وكالة خبر للأنباء:
2024-08-25@01:15:08 GMT

17 يوليو.. يوم العبور إلى المستقبل

تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT

17 يوليو.. يوم العبور إلى المستقبل

وحدها الأيام العظيمة تبقى خالدة في ذاكرة الشعوب ووحدهم صانعوها يبقون يسكنون الحكايات وتسافر أسماؤهم عبر الأجيال والأزمنة ويخلدهم التاريخ وتتحول أسماؤهم وصنائعهم وكاريزمية شخصياتهم ونبوغهم ودهاؤهم السياسي وعبقريتهم في القيادة إلى سقفٍ ومثلٍ أعلى تقاس به عزائم القادة وجديد الإنجازات.

الأيام العظيمة لا تقترن بحدثٍ يتيم لا يفتح آفقاً جديداً يدعو لتكراره في أكثر من مجال، ولا تصنعها ضربة حظ عقيمة لا تلد الأيام سواها.

. الأيام العظيمة للشعوب والأمم هي الأيام التي تولد من رحم المستحيل وتفاجئ الناس بحدثٍ استثنائي يؤسس لسلسلة من الأحداث والإنجازات التي تجعل من اللا ممكن ممكناً وتحول الأحلام والتطلعات إلى حقيقةٍ ملموسة تنتصر لإرادة الشعوب.

وإذا ما قِيست عظمة الأيام بحجم ما تلاها من أحداث وإنجازات فسنجد أن يوم الـ17 من يوليو مثّل يوم عبور اليمن إلى المستقبل وطي صفحات الماضي والانتقال باليمنيين من متاريس الصراع والاقتتال على السلطة إلى ميادين العمل والبناء والتنمية والإنتاج والإسهام الفاعل في العمل السياسي والاقتصادي والثقافي والفني والإعلامي، كتوجه عام فجر الطاقات ومثّل بحد ذاته ثورة ثانية.

لم يكن يوم الـ17 من يوليو يوماً عادياً شهدت لحظاته وصول رئيس جديد يضاف إلى قائمة من سبقوه من الرؤساء، بقدر ما كان يوم ميلاد وطن وكيان سياسي ودولة ومؤسسات وقائد وزعيم تجسدت فيه إرادة اليمنيين الذين استلهم من واقعهم المرير رؤيته في التغيير والانتقال باليمن إلى الغد الأفضل.

الرئيس علي عبدالله صالح ومنذ اليوم الأول أثبت أن الدولة ليست قبيلة مختلفة أو كياناً غريباً يمثل تهديداً أو عدواً ليخشى الشعب سطوته وإنما مؤسسة يمتلكها الشعب ومنه تستمد بقاءها وديمومتها ونجاحاتها، عندما قدم أنموذجاً وصورة لم تشهدها اليمن من قبل تمثلت في احتكامه لإرادة الشعب في الوصول إلى سدة الحكم من خلال مجلس الشعب التأسيسي، لتشهد اليمن بانتخابه رئيساً للجمهورية أول انتخابات رئاسية في تاريخها، الأمر الذي أشار إلى أن الرئيس القادم من قلب المؤسسة العسكرية اختار الديمقراطية نهجاً ووسيلة وأسقط الدبابة من سيناريوهات الوصول إلى السلطة وبذلك صنع أول إنجازين تاريخيين في يوم واحد.

وانطلاقاً من يوم الـ17 من يوليو توالت الأيام والإنجازات التي قهرت المستحيلات وانتقلت باليمن من عصر الدولة المنكمشة على ذاتها في صنعاء إلى عصر الدولة الممتدة على كامل الخارطة اليمنية، ليس بقوة السلاح وإنما بقوة الإنجازات والمشاريع الخدمية التي وصلت إلى كل مدينة وقرية ومثلت الطريق والمدرسة والمستوصف عنوان رسالتها التي قرأها اليمنيون في السهول والوديان وقمم الجبال.

كثيرة هي الإنجازات التي تحققت في عهد الزعيم صالح، وكثيرة هي الأيام التي مثل يوم الـ17 من يوليو ميلادها الأول والتي يبقى يوم الـ22 من مايو وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية تاجها، واكتملت بتحقيقها أهداف الثورة اليمنية الخالدة سبـتمبر وأكتوبر ومثلت انتصاراً لإرادة اليمنيين ونضالاتهم لعقود طويلة.

المصدر: وكالة خبر للأنباء

إقرأ أيضاً:

دولة 1956 العاجزة عن شراء المستقبل

زرياب عوض الكريم

ملخص :

يعد السودان الأنغلو مصري 1898 من الدول القليلة في العالم الثالث والجنوب العالمي التي تشكلت حدودها الوجودية من خلال التدخل الإستعماري الذي لم يخلف دولاً وطنية بل حكومات ليبرالية. ولم تناقش أزمة تأسيسها الإستعماري - القرن التاسع عشر (السياسي) أولاً ، أو أزمة تكوينها ماقبل الإستعماري (الإجتماعي) ثانياً.

الإطاحة بالحكومات الليبرالية التي كانت تدور في فلك المحاور الأوروبية ، أفرزت دولة مابعد الإستعمار أو مابعد الحرب العالمية الثانية التي لم تكن دائما دولة ضباط أحرار (نيوكولونيالية) ، كما هو حال كينيا وماليزيا ونيجيريا والهند التي حافظت فيها النخب الليبرالية المرتبطة بالميتربول الغربي والتي كانت بعيدة عن التأثير الثوري السوفياتي ، على تقاليد للحوار الإجتماعي.

دولة الضباط الأحرار أو دولة مابعد الإستعمار بمختلف أشكالها كانت دولاً عسكرية في الغالب أو دول قومية متشددة militant nationalism ، وعمقت من الإنقسام الإجتماعي وتناقضات التكوين الإستعماري بما أدى إلى إنقسام باكستان وإندونيسيا و كادت أن تؤدي لتقسيم نيجيريا وتركيا.

عرفت دولة مابعد الإستعمار بإسم جمهورية الستينيات ، وقد قامت مجموعة من الثورات المسلحة ضدها في نهاية الثمانينات بداية التسعينات قبل سقوط الاتحاد السوفيتي كحركة تحرر أو كفاح مسلح متأخرة حاولت إستدراك أزمتها وفشلها.

**

بالنسبة إلى بعض دول الساحل والصحراء الإفريقية كالجزائر مثلاً ، كان هذا النقاش جدياً وحاداً بين نخب الأمازيغ المُعرّبين (بقايا الإقطاع الإسلامي) والامازيغ المفرنسين (مخلفات الإقطاع الأوربي) من خلال حرب العشرية السوداء القذرة ، وفي تونس أيضاً 2011.

نيجيريا 1960 كمثال لجنوب الصحراء ، لم يكن ذلك الصراع بتلك الحدة حين اختار المثقفين الشماليين كتابة لغة الهوسا واللغات المحلية المتساكنة في الشمال كلغة وطنية ولغة الإستعمار كلغة رسمية للدولة في حوار سلس لم يخلوا من المتاعب.

نفس الأمر في تشاد 1964 التي اختار الآباء المؤسسين لحركة فرولينا (القوميين الشماليين) رغم خطاب المظلومية الذي قدموه تأريخياً ضد الجنوب والقوميين الجنوبيين ، إلا أنهم إختاروا حيلة الإجماع على الحفاظ على الوضع القائم ورفضوا مسار إعادة أسلمة المجتمع - التعريب. لكن بقيت مسألة القومية الوطنية غير حاسمة من خلال تحايلهم على قاعدة الإقطاع الإسلامي الإجتماعية بتبني الثنائية اللغوية أو الهوية الإنتقالية Transtional Identity ، ولم يقوموا بترسيم اللغات الوطنية الخمسة الرئيسية للأقاليم لضعف إرادة الدولة وهشاشة قواعدها الزبونية.

في القرن الإفريقي منذ السبعينات حسم هذا الصراع مع قوى الإقطاع الإسلامي في الصومال (سياد بري) ومع قوى الإقطاع المسيحي الشرقي (الأرثوذكسي) في إثيوبيا و ارتريا 1991.

(2)

سنرى أن النقاش حول مسألة التكوين ماقبل الإستعماري بقي نقاشاً أيدلوجياً - إنقسامي غير عملي داخل الطبقة المهيمنة الوريثة للإستعمار في الشرق الأوسط. وظفت فيه الأيدلوجيا لخدمة الصراع الإجتماعي لتلك القوى.

عكس ذلك ، دول آسيا وإفريقيا المسلمة وغير المسلمة التي حسمت الجدل حول الهوية الوطنية (الإثنية) واحدة كانت أم تعددية ، وحول اللغات الوطنية التي تمت كتابتها ، وحول اللغة الأجنبية. بشكل عملي وبايدلوجيا عملية. ربما بسبب ضعف المعيقات الوطنية أو الثقافية national disabilities.

(3)

في السودان الأنغلو مصري و موريتانيا، استخدمت المعيقات الوطنية الثلاثة ، القبلية (النظام الطبقي للإقطاع الإسلامي) والنزعة الإسلامية - الهجومية وايدلوجية جمال عبد الناصر (القومية العموم عربية) التي يمكن وصفها بأنها الهوية الإنتقالية بين الإقطاع الإسلامي والهوية الوطنية ، كزواج ثلاثي غريب ووصفة للتخلف ، كأداة فرق تسد تحايلية من القوميين الشماليين والقومية الشمالية لمنع تحديث البنى الإجتماعية المحلية أو الوطنية.

أصرت تلك القوى على إبقاء الدولة في تخلف هيكلي وبنيوي بإستثناء بعض المظاهر الشكلية والرتوش التنموية التي حاولت برجوزة النظام الإقطاعي - الأوروبي الموروث من الإستعمار Bourgeoisiation ، إلى برجوازية إقطاعية حتى إنهارت مؤسسة السودان القديم أو السودان المفيد التي كانت تحميها دولة بريتوريانية (عسكرية) في حرب 15 إبريل 2023 المستمرة حتى تأريخه .

النهاية.

أدب الإعتراف والحوار الذاتي البديل

نهاية الستينات بدأ عدد من القوميين الشماليين كتابة مايمكن وصفه بأنه كراسة (مأزق الأنتلجنتسيا الشمالية) ، في مقابل مأزق الأنتلجنتسيا الجنوبية الذي صاغ اطروحته جوزيف قرنق في نفس الفترة.

في مقابل موضوعي آخر لما كتبه مهاتير محمد (مأزق الإثنية السياسية للملايو) في مرحلة نقد جمهورية الستينيات (التي مثلت مأزق العالم الثالث) بإعتبارها إستقلالا شكليا أو زائفا لم يفضي إلى تصفية الإستعمار ونظامه الإجتماعي بالسبل السلمية وغير السلمية.

كتب جعفر محمد علي بخيت مذكرته الممهورة للدكتوراة في 1968 ، ولم يضف إليها محمد أبوالقاسم حاج حمد في مذكراته التي عنوانها المأزق التاريخي (1996) شيئا غير الإستطراد.

الملاحظة التي يمكن رصدها في السلوك التنظيمي للنخبة الشمالية هو عجزها عن الحوار الفكري مع الآخر ضمن فضاء الوطن الواحد بحدوده القسرية ، وتحويل تلك المهمة إلى أدب إعتراف بدلا عن النقد الذاتي أو الحوار مع الذات ، بديلا عن الحوار مع الآخرين ، المهمة التي ابتكرها منصور خالد بعد جعفر محمد علي بخيت تحت عنوان حوار مع الصفوة اي الأنتلجنتسيا الشمالية - الكمبرادورية.

المنظورات الأيدلوجية لدولة 1956

التصورات التشريحية والببليوغرافية لأدب مابعد الإستعمار السياسي خلال تلك الحقبة العالمثالثية ظلت جدلاً نخبوياً في الغالب ولم يعرف التحول التنظيمي (الثوري) إلا بعد عقد تقريباً في الثمانينات وماتلاه ، إلا أنها جوبهت بردة فعل مزدوجة من المصالح المحلية (الكمبرادورية) والمركز العالمي تمثل في تغذية الأطروحات (الرجعية) المعادية لمابعد الإستعمار.

أ. نظرية الإستعمار الجديد وهي أن تقوم إحدى الإثنيات المحلية غالباً من الأقليات بمهمة الإستعمار الداخلي والهيمنة للمحافظة على التركة وهي نظرية لا يزال جاري تطبيقها في غرب إفريقيا وهي أساساً نظرية إستيعاب غير متكافئ.

ب. نظريات ماقبل الإستعمار المتخلفة precolonialism - (ماقبل ويستفاليا والدولة القومية الجزئية ethnic nationalism) - التي قصد بها قطع الطريق على التغيير مابعد الكولونيالي ، من خلال رد الشعوب والإثنيات المستعمرة إلى مستوى صراع تاريخي آخر إلى قرون غابرة ومنها النظريات الاسطورية (الدول غير الممكنة أو المستحيلة بتعبير وائل حلاق) ، وهي النظرية المصرية (الشرق الأوسط).

أدق وصف لتلك النظرية / الأيدلوجيا هو ما أنتهى إليه الناقد والمفكر اللبناني حازم صاغية بأنها أيديولوجية هروب من الواقع ، أيدلوجيات رومنطقية مجافية للواقع الإجتماعي والحقائق الأنثربولجية (رومنتطقيو المشرق : 2021).

من بين تلك الرومنطقيات النستالوجية الإمبريالية العرقية والدينية (في ترجمة إصطلاحية أخرى المركزيات العرقية والمركزيات الدينية) كرد متخيل على الإمبريالية الغربية ، وهي ايدلوجيات فرق تسد divide and rule ذات الوظيفة الثنائية من خلال ثنائية التفوق والدونية (راجع غرامشي - الهيمنة الثقافية ).

وهما إتجاهين رئيسيين لم يعدما التحرف لإتجاهات أخرى ، الإمبريالية العربية أو المركزية العربية (سياق التطرف العرقي) ، الإمبريالية الإسلامية أو المركزية الإسلامية (سياق التطرف الديني).

لغياب الأسس الأنثربولجية تحول هذين التوجهين الرومنطقيين لحركة عنف هوياتي متعدية (إستيعاب قسري) يستخدم العنف التشريعي والدولتي لفرض (الرؤية) الأحادية.

في هذا الصدد لابد من تعريف وتمييز المسافة الفاصلة بين كل من..

أ. الأقليات العربية (الهوية الخليجية مثالا) كقوميات غير متعدية وغير مسيسة أو لازمة ، في مقابل حركة التعريب Arabification من جهة (هاني ديك : القومية الدمشقية في مواجهة القومية العموم عثمانية - سوريا ، 2015 ) .

ب. بين الصحوة الدينية الإسلامية التي لا تختلف عن الصحوة الدينية المسيحية الإنجيلية (الصحوة الكبرى) Great Awakening في السياق الغربي 1730 ، كحق إنساني في الحفاظ على هويته وخصوصيته ، كما هو في نسقها الإيراني كمثال أنثربولوجي (مذهبي) خالص.

أو سيسيولوجي ملهم (حركات الخدمة الإجتماعية) في نسقها الإجتماعي التركي ، كنسق غير متعدي لحركة طوعية ، وبين حركة الأسلمة (الهجومية) كحركة إستيعاب عشوائي وفوقي مسيسة مهمتها التخلص من التعددية الثقافية Militant . التي يمكن وصفها بأنها حركة تصفية - تصفية الإستعمار.

حركة تصفية - تصفية الإستعمار التي إتخذت من الحتمية الدينية أو الحتمية الثقافية الإسلامية ، عقيدة ستراتيجية لها (Essentialism) كحركة وقائية بديلة لتشكل القوميات الإثنية والهويات الانثربولوجية والإقليمية أخذت منحى قمعيا وعدوانيا في توجهها كما هو الحال في اليمن وشمال إفريقيا موقفها الراديكالي من القوميات الأمازيغية والطارقية والقبطية واليمنية (أقيال) ، من الإعتراف بالتعدد الالسني والثقافي الذي كانوا يسمونه في الماضي بالشعوبية ، اي إحلال الكولونيالية الإسلامية محل الإستعمار الغربي.

دولة 1956 في عاصفة أزمة دولية

بداية التسعينات نهاية الحرب الباردة نشأت آخر الثورات المسلحة (الكفاح المسلح) في الجنوب العالمي ، هدفت إلى إستدراك فشل ماعرف بالعقود الثلاثة الضائعة لمرحلة مابعد الإستعمار three lost decades في تغيير النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كرس أزمة جمهورية الستينيات (مابعد الإستعمار) التي اجمع مثقفي العالم الثالث على إفتقارها للشرعية الإجتماعية والموضوعية وحال دون تفكيك بنى التخلف والمعيقات الوطنية الكامنة فيها ، من خلال تغيير حدودها السياسية أو توازناتها الإجتماعية في حال الوحدة الإختيارية كما هو حال نيجيريا وماليزيا.

منظور أزمة جمهورية الستينيات في العالم الثالث

تشترك دولة مابعد الإستعمار أو جمهوريات الستينات في الجنوب العالمي بإستثناء سياق أمريكا اللاتينية تقريباً ، نفس المرض (الهندي) Indian disease مرض دولة قومية بدون أمة (إثنية) وقومية بدون مجموعات (إثنية) ، أي أنها تفتقر للشرعية الإجتماعية التي لم يكن يحتاجها الإستعمار الغربي الذي اعتمد في السودان الأنغلو مصري وأمريكا اللاتينية نظام الطبقات Classes لمهمته (1820) وليس نظام القوميات. وقد قسم اللاهوت الكولونيالي نظام تسلسل الهرميات الإجتماعية حسب ف. لوغارد مكون الشعب إلى فئتين (1) شعب الأهالي native races و (2) شعب المدنيين civil races الذي يمثله نظام الطبقات الهيتراركي الثلاثي حسب رؤية وتاويل الإثنولوجيا الإستعمارية وتمثيلها للواقع المحلي وضرورات تطويره - تمدينه.

قبل أن يقوم لاحقاً بإستيراد نظام الطوائف المذهبية الإقطاعي المتجذر أنثربولوجيا في الشرق الأوسط (1898) ، الذي قصد منه التخفيف من حدة الصراع الطبقي وطموحات الإثنيات الذي يفرزه وأفرزه النظام الأول بما أدى إلى إنهيار دولة الإستعمار في 1882.

يمكن تلخيص تجربة الفاعل الغربي أو المركز العالمي تجاه السودان الأنغلو مصري بأنها تجربة فشل التجارب ، التي خلقت ليه عُقدة سايكو سياسية من التعامل مع ازماته وعدم الثقة في نتائج التغيير الممكن (عقدة الذنب) التي تشكلت لدى الرأي العام الغربي بعد مقتل شارلس غوردون 1885.

خلاصة تلك التجربة كالتالي ، (1) أن النظام الطبقي الثلاثي (الهرمي) ونهايته الدراماتيكية في ثمانينات القرن التاسع عشر أدى إلى إستبداله بنظام الطوائف الدينية الشرقي حتى نهاية الثلاثينات 1938 وتشكل الأنتلجنتسيا الشمالية كبديل عن طبقة الكمبرادور (مرحلة فراغ إنتقالي).

(2) بداية من الأربعينات تم إعتماد نظام الإستعمار البديل - النيوكولونيالي (نمط المركزية الإثنية) الذي تطلع الفاعل الغربي لتحوله إلى majority nationalism ، لكن القومية الشمالية التي إمتلكت آلية واحدة هي (الهيمنة الثقافية) بإصطلاح غرامشي فشلت في تحقيق الهيمنة الإجتماعية بعد 70 عاما من الحروب التي كانت مهمتها سحق القوميات المماثلة في الجنوب والغرب أو إستيعابها.

(3) يعتقد القوميون الشماليون أن فشل ستراتيجية (الهيمنة) في الحكم كواحدة من ثلاث ستراتيجيات حكم لإدارة المجتمعات المتعددة والمنقسمة ثقافياً ، سيجعلهم ضحية لنظام تكييف يقهرهم كما حصل تماما بعد 1885.

(4) فشلت كل الأساطير المشرعِنة (تعبير فليسيا براتو 1999 Felicia Pratto ) منذ الأربعينات (مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا) في حماية منظومة الهيمنة الإجتماعية كضرورة إستعمارية وسلطوية للإستقرار السياسي ، أو إقناع الإثنيات الأخرى بعدم المنافسة على النظام السياسي.

بما في ذلك الأساطير المشرعنة المسوغة والمفسرة للهيمنة الإجتماعية التي إجترعها السير (ونجت باشا) نفسه ، وهي أربعة أساطير تسويغية..

(ا) أسطورة الشرعية الدينية للهيمنة الإجتماعية - الإقطاع الديني للسادة الثلاثة الذين اصحوا لاحقاً سيدين فقط ، وهي دعاية بريطانية.

(ب) أسطورة الجدارة meritocrcy التي توحي بأن الإندماج الأكاديمي أو المهني (التعليم الغربي) هو سبب الهيمنة الإجتماعية لطبقة الكمبرادور سابقاً القومية الشمالية لاحقاً ، والإيحاء بالتالي انه مفتاح التنافس في النظام الإجتماعي.

(ج) أسطورة سوق الأعمال السياسي الإنقاذي التي اخترعها الجهاز الدعائي للترابي في التسعينيات (الرأسمالية الطفيلة) بأن من يمتلكون الثراء كمسوغ تبريري لصعود غير متكافئ لإثنيات سياسية موالية للسلطة ولعبها دور في الهيمنة الإجتماعية.

(د) أسطورة إنتفاضة الخبز ديسمبر 2019 بأن مايسمي التحول المدني غير المتكافئ هو تبرير ومسوغ لإعادة إنتاج الهيمنة الإجتماعية. وهي دعاية غربية محضة.

إنتهت التقدمة.

دولة 1956 عاجزة عن شراء المستقبل لماذا؟

(i)
مأزق إثنية سياسية في السلطة

تختلف أطروحة مأزق الأنتلجنتسيا الشمالية (بخيت - حاج حمد) عن اطروحة الملايو (مهاتير) و الأنتلجنتسيا الجنوبية (قرنق) ، أن القومية الشمالية وإثنيتها السياسية هي قومية في السلطة. وبسبب علاقتها التأريخية بالإستعمار (دست الحكم) رغم أنها لا تعترف بذلك ، عكس الملايو الذين طرحوا مأزق خروج الصينيين والهنود من السلطة بصفقة سلمية وترتيب دستوري نحو صيغة مواطنة يجنب مصير الجزائر (تهجير المعمرين الأوربيين) ، أو البانتو الذين طرح مانديلا بالنيابة عنهم مأزق خروج الهولنديين (الافريكانز) من الحكم مقابل عقد مواطنة.

وبإستثناء الجنوبيين (القومية الجنوبية) في نيجيريا الذين ينقسمون بدورهم إلى إقليمين متمايزين (اليوربا) و(الإيبو) ، والجنوبيين في تشاد واليمن ، فلا تكاد تجد إثنيات تنازلت بمحض إرادتها من إمتياز السلطة من أجل الوحدة الترابية.

رغم هذه الحقائق المكررة التي لم يدخرها كلا من (بخيت - حاج حمد) الذين لم يخالجهما اي شعور بالإغتراب عن الواقع عكس أغلبية مثقفي وقادة رأي power elites الأنتلجنتسيا الشمالية المستغرقين في جدل الإنكار ، إلا أن الأنتلجنتسيا ظلت دائما قلقة دون أن يمكنها قلقها هذا من إرادتها الذاتية ((الأنتلجنتسيا القلقة - ترجمة لعنوان مذكرات عبدالباسط سبدرات السياسية - خمسون عاماً من التململ و القلق)) ، و مزدوجة الوجدان Ambivalenced بتعبير هومي بابا. بما يمنعها من تقرير مصيرها.

(1) هل هم إثنية سياسية مثلها مثل سائر الإثنيات أم لا؟ أم أنهم طبقة حكم ، (2) تقرير مصير إنتشارها الديمغرافي في سائر الأقاليم هل هم معمرين settlers كما كان دورهم في القرن التاسع عشر أم مهاجرين immigrants ومواطنين غير مالكين ؟ (3) طبيعة علاقتهم في المجال الجغرافي المحيط(اللاند سكيب) بالقومية النوبية (النوبيين) وقومية البدويت (البجا) ؟

يقر أبوالقاسم حاج حمد في مذكراته المطولة ومداخلته المسهبة التي إستغرق منه عرضها ندوة في الإمارات قبل عقدين من الآن ، إحتلت كلمته منها ثلاث ساعات بمايشبه خطب فيدل كاسترو الطويلة المرهقة للمترجمين ، أن الأنتلجنتسيا الشمالية بكافة فصائلها هي نخبة كمبرادورية - معتنقة للايدلوجيا الكمبرادورية ، مشغولة ومنحصرة التفكير في الحفاظ على (الوضع القائم) ، وان تقويضه تهديد لمصالحها الوجودية ، وبالتالي هي لا تملك إرادتها السياسية ، وحذّر من أن الحدة في توجيه النقد السياسي والمعرفي إليهم بما في ذلك خطاب المظلومية والتهميش سيعتبرونه محاكمة إجتماعية ، وسيدفعهم إلى خيارات سلبية منها سياسة عزل الأقاليم وبتر الأطراف .

يخلُص حاج حمد إلى أن الإثنية السياسية للقوميين الشماليين لم تتشكل بعد ، لإمتناع ظرفي وغياب المناخ السياسي لتشكل الإحساس (الشعور الجمعي) بها ، وبالتالي غياب ممثلين إجتماعيين لها في النقاش الوطني ، وربما غياب الحافز والرغبة الذاتية من مجتمعاتها في تشكيل برجوازية وطنية خاصة بهم عوضاً عن النخب المحلية.

إذن يرفض حاج حمد في أدب الإعتراف الذي قدمه ، النظرية اللينينة (فلاديمير لينين) عن الثورات الأوربية البرجوازية وتطور العالم الثالث ، وهي النظرية النموذجية لحركات التحرر وأدب مابعد الإستعمار ، نظرية القوميات الإثنية ، والتنظيم الإجتماعي للإثنيات المتنوعة والمتشاركة (متساكنة) coinhabitant nationalities ، تماما كما رفض الشيوعيون الشماليين مبدأ (حق تقرير المصير) وشطبوه من المدونة الفلسفية لعقيدتهم.

كما انه يرفض تصنيف وتجنيس الأنتلجنتسيا الشمالية ، بأنها (قومية شمالية) مكتملة الوجود أو الكينونة ، متميزة انثربولوجيا عن قومية البدويت ، و متميزة انثربولوجياً عن قومية النوبيين.

ورغم أنه قال في ندوته لإستعراض كتابه في سياق آفاق السلام الممكنة 2003 ، انه لا يرفض رئاسة جون قرنق (القومية الجنوبية) للجمهورية في سياق وثيقة إتفاق سياسي تداولي ، لأنه كتابي (scribal) من أهل الكتاب وان لديه حجته الفقهية والاصولية مطولة في ذلك ، إلا أنه عاد قبل وفاته 2004 ليقول أنه يرفض نموذج وحدة قرنق لأسباب سياسية محضة ، منها أنها تفصل ما صفه الإقليم الأوسط عن التبعية للشمال ، و تضغط الشمال اي تحصره ، وأن وحدة قرنق خير منها الإنفصال.

اي انه في النهاية يرفض تطبيق نظرية وستراتيجية التحرر الوطني لمختلف المجموعات والأقاليم المتخلفة ، وهو بالضبط موقف تحالف قحت (التحول المدني الخالص) 2021 من مبدأ وتطبيق مشروع المسارات الإقليمية الفيدرالية الخمسة القابلة للمضاعفة عدديا لإستيعاب كل المكونات الإجتماعية صاحبة الأراضي Titular Citizenship. رغم أنها فلسفة الراحل جعفر محمد علي بخيت نفسه 1968.

 

(ii)
من الهيمنة الخالصة إلى دولة النهر والبحر

أطروحات عقل الطبقة الكمبرادورية وإثنيتها السياسية التي ترفض التصنيف السيسيولوجي والتجنيس الماركسي اللينيني للتنظيمات الإجتماعية المعاصرة ، لم تكن تنفك من الأزمة الجيناليوجية للإستعمار نفسه في القرن التاسع عشر ، الذي لم يعترف للأهالي وتكويناتهم بأي تجنيس فلسفي في منظومة شبه المستعمرة - لا في القرن التاسع عشر ولا في القرن العشرين رغم أحداث 1924 التي لم تختلف عن تاريخ 1881 إلى 1885 كونها محض تصفيات داخل النظام نفسه للتخلص من المكونين الآخرين على الترتيب.

وحتى هذه اللحظة في القرن الحادي والعشرين ، لا يزال الخطاب الغربي تجاه السودان الأنغلو مصري محافظا على إزداوجيته التبريرية والفلسفية ، بحديثه بلغة الثنائيات التي وصفها فرانز قانون وألبيرت ممي بأنها ثنائيات مانوية (الجغرافيا الثقافية) ، عن قوى سياسية political forces في معية أو مواجهة قوى مدنية civil forces ، وهي لغة الوصاية المزدوجة نفسها لفردريك لوغارد.

بالتالي بقيت أسيرة للعقد النفسية المركبة أو التشوهات النفسية الكبرى للطبقات الإستيطانية ونظامها الهرمي الثلاثي (الهيتراركية الإجتماعية) المتمايزة بدورها عن (الهيراركية الكلاسيكية).

الهيتراركية الثلاثية التي تكونت من الكمبرادور - الجلابة / الخلاسيين - اولاد ريف / الكريول - الملكية ، اعتقد الغربيون ، (الفاعل الإستعماري الذي أقدم على توطينها ثقافياً) أنها الدواء البديل للتعامل مع مجتمعات معقدة عصية على التصنيف الإقليمي والتجنيس السيسيولوجي ، رغم تأسيسهم للانثربولوجيا الإستعمارية (مجلة رسائل ومدونات) إلا أنه اعتمد بدلا عنها الأدب الإستشراقي لفهم شعوب السودان الأنغلو مصري.

من هنا تبلورت القومية الشمالية 1898 كتطبيق لنظرية الجغرافيا الثقافية الكولونيالية الجاهزة (الثنائيات المانوية - فرانز فانون) بإعتبارها تمثيل نموذجي لأحد الفسطاطين (العالمين) المانويين الذين كان يبحث عنهما الإستعمار بمخيلته المعدة سلفاً (قومية عربية في مواجهة عالم همجي آخر - عبدالله علي إبراهيم 2005). والحقيقة الماهوية هي أنها قومية كولونيالية (مدنية) لنمط إنتاج كولونيالي في مواجهة شعوب ومكونات عصر الإستعمار الأوربي الأهلية.

هذا رغم أن القومية الشمالية بشكلها الحديث برزت وتماسك خطابها في سياق صراع صدامي 1886 مع إثنية البقارة أو الشوا ، حتى ولو كانت نشأت كإتحاد تجاري/ مركنتيلي - تكتيكي للظفر بغنيمة الدولة الغازية 1820، على غرار الإتحاد التجاري الذي أنشأ الصومال المعاصرة.

فهي في زبدة التحليل السيسيولوجي ليست أكثر من تحالف مركنتيلي إجتماعي يمكن أن ينقسم أو يتلاشى في غياب غنيمة الدولة ، لكنه لا يعدم الجذور والروابط الأنثربولوجية والمكانية المشتركة.

بالعودة إلى خطاب الجغرافيا الثقافية الإستعماري المعتل ، فقد تأخر إعترافه الفلسفي والتشريعي بكينونة الأهالي indigenous ومنظومتها المعبرة عن الإثنيات المتعددة ووجودهم الإجتماعي ، إلا في ثنيات الصراع العارض داخل الهيتراركية الطبقية (تسلسل الهرميات الإجتماعية الإستعماري) سنة 1924 ، بين الأنتلجنتسيا الشمالية من جهة ضد طبقة - إثنية الكريول (الملكية ) وبدرجة أقل حدة ضد طبقة - إثنية الخلاسيين (اولاد ريف) ، الذين تصدى لهم السيد الإقطاعي رقم واحد (ع. م) بنفسه وقال شتيمته المشهورة في قائد حركتهم (اللواء الأبيض).

تأخر مرسوم / قانون الأهالي في السودان الأنغلو مصري ثلاثين عاما تقريباً عن تأسيسه في نيجيريا على يد فريدريك لوغارد والإدارة الإستعمارية ، وقد برز للنور بضوء من اقطاعيي الكمبرادور للتخلص من نفوذ الكريول في الجيش والمؤسسة الحكومية ، تحت مسمى الإدارة الأهلية.

إلا أن الإثنيات التي لم تكن معرّفة فلسفياً ولا دستورياً (سياسياً) ، لم تستفيد منه بسبب غياب اربع ثورات كان يتطلبها تخلف الأقاليم والمجتمعات المحلية، الجهل (ثورة التعليم) / غياب المواصلات - ثورة الإتصالات / عملية الإستقرار والتوطين الثقافي (ثورة التمدين urbaniztion) / توطين التكوين المهني وتقسيم العمل أو سبل العيش(ثورة التصنيع industriztion).

تحولت منظومة الإدارة الأهلية من سلطة رمزية وكونفدالية إجتماعية كلاسيكية على غرار الملكيات الإسمية - الدستورية في أوربا (التي تسود ولا تحكم) ، إلى سجن إجتماعي يعاني الجمود وعدم القابلية للإصلاح والإنتخاب التطوري.

في الوقت الذي فشلت فيه فكرتها في النمو في الجزء الشرقي من البلاد (الشمال - الشرق- الوسط) الحاضنة الإجتماعية لتمدد الأنتلجنتسيا الشمالية ، باعتبار أن مجتمعاته أكثر إنقسامية (شرائحية) وعرفت نمط الإنتاج الآسيوي لفترة طويلة جدا تحت حكم إثنية العنج الاكسوميين (تقراي Tigray) ، وبالتالي فهي أكثر توجهاً نحو التمدين من المجتمعات الفلاحية والريعية الريفية في الجزء الغربي (بخيت 1968) .

إلا أن ذلك لم يكن السبب لقرار الأنتلجنتسيا الشمالية تصفيتها بعنف ثوري في قرار من مؤتمر خريجيها خلال الأربعينيات جرى تنفيذه سنة 1969 ، إستشعارا منهم بخطورة دورها الذي يمكن أن ينافسهم من خلال ازدواج الشرعية (اهلي - مدني) ، أو ما يمكن وصفه العداء المرضي للاجسام الإجتماعية والمكونات المنافسة antagonism.

ثمة مسألة لا يمكن تجاوزها وهي طبيعة الوعي المضمر للانتلجنتسيا الشمالية بإعتبارها برجوازية دولة تجاه الطبقات الأخرى الشريكة في المنظومة الإستيطانية وهيتراركية القرن التاسع عشر من جهة وتجاه الأهالي والإثنيات الأخرى ، انها ترفض الإعتراف بالإثنيات الأخرى إعتراف ثقافي ودستوري (حسب نظرية بول ريكور) وان علاقتها بالخلاسيين - اولاد ريف أو الكريول هي علاقة إشكالية مضمرة.

كان ذلك سبباً جوهرياً في عدم إعتراف دولة الإستعمار 1898 ودولة مابعد الإستعمار 1956 ، بالإثنيات المتعددة إعترافا دستوريا ، ناهيك أن هذه المسألة تعد من التابوهات (المسكوت عنه) .
وخلال الصراع مع أي إثنية منافسة للنظام السياسي بما فيه الخلاسيين كإثنية غير مسلحة ، يتم تجريدهم من شرعيتهم الإجتماعية وجنسياتهم.

إستدرك محمد إبراهيم نقد في كتابه (1988)عن قضايا الديموقراطية في السودان ، هذه المسألة بإشاراته إلى أن ممسكات الإجماع بين الأنتلجنتسيا الشمالية هي إ حتكار الهوية واحتكار التمثيل في الداخل والخارج ، من خلال ثلاثة توافقات حول (هيمنة القومية العربية على ماسواها من قوميات ، والعربية على ماسواها من لغات ، والإسلام على ماسواها من عقائد).
وهو ما لاحظه عبدالعزيز الحلو (الإثنية السياسية لجبال النوبا) في مانفستو حركته المعدل 2017 أن السودان الانغلو مصري يكاد يكون هو الدولة الوحيدة في منظمة الأمم المتحدة ، التي تمنح الجنسية والمواطنة لرعاياها وبالتالي تصادرها وفق حيثيات (أسرار الدولة) ، حين أن الجنسية والمواطنة شيئ مكتسب لا تمنحه سلطة.

قلنا إن الأنتلجنتسيا الكمبرادورية الشمالية وإثنيتها السياسية منذ القرن التاسع عشر ، تتموضع منذ 1955 كقوى ميراثية (إرثية) ، حملت في سماتها كل بصمات الجينالوجيا شبه الإستعمارية الوراثية ، من بنية شبه الإستعمار إلى برجوازية الدولة إلى الكمبرادورية إلى بنية الدولة الإستخراجية predatory state ، إلى الهيمنة الثقافية ، إلى المركزية الإثنية ، إلى النزعة الرجعية regressive ، إلى الخيال السياسي الرومنطيقي ، إلى الإزدواج الوجداني ، إلى إزدواج الضمير ، إلى الإستشراق الداخلي (عبدالله علي إبراهيم) ، إلى مأزق الأقلية القلقة التي تعتقد دائما انها مهددة ستراتيجيا من محيطها الإثني والجيوسياسي ، إلى المرض الهندي ، إلى أزمة العرق المتطرف ، إلى أزمة النظام اليونتاري ، إلى القومية الهجومية المتشددة والمتعدية التي لا تعترف بالقوميات الأخرى militant إلخ.

رغم كل هذه الأمراض في خصوصية فشلها ، يقر عديد المثقفين الشماليين في أدب الإعتراف الخاص بهم (محمد إبراهيم نقد 1988 ومحمد أبوالقاسم حاج حمد 1996) بعجزها كإثنية سياسية واقلية متوجسة تعاني من مجموعة من العقد النفسية (عقد الإندماج الإستعماري التي لم تتخلص منها منذ مائتي سنة) في تعاملها اليومي مع الشعوب الوطنية الأخرى والإثنيات ومنها (عقدة التفوق) ، عجزها عن التغيير وبحثها بدلا عن ذلك عن تغيير طفيف متحكم به ، إلا أن ذلك لم يدفعها للتنازل عن الحكم لصالح إثنية سياسية أخرى أكثر صلابة ، أكبر عدداً وأكثر إندماجاً بين المكونات الوطنية وخلفياتها الأنثربولوجية. بل مقاومة كل أبواب التغيير وقطع الطريق إلى الأمام.

بدأ ذلك بخطاب (الإحتيال السياسي) ، لدى المثقفين وقادة الرأي والمؤثرين الذين ينكرون الآن وجود دولة 1956 أصلاً كدولة عميقة لإثنية سياسية ، أو يحاولون تبرير وجودها وإستمراريتها من خلال ترويج (الأساطير المشرعنة) ، أو يزعمون قابليتها للإستيعاب الإصلاحي والهبوط الناعم (ستراتيجية الإحتواء) التي تندرج في الحيل الدفاعية النفسية و ممارسة الإستذهان Intellctualiztion ، رغم أنه لا يمكن التخلص منها إلا بالعنف الثوري الخالص الذي عناه فرانز فانون.

إنتهي أو ينتهي ذلك بممارسة (براكسيس) الهمجية الوحشية والظلم الوحشي (بإستعارة تناص نعوم تشومسكي عن آدم سميث) ، أو يما يمكن وصفه (ستراتيجية التوحش) المستمرة منذ 70 عاما عبر آلة مصنع الحروب المتغطرسة والإبادات الجماعية ضد الشعوب الوطنية التي توصف بأنها (متمردة) ! أو (المؤسسة القمعية المقدسة) الذي ينظر إليه مثقفي الأنتلجنتسيا من منظور العديد من العُقد النفسية رغم انهم واحد من ضحاياه ، عقدة إلكترا واحدة منها بعد غياب الإنكليز ، وتصورهم النفسي أنهم ضحايا زنجبار المحتملين الذين يحتاجون إلى (حرب دائمة) على غرار ثورة تروتسكي الدائمة لحماية أنفسهم من خلال زرع الخوف والتفوق العسكري اللازم لإخضاع الشعوب (المتمردة) والمسكونة بالتمرد ضدهم (غير موثوق فيها).

لذا وصف إلكس دي وال دولة 1956 بأنها دولة باربونية مركبة (تحالف الدولة - الشركة) Barebonse state ، خرجت من صفويتها الأولى (النزعة النخبوية) ، لتتشكل مؤتلفة من تحالف مزدوج مركنتيلي - لصوصي من البلوتوقراطيين (أثرياء الإستخراج) والامنيين الذين يحرسونها (السيكروقراط) Securocracy.

(iii)
مأزق العودة إلى أدراج الذات

أرى أنه مامن محفز وجودي أو بولتيك إقتصادي سيجعل الأنتلجنتسيا الشمالية ، تفكر في حل ومغادرة معضلتها الإسبانية (المعضلة الإسبانية Spanish Dilemma أو وفرة الموارد الإستخراجية من خلال ممارسة الإستعمار في الخارج ، اقعد إسبانيا عن التطور السيسيولوجي والسياسي نحو الديمقراطية والبرجوازية حتى زمن فرانكو وجعلها إلى جانب البرتغال أكثر الجمهوريات الغرب أوربية تخلفاً) إلا محفز التحدي الإثني Ethnic Deffiance.

فالقومية الشمالية هي قومية حديقتها الخلفية في المثلث الموجود تاريخيا بكل خصوصيته ضمن سياق أراضي إثنية البشاريين المتفرعة عن قومية البدويت (البجا) ، لكنها تأخذ شكل لوبي سلطة lobby أو كارتيل منظم أمنياً و مالياً خارج جغرافيته البشرية والثقافية في (المركز) ومحيطه بعد أن إنسحابهم تدريجيا من أغلب تجمعاتهم الإستيطانية في الغرب والجنوب الجديد ، أكثر مما تأخذ شكل تكتل عرقي أو رابطة (الدور الذي كانت تقوم به الأحزاب الإتحادية في الماضي) ، بالتالي هذا اللوبي غير مكترث لا تواصليا ولا إجتماعيا بمصير هؤلاء حال تغير موازين الصراع والحكم.

(iv)
تضخيم عُقدة الإندماج الإستعماري

وهي سياسة الإستعمار البديل Surrogate colonialism أو الرحم الديمغرافي البديل ، متمثلة في تجنيس آلاف الأجانب من غرب أفريقيا وارتريا ووسط إفريقيا (تشاد ، إفريقيا الوسطى) بغرض إحداث تغيير ديموغرافي محدد يمنع الأقاليم المختلفة من المطالبة بالفيدرالية من جهة ، ومنع إثنيات تلك الأقاليم من ممارسة الحكم الذاتي أو السيادة على مواردها.

وهي سياسة حزب الأمة (آل المهدي) سنة 1958 ، التي أعاد إنتاجها حسن الترابي كسياسة عامة لنظام 1989 ، سياسة حافة الإنفجار الإجتماعي الهائل، التي تفرز أيضاً إنفجار سياسي مصاحب ، مثلت حرب 2003 التي اشعلتها في إقليم دارفور الإثنيات الزبونية الحدودية الموالية للترابي عقب عزله من السلطة ، ونهايتها في 15 إبريل 2023 ، واحدة من تمظهراتها.

 

 

northernwindpasserby94@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • «ويتيـكـس» يجمع كبرى شركات مدن المستقبل المستدامة
  • التعليم العالي ومهارات المستقبل
  • مجالات مستقبلية للعمل الخليجي المشترك
  • محافظ المنيا: تقديم الخدمات العلاجية لـ 17 ألف مواطن على نفقة الدولة خلال شهر يوليو الماضي
  • “من طالب إلى قائد” … عام دراسي جديد يثري الجهود الوطنية لإعداد أجيال المستقبل
  • الإمارات.. عام دراسي جديد يثري الجهود الوطنية لإعداد أجيال المستقبل
  • عبد السند يمامة: حزب الوفد يلتزم بدعم الدولة المصرية في مختلف القضايا الوطنية
  • مصطفى بكري: إوعوا تزعلوا من البلد العظيمة دي.. واللي يزعل ميبقاش وطني
  • افتتاح كنيسة العذراء في مدينة العبور الجديدة
  • دولة 1956 العاجزة عن شراء المستقبل