يبدو كتابا وكأنه يأتي من زمن آخر؛ زمن جميل بالضرورة، لم يعد يعرفه العصر الحديث. ليس فقط بسبب محتواه – الذي يتضمن رسائل وقصائد بين شاعرين كبيرين من شعراء الحداثة العربية؛ هما العراقي سركون بولص واللبناني وديع سعادة – وإنما أيضا بسبب مضمون هذه الرسائل التي تُدخلنا إلى اهتمامات وانشغالات وطريقة تفكير هذين الإنسانين في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته.
حدثت البداية في بيروت، في ستينييات القرن الماضي. يومها غادر سركون بولص العراق، وهو الذي بدأ اسمه ينتشر مع جماعة كركوك الشعرية (وإن بقي في العمق مفترقا عنها)، ليأتي إلى بيروت – التي كانت تشكل مختبرا كتابيا حقيقيا، وحاضنة فعلية للشعراء العرب الذين عاشوا فيها وجعلوا منها «خرافة» حقيقية لا تزال تعيش على «مجدها الغابر» إلى اليوم – ليغادرها فيما بعد كي يترحّل لفترة في بقاع الأرض، قبل أن يستقر به الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم في ألمانيا في سنواته الأخيرة. ومن جهة أخرى، كان هناك وديع سعادة، الذي بدأ يحظى بانتشار مّا وحضور حقيقي، بعد أن نشر كتابه الأول «ليس للمساء إخوة»، الذي كتب نُسَخه بخط اليد، ليوزعه على المهتمين، وهو لم ينشره مطبوعا إلا في بداية الثمانينيات، ليقرر بدوره أيضا مغادرة بيروت، بداية عن طريق «الأوتوستوب» إلى العاصمة الفرنسية ومن ثم أستراليا، بعد أن عاد إلى بيروت لفترة، إذ لم يبق فيها كثيرا، لينتقل إلى قبرص ومن ثم العودة إلى أستراليا مجددا حيث يقيم من سنين طويلة.
ومع هذه الترحّلات العديدة، لسنا أمام كتاب يؤرخ لهجرات ما، بل هو كتاب يؤرخ فعلا لكتابة هذين الشاعرين، حيث نقرأ أحلام الكتابة والتفكير في مشاريعها، والسؤال عن الأصدقاء وتقصي أخبارهم... أي بمعنى آخر هو بحث عن هذه اللُحمة التي تربطهما مع العالم المحيط بهما، مع عالمهما الخاص بالدرجة الأولى، مع تفاصيلهما المشتركة، مع طموحات شاعرين شابين ينظران إلى الكون، بكلّ الأحلام التي كانا يمتلكانها.
هما، بداية، رسالتان طويلتان من سركون بولص إلى وديع سعادة، بقيتا بين متاع وديع، ولم يفقدهما من جراء ترحلاته الكثيرة؛ ومع ذلك، هما رسالتان، كافيتان بالمعنى الذي تُقدَّمان فيه، صورة حقيقية عن حياة الشاعر العراقي في تلك الفترة: مشاريع الكتابة، عمله على كتب متعددة (لا نعرف لغاية اليوم ما مصيرها، وما إذا كان قد انتهى من كتابتها، وحتى إذا كانت هناك مخطوطات لا تزال تقبع في مكان ما أو عند أحد ما)، كما علاقاته مع عدد من الشعراء: جان دمو، أدونيس، رياض فاخوري، جاد الحاج، الأب يوسف سعيد، يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، وسؤال سركون الدائم عن امرأة لبنانية تدعى نهى (وهي وفق وديع كانت حبيبته اللبنانية). أما أين أجوبة وديع على هذه الرسائل؟ وديع نفسه لم يحتفظ بأي نسخة عنها، ويرجح أنها موجودة مع ما تبقى من أوراق سركون عند ورثته، وفي سؤالي له، هاتفيا، قبل يومين، عمّا أجاب سركون يومها، يقول إنه لا يذكر بتاتا، بل على العكس يتمنى لو يستطيع أن يجد نسخة عند أي شخص ليتذكر ما الذي قاله. ويضيف وديع أنه حتى لا يذكر عدد الرسائل المتبادلة بينهما، كلّ ما تبقى له هاتان الرسالتان، هما بقية الذكرى المادية، أما الذكرى الأخرى، الروحية، فهي لا تزال تعيش في داخله.
عدا الرسالتين، ثمة قصائد إضافية، في الكتاب، لكل من سركون ووديع؛ قصائد سركون هي تلك التي كتبها في منزل وديع القروي (قرية شبطين، في لبنان الشمالي) كما تلك التي يذكره فيها، أما قصائد وديع، فهي التي يتذكر فيها صديقه سركون، الذي التقاه للمرة الأخيرة، قبل شهر من رحيله، في مدينة لوديف الفرنسية، خلال مهرجانها الشعري (مهرجان «أصوات من المتوسط») وإحدى الصور العائدة لهذا اللقاء، هي التي تزين الغلاف، كما يضيف الناشر كلمة وديع التي كتبها في رثاء صديقه بعد رحيله.
في مقدمته للكتاب، يشير الكاتب والناشر سليمان بختي (وهو الذي تكبد عناء إعداد وجمع هذا الكتاب الصادر عن «دار نلسن» في بيروت)، إلى فكرة، أجدها أساسية في رسائل سركون بولص الذي يطلب من وديع أن يبقى حرّا وأن: «دماغك لم يغسل بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك «ويقصد بيروت» الآن». ويعلق بختي بالقول: «هذا العصب من التمرد على الذات والحياة تكشفه الرسائل، التمرد الثوري الصادق لأجل هوية وثقافة أصيلة». فعلا لو نظرنا اليوم، إلى حياة الشاعرين، بعد هذه المسيرة، وبعد هذه الحياة، وبعد كل الكتابات، لوجدنا أنهما الأكثر حرية بين أقرانهما، لأنهما في الواقع لم يخلصا إلا للشعر. كان الشعر بالنسبة إليهما قضية وجودية بالدرجة الأولى، لم يساوما عليه، ولم يحاولا السير مع الركب الذي كان سائدا. بل أن كلّ واحد منهما، خط طريق قصيدته، بخاصية لا نجد مثلها عند كثيرين. وكان الثمن كبيرا: لن أقول التشرد، بل هذه الهجرة من المكان، صوب بلدان أخرى، للبحث عن فضاءات أكثر استقلالية، بعيدا عن أي ارتباط سياسي أو مؤسساتي أو ما شابه. وكأنهما بذلك يستعيدان «وصية» بودلير (الشاعر الفرنسي) الذي طالب الشعراء في قصيدته الشهيرة «دعوة إلى السفر»، أن يبحثوا عن آفاق لا تحدها الكلمة، بل أن تصبح الكلمة هي الأفق الذي تتحرك فيه البشرية.
قد تكون فترة القراءة التي يستغرقها الكتاب، فترة قصيرة نسبيا، لكنني متأكد أن القارئ سيبقى لفترة طويلة وهو يفكر في هذه الصداقة، بهذا المعنى الذي تتحول إليه الكلمة: فهي ليست خطا عابرا على ورقة، بل تصبح هذه المساحة الإنسانية التي علينا أن نعيشها فعلا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هنا والآن .. في بيروت: القلق!
في بيروت، أصدقُ أنني عائد يتذكر. ولستُ ضيفًا على أحد. غير أن ذاكرة المدينة التي أحملها خَلدي وأحلم بها من الكتب والأفلام لا تعفيني هنا من صفة الغريب، خاصة حين يستفرد بي ليل بيروت البارد في أواخر فبراير، ليلها الذي لا يشبه ليل مسقط قط، إلا بانكشافه على واجهة بحر ناعس. وعلى الغريب في بيروت أن يتدبر أمره، أن يمشي لاعبَ سيركٍ بين الأضداد، فأي انعطافة غير محسوبة يمكن أن تكون تهمةً في هذا التوقيت التاريخي من عمر المدينة.
التوتر سمةٌ يومية تشم في هواء بيروت المزكوم بعوادم المحركات ورائحة السجائر المطفأة تحت أحذية المشاة على الرصيف. يمكنني أن أصرف انتباهي عن المشهد المألوف لمدمني النيكوتين القدامى، لكن عطش التدخين الذي يجتاح الشباب والصبايا في مقتبل العشرينيات مشهد يستدعي الملاحظة. صورة أخرى للقلق، قد تعكس التمرد واليأس ربما، لكنها في الوقت ذاته تشي برغبة جامحة في تهدئة جريان الدورة الدموية وسط ساعة الوقت العالقة في زحام المستديرة المتفرعة إلى جهات أربع مسدودة بالحركة العشوائية للسيارات والدراجات النارية.
أما الشتيمة فهي دارجة ومألوفة، وتثير أقل ما يمكن من حساسية الذوق العام المعتاد على تحطيم كل قواعد اللباقة التقليدية في الكلام. من الشتيمة تُصنع النُكات البذيئة التي يتبادلها الرجال والنساء على مائدة واحدة دون تحفظ، ودون أي اعتبار يُذكر للفارق النسبي في الحياء بين الذكر والأنثى. وبالشتيمة يحسم روَّاد المقهى جدالاتهم السياسية العقيمة ويفضّون السيرة. المهم في الأمر أن الشتيمة لدى اللبنانيين رياضة مفضَّلة لتحرير المكبوت من القلق والضغينة. وهي أسلوب لغوي خلَّاق لترويض غريزة العنف بدلًا من اللجوء إلى الأيدي أو سحب الأسلحة في الحالات القصوى.
«قلق في بيروت» كان عنوانًا للفيلم التسجيلي الذي أنجزه المخرج اللبناني الشاب زكريا جابر خلال حصار كورونا. أستحضر أجواءه هنا من أحاديث صدفةٍ متفرقة مع الشباب البيروتيين. تسرد كاميرا زكريا جابر، مطعمةً بالسخرية السوداء، هاجس الهجرة اللحوح لدى جيل التسعينيات من اللبنانيين واللبنانيات المحبطين من انسداد الأفق الذي أعقب فشل ثورات الربيع العربي، ولاسيما الثورة السورية في الجوار، إضافةً لما تفاقم من أزمات داخلية أعلنت انهيار الدولة، بدءًا من أزمة النفايات عام 2015، التي أسست لحراك مدني تحت شعار «طلعت ريحتكن»، وفاقمتها أزمة انقطاع الكهرباء، وصولاً إلى احتجاجات تشرين عام 2019، التي أعلنت في رأيي أهم شعار سياسي طوره اللبنانيون على مدى السنوات الأخيرة: «كلن يعني كلن»! سيعلن هذا الشعار مرحلة اليأس النهائي في صرخة مُطلقة باسم جميع اللبنانيين، حتى الحزبيين منهم، ممن لم ينخرطوا في الحراك بصورة مباشرة. لكنه ليس يأسًا من السياسيين فقط، زعماء الطوائف وتجَّار الحرب السابقين، فالمسألة هذه المرة لا تتعلق بالأسماء والتشكيلات الوزارية المطروحة أو بالفراغ الرئاسي فحسب، بل هو يأس الجيل الجديد من السياسة برمتها كحلٍ مسعفٍ لمجتمع يتحلل في العنف والفساد.
عبارة «بدي فلّ» زفرة شائعة بين شباب التسعينيات في بيروت. يومًا ما، قبل ثلاثين سنة، اُعتبر جيل التسعينيات جيلًا ناجيًا من دوامة العنف التي شهدها لبنان منذ عام 1975 على الأقل، حتى الإعلان الشهير عن اتفاق الطائف في الثلاثين من سبتمبر عام 1989، الاتفاق الذي وضع حدًا لانقسام بيروت على نفسها إلى شرقية وغربية طيلة خسمة عشرَ عامًا، تلك الحقبة التي تُعرف اليوم باسم الحرب الأهلية اللبنانية، رغم أن توصيفها التاريخي على هذا النحو العام يخفي حقيقة أساسية؛ وهي الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 الذي بلغ حد احتلال العاصمة اللبنانية، فكان منعطفًا خطيرًا أعطى للعنف زخمًا جديدًا، كما سعَّر أكثر من حدة الاستقطاب الطائفي.
رغم التفاؤل الكبير بجيل التسعينيات، الناجي من الحرب الأهلية كما يوصف، والذي تفتح وعيه على مرحلة انحسار الوصاية السورية عن لبنان وشروع الدولة في إعادة إعمار الخراب وما تلاها من عودة بيروت إلى مدينة لاقتصاد الخدمات والسياحة والنشاط المصرفي، إلا أن فترة التفاؤل لم تدم طويلا، إذ سرعان ما اكتشف هذا الجيل نفسه وريثًا مشوهًا للماضي، قادمًا من نسيج اجتماعي متمزق، وذلك قبل أن ينخرط في السياسة من بوابة الانقسام السياسي الجديد عقب الاغتيال المدوي للرئيس رفيق الحريري، ما بين تياريّ الثامن من مارس، يقابله تيار الرابع عشر من مارس. وسوريا مجددًا، بين مواليها ومعارضيها، ستكون مرةً أخرى، حتى بعد خروج جيشها من لبنان، هي مفرق الانقسام الجديد بين اللبنانيين، الذي سيكون ضحيته الأولى والمباشرة الكاتب والصحفي اللبناني سمير قصير، أبرز وجوه الرابع عشر من مارس، وأحد عشاق بيروت الأقدمين: «نسألُ القاتل: أما كان في وسعك أن تكتب مقالةً في جريدة تثبت فيها أن سمير قصير على خطأ، ولا يستحق الحياة في لبنان، ولا في بلد آخر؟» هكذا كتب محمود درويش في رثائه.
في رحلتي اللبنانية الصغيرة، كان سمير قصير مرشدي الثقافي وسط شوارع بيروت وأحيائها. كتابه «تاريخ بيروت» كان مرافقي قبل إقلاع الطائرة من مسقط حتى النظرة الأخيرة من نافذة الطائرة، نظرة معلقة على بيروت التي تختفي خلف السحاب وتصبح أبعد فأبعد من صورتها في القصيدة إلى لقاء آخر يا بيروت!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني