبنانية). أما أين أجوبة وديع على هذه الرسائل؟ وديع نفسه لم يحتفظ بأي نسخة عنها، ويرجح أنها موجودة مع ما تبقى من أوراق سركون عند ورثته، وفي سؤالي له، هاتفيا، قبل يومين، عمّا أجاب سركون يومها، يقول إنه لا يذكر بتاتا، بل على العكس يتمنى لو يستطيع أن يجد نسخة عند أي شخص ليتذكر ما الذي قاله. ويضيف وديع أنه حتى لا يذكر عدد الرسائل المتبادلة بينهما، كلّ ما تبقى له هاتان الرسالتان، هما بقية الذكرى المادية، أما الذكرى الأخرى، الروحية، فهي لا تزال تعيش في داخله.

عدا الرسالتين، ثمة قصائد إضافية، في الكتاب، لكل من سركون ووديع؛ قصائد سركون هي تلك التي كتبها في منزل وديع القروي (قرية شبطين، في لبنان الشمالي) كما تلك التي يذكره فيها، أما قصائد وديع، فهي التي يتذكر فيها صديقه سركون، الذي التقاه للمرة الأخيرة، قبل شهر من رحيله، في مدينة لوديف الفرنسية، خلال مهرجانها الشعري (مهرجان «أصوات من المتوسط») وإحدى الصور العائدة لهذا اللقاء، هي التي تزين الغلاف، كما يضيف الناشر كلمة وديع التي كتبها في رثاء صديقه بعد رحيله.

في مقدمته للكتاب، يشير الكاتب والناشر سليمان بختي (وهو الذي تكبد عناء إعداد وجمع هذا الكتاب الصادر عن «دار نلسن» في بيروت)، إلى فكرة، أجدها أساسية في رسائل سركون بولص الذي يطلب من وديع أن يبقى حرّا وأن: «دماغك لم يغسل بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك «ويقصد بيروت» الآن». ويعلق بختي بالقول: «هذا العصب من التمرد على الذات والحياة تكشفه الرسائل، التمرد الثوري الصادق لأجل هوية وثقافة أصيلة». فعلا لو نظرنا اليوم، إلى حياة الشاعرين، بعد هذه المسيرة، وبعد هذه الحياة، وبعد كل الكتابات، لوجدنا أنهما الأكثر حرية بين أقرانهما، لأنهما في الواقع لم يخلصا إلا للشعر. كان الشعر بالنسبة إليهما قضية وجودية بالدرجة الأولى، لم يساوما عليه، ولم يحاولا السير مع الركب الذي كان سائدا. بل أن كلّ واحد منهما، خط طريق قصيدته، بخاصية لا نجد مثلها عند كثيرين. وكان الثمن كبيرا: لن أقول التشرد، بل هذه الهجرة من المكان، صوب بلدان أخرى، للبحث عن فضاءات أكثر استقلالية، بعيدا عن أي ارتباط سياسي أو مؤسساتي أو ما شابه. وكأنهما بذلك يستعيدان «وصية» بودلير (الشاعر الفرنسي) الذي طالب الشعراء في قصيدته الشهيرة «دعوة إلى السفر»، أن يبحثوا عن آفاق لا تحدها الكلمة، بل أن تصبح الكلمة هي الأفق الذي تتحرك فيه البشرية.

قد تكون فترة القراءة التي يستغرقها الكتاب، فترة قصيرة نسبيا، لكنني متأكد أن القارئ سيبقى لفترة طويلة وهو يفكر في هذه الصداقة، بهذا المعنى الذي تتحول إليه الكلمة: فهي ليست خطا عابرا على ورقة، بل تصبح هذه المساحة الإنسانية التي علينا أن نعيشها فعلا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

وصول قافلة مساعدات إنسانية إلى الخرطوم لاول مرة منذ اندلاع الحرب

المحتويات

الخرطوم – تاق برس – وصلت أول قافلة مساعدات إنسانية إلى مدينة الخرطوم يوم الخميس، وذلك بعد فترة طويلة من اندلاع الحرب في المنطقة منذ 15 أبريل 2023.

وقالت قوات الدعم السريع، إنه للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل، استقبلت مدينة الخرطوم 26 شاحنة محملة بالمواد الغذائية ضمن قافلة معونات إنسانية تابعة لبرنامج الغذاء العالمي.

 

وأشارت إلى أن القافلة وصلت عبر تسهيل من الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية بالتنسيق مع قوة حماية المدنيين والإدارة المدنية بولاية الخرطوم.

وأعلنت غرفة طوارئ ولاية الخرطوم، في بيان رسمي، عن وصول 28 شاحنة محملة بالمساعدات، من أصل 34 شاحنة كانت في طريقها، حيث تأخر بعضها لأسباب لوجستية. هذا الحدث يمثل بارقة أمل للعديد من الأسر التي تعاني من نقص حاد في المواد الغذائية والدوائية.

 

وتضمنت القافلة 22 شاحنة تابعة لبرنامج الغذاء العالمي، محملة بما يقارب 750 طناً من المواد الغذائية الأساسية، بينما تضم 5 شاحنات تابعة لليونيسيف محملة بالأدوية الضرورية. بالإضافة إلى ذلك، هناك شاحنة واحدة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود ومنظمة كير.

 

 

وأعرب المواطنون في منطقة بشائر بمحلية جبل أولياء عن فرحتهم الكبيرة بوصول هذه المساعدات.

 

واعتبروا ذلك تحقيقاً لحلم طال انتظاره. وفي هذا السياق، صرح محمد عبدالله كندشة، المتحدث باسم غرفة طوارئ جنوب الحزام، بأن 26 شاحنة قد وصلت إلى المنطقة بفضل التنسيق الفعال بين غرفة الطوارئ وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة نداء. إن هذه المساعدات تمثل خطوة مهمة نحو تخفيف المعاناة الإنسانية في الخرطوم.

 

وأشاد مسؤولون بدور قوات الدعم السريع والقوات المسلحة في تأمين الحماية للقافلة الإنسانية خلال رحلتها، حيث تم تأمينها في المناطق التي تسيطر عليها كل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، حتى وصولها إلى وجهتها النهائية.

وأوضح المسؤولون أن القافلة الإنسانية قد عبرت مناطق تحت سيطرة القوات المسلحة، حيث من المقرر توزيع المساعدات في أحياء مايو والإنقاذ. تأتي هذه الخطوة في إطار الجهود المستمرة لتلبية احتياجات السكان المتضررين، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يواجهها العديد من المواطنين في تلك المناطق.

من جانبها، أكدت قوات الدعم السريع في بيان ، أن الإعانات الإنسانية قد وصلت بفضل التنسيق مع الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية، بالتعاون مع قوة حماية المدنيين التابعة لها والإدارة المدنية في ولاية الخرطوم.

 

وتوقعت القوات أن تستمر عمليات تدفق المساعدات الإنسانية، مع وجود توقعات بوصول 54 شاحنة إضافية خلال الأيام القليلة المقبلة، مما يعكس الجهود المبذولة لتلبية احتياجات المواطنين.

في السياق، أعلنت غرفة طوارئ جنوب الحزام عن ظهور أزمة سوء التغذية بشكل ملحوظ في المنطقة، حيث أفادت التقارير أن واحداً من كل أربعة أطفال يتوجهون إلى المرافق الصحية يعاني من سوء التغذية الحاد. هذه الإحصائيات تبرز مدى خطورة الوضع الصحي في المنطقة، مما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لهذه الأزمة التي تهدد صحة الأطفال.

 

في سياق متصل، لا يزال الأطباء في مستشفى بشائر التعليمي مستمرين في إضرابهم عن معالجة الحالات الباردة للأسبوع الثاني على التوالي، وذلك احتجاجاً على حادثة إطلاق نار تعرض لها أحد أفراد الطاقم الطبي من قبل أحد عناصر الدعم السريع داخل المستشفى. هذا الإضراب يعكس القلق المتزايد بين الأطباء بشأن سلامتهم وسلامة المرضى في ظل الظروف الحالية.

 

وأكدت مصادر طبية أن الإضراب لا يشمل العمليات الجراحية الطارئة والعمليات القيصرية، مما يعني أن الخدمات الحيوية لا تزال مستمرة رغم التوترات. ومع ذلك، فإن استمرار الإضراب يثير مخاوف بشأن قدرة المستشفى على تقديم الرعاية الصحية اللازمة للمرضى في ظل هذه الظروف الصعبة، مما يستدعي تدخل الجهات المعنية لحل الأزمة وضمان سلامة الجميع.

الحربالخرطومقافلة مساعدات

مقالات مشابهة

  • الجزائر ضمن قائمة أكبر 10 دول مساحة في العالم (إنفوغراف)
  • مُحافظ جدة يُدشّن حدائق السجى على مساحة تتجاوز 60 ألف متر مربع
  • 36 فرص عقارية بمزاد جواهر قرطبة
  • الحرب الأهلية المنسية في ميانمار: مأساة إنسانية وصراع بلا نهاية
  • عاجل - ماكرون يؤكد على ضرورة إيصال مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزة
  • وضع كارثي وخسائر ل تطاق..ماكرون: لا بد من مساعدات إنسانية ضخمة لغزة
  • قوانين جديدة لمراكز التسوق في تركيا
  • مدير الأزمات الدولية: غزة بحاجة لمسارات إنسانية عاجلة
  • وصول قافلة مساعدات إنسانية إلى الخرطوم لاول مرة منذ اندلاع الحرب
  • الحرب الأهلية في السودان تخلّف أزمة إنسانية غبر مسبوقة: 150 ألف قتيل و12 مليون نازح