طالبان والكرملين: فصل جديد في ملحمة أفغانستان الجيوسياسية
تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT
في عالم يتسم بالتحالفات المتغيرة والديناميكيات الجيوسياسية المعقدة، يظل الوضع في أفغانستان نقطة محورية للمخاوف الأمنية الإقليمية والعالمية. وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الأهمية الحاسمة للاستقرار في أفغانستان، ووصفه بأنه محور أساسي لأمن المنطقة ككل. ولكن هذا التركيز على الاستقرار يرتبط بوصفة دقيقة بحسب بوتين، وهي تشكيل حكومة شاملة في أفغانستان، تضم كافة الفصائل العرقية والسياسية داخل البلاد.
إن دعوة بوتين إلى الشمولية ليست مجرد بيان عابر؛ بل تعكس حسابات استراتيجية تهدف إلى تخفيف المصادر المحتملة للاضطرابات وتعزيز قيام دولة أفغانية أكثر استقرارا وتماسكا، بالإضافة إلى رسم خطوط عريضة وشبه شروط للاعتراف الرسمي بالحكومة الأفغانية الجديدة.
تاريخ لا يمكن تجاهله
شهدت العلاقات الروسية الأفغانية تحولات كبيرة على مر القرون، تميزت بفترات من التعاون والصراع. بدأت العلاقة في القرن التاسع عشر خلال عصر "اللعبة الكبرى"، وهو تنافس استراتيجي بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية للسيطرة على آسيا الوسطى، حيث كانت أفغانستان بمثابة دولة عازلة. في عام 1919، بعد الحرب الأنغلو-أفغانية الثالثة، حصلت أفغانستان على استقلالها وأقامت علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي. أرست هذه المرحلة الأولية الأساس لتفاعل معقد بين التحالفات والمنافسات التي من شأنها أن تشكل مستقبل العلاقات الروسية الأفغانية.
من الممكن أن ننظر إلى تحرك الكرملين لرفع القيود القانونية المفروضة على طالبان باعتباره خطوة عملية تهدف إلى تعزيز التعاون بينهما
خلال الحرب الباردة، أصبحت أفغانستان نقطة محورية للنفوذ السوفييتي، حيث تلقت مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة من الاتحاد السوفييتي، وخاصة في عهد رئيس الوزراء محمد داود خان. توترت العلاقة عندما سعى داود خان إلى توثيق العلاقات مع الغرب، مما أدى إلى الغزو السوفييتي عام 1979 لدعم الحكومة الشيوعية المتعثرة ضد قوات المتمردين. وأدى هذا التدخل إلى صراع دموي دام عقدا من الزمن، وساهم في انهيار الاتحاد السوفييتي.
وفي أعقاب الانسحاب السوفييتي عام 1989 وانهيار الدولة السوفييتية، ركدت العلاقات الروسية الأفغانية. ومع ذلك، فإن الفوضى التي شهدتها أفغانستان خلال التسعينيات، بما في ذلك الحرب الأهلية وصعود حركة طالبان، دفعت روسيا إلى إعادة الانخراط، خاصة بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001. وقدمت روسيا مساعدات عسكرية وإنسانية محدودة، بهدف تحقيق التوازن في علاقاتها التاريخية مع أفغانستان بالاستناد إلى اعتبارات الأمن الإقليمي ووسط التدخلات التي يقودها الغرب في الغالب.
خطوات دبلوماسية دون الاعتراف الرسمي
بعد هذه التقلبات في العلاقة التاريخية بين البلدين، وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، اتخذت روسيا خطوات مهمة نحو طالبان، بما في ذلك اقتراح إزالة الحركة من قائمتها للمنظمات الإرهابية. وقد أثار هذا التحول الدهشة وأثار موجة من الأسئلة حول الدوافع الكامنة وراء هذا التقارب.
إن خلفية هذا المحور الدبلوماسي متعددة الأوجه، حيث شهد منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، وهو حدث رئيسي في التقويم الاقتصادي الروسي، مشاركة وفود من طالبان في عام 2022. ويمثل هذا الإدراج خروجا ملحوظا عن السياسات السابقة، ويدل على الاستعداد للتعامل مع حكام أفغانستان الفعليين على الجبهتين الاقتصادية والسياسية. ومن الممكن أن ننظر إلى تحرك الكرملين لرفع القيود القانونية المفروضة على طالبان باعتباره خطوة عملية تهدف إلى تعزيز التعاون بينهما.
كما أعادت دول أخرى في آسيا الوسطى النظر في مواقفها تجاه طالبان. على سبيل المثال، قامت كازاخستان، بإزالة حركة طالبان رسميا من قائمتها للمنظمات المتطرفة في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بعد الكشف التدريجي عن هذا التغيير في السياسة في وقت سابق من العام. ومن ناحية أخرى، لم تصنف أوزبكستان قط حركة طالبان باعتبارها جماعة متطرفة، مما يسلط الضوء على الاختلاف في النهج الإقليمي في التعامل مع الحركة.
وعندما سيطرت حركة طالبان على كابول في آب/ أغسطس 2021، كان العالم بالإضافة إلى اللاعب الروسي؛ يتابع الوضع الأمني بفارغ الصبر، وسط شكوك في قدرة الحركة على الحكم. وعلى الرغم هذه الشكوك لم تتحقق المخاوف بشأن إنشاء جماعات مسلحة جديدة، أو انتشار الأيديولوجيات المتطرفة، أو تصاعد تجارة المخدرات إلى الحد الذي كان يُخشى منه.
انخراط موسكو المستمر مع طالبان وجهودها لشطب الجماعة من التصنيفات الإرهابية؛ هو جزء من استراتيجية أوسع لمحاربة داعش وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان. ومع ذلك، يواجه هذا التعاون عقبات كبيرة، خاصة وأن حركة طالبان تنفي وجود مقاتلي داعش على الأراضي الأفغانية. لكن روسيا تبدو بأنها حريصة على استكشاف الفرص الاقتصادية
إن انخراط موسكو المستمر مع طالبان وجهودها لشطب الجماعة من التصنيفات الإرهابية؛ هو جزء من استراتيجية أوسع لمحاربة داعش وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان. ومع ذلك، يواجه هذا التعاون عقبات كبيرة، خاصة وأن حركة طالبان تنفي وجود مقاتلي داعش على الأراضي الأفغانية. لكن روسيا تبدو بأنها حريصة على استكشاف الفرص الاقتصادية، حيث تنظر إلى أفغانستان باعتبارها مركز عبور محتمل لتصدير الغاز الطبيعي الروسي إلى الهند ونقل البضائع إلى الموانئ الباكستانية.
بداية الطريق
على الرغم من هذه المبادرات الدبلوماسية والوتيرة المتزايدة للزيارات الرسمية والتصريحات التي تشير إلى تحول محتمل نحو الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، فإن هذه التحركات تشير إلى بداية طريق وليست نهايته، خصوصا بعد تحليل عميق لتصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي حث على إنشاء حكومة شاملة في أفغانستان.
وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين النهج الروسي والأمريكي في التعامل مع أفغانستان أو الاعتراف بها، إلا أن ردة فعل الولايات المتحدة السلبية على الأنشطة الدبلوماسية الأخيرة لطالبان، مثل زيارة وزير داخلية طالبان سراج الدين حقاني إلى الإمارات العربية المتحدة، تشير إلى أن الولايات المتحدة تلعب بمسألة الاعتراف الرسمي لتحقيق مكاسب خاصة بها.
تسعى الولايات المتحدة بنشاط إلى التأثير على الديناميكيات الإقليمية لصالحها، والاستفادة من مشاركة طالبان في منتديات مثل قمة الدوحة للتأكيد على إنجازات سياسة بايدن الخارجية في أفغانستان
تسعى الولايات المتحدة بنشاط إلى التأثير على الديناميكيات الإقليمية لصالحها، والاستفادة من مشاركة طالبان في منتديات مثل قمة الدوحة للتأكيد على إنجازات سياسة بايدن الخارجية في أفغانستان. وتبرز هذه المناورة بشكل خاص في سياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، حيث يمكن أن تترجم نجاحات السياسة الخارجية إلى رأس مال سياسي لبايدن.
وهذا يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن طريق طالبان إلى الاعتراف الرسمي ليس مضمونا على الإطلاق، وسيتطلب الإبحار عبر شبكة معقدة من العلاقات الدولية والمصالح الجيوسياسية بين أطراف دولية كبرى ومتنافسة.
والسؤال الحاسم الذي يبرز الآن هو ما إذا كانت طالبان قادرة على فك تعقيدات الاستراتيجية الأمريكية، فهل تقبل طالبان بعائد بسيط بعد عقدين من الصراع مع الولايات المتحدة، أم أنها ستنحاز استراتيجيا إلى الكتلة الشرقية لتحقيق اعتراف أوسع وتقليص النفوذ الأمريكي؟ إن الإجابات على هذه الأسئلة سوف تشكل مستقبل أفغانستان ودورها في النظام الإقليمي والعالمي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العلاقات طالبان روسيا امريكا روسيا افغانستان علاقات طالبان مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة فی أفغانستان مع أفغانستان حرکة طالبان
إقرأ أيضاً:
هل يعتبر التضخم في الولايات المتحدة تحت السيطرة؟
توقع تقرير لبنك قطر الوطني تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة بشكل أكبر خلال العام المقبل، مدفوعاً بتطبيع استخدام الطاقة الإنتاجية، وتعديلات تكلفة الإسكان، واحتمال ضبط الأوضاع المالية العامة خلال ولاية ترامب الثانية مع تولي بيسنت منصب وزير الخزانة.
وقال التقرير تحت عنوان " هل يعتبر التضخم في الولايات المتحدة تحت السيطرة؟ بعد أن بلغ ذروته عند 5.6% سنوياً قبل أكثر من 30 شهراً في يونيو 2022، عاد التضخم في الولايات المتحدة تدريجياً ليقترب من نسبة 2% المستهدفة في الأشهر الأخيرة. وكان هذا إنجازاً كبيراً لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومبرراً لبداية دورة التيسير النقدي في شهر سبتمبر من العام الجاري، عندما تم إقرار تخفيضات أسعار الفائدة لأول مرة منذ بداية الجائحة في عام 2020.
وعلى الرغم من النجاح والتقدم في السيطرة على التضخم، فإن المخاوف بشأن أسعار المستهلك في الولايات المتحدة لا تزال تلقي بظلالها على أجندة المستثمرين. في الأسابيع الأخيرة، أدت بيانات التضخم الأعلى من المتوقع و"الاكتساح الجمهوري"، مع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية وهيمنة حزبه على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، إلى مخاوف بشأن توقعات التضخم. والأهم من ذلك، أن المقياس الرئيسي لبنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو التضخم الأساسي في نفقات الاستهلاك الشخصي، والذي يستثني الأسعار المتقلبة للطاقة والمواد الغذائية من المؤشر، لا يزال أعلى من النسبة المستهدفة. وهناك مخاوف من أن "الجزء الأخير" من عملية السيطرة على التضخم قد لا يكون سهلاً كما كان متوقعاً في السابق، وأن "النسخة الثانية من سياسة أمريكا أولاً" قد تؤدي إلى زيادة التضخم، بسبب التوسع المالي وارتفاع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة.
وأوضح تقرير QNB أن احتمالية ارتفاع التضخم أدت بالفعل إلى تغيير كبير في التوقعات المرتبطة بحجم ووتيرة التيسير النقدي الذي سينفذه بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2025. ففي غضون أسابيع قليلة، خفض مستثمرو أدوات الدخل الثابت توقعاتهم بشأن تخفيضات أسعار الفائدة من 150 نقطة أساس إلى 50 نقطة أساس فقط، مما يشير إلى أن سعر الفائدة الأساسي على الأموال الفيدرالية سيستقر في نهاية العام المقبل عند 4% بدلاً من 3%
ويرى التقرير أنه بغض النظر عن جميع المخاوف والصدمات المحتملة التي قد تؤثر على الأسعار الأمريكية، فإننا نعتقد أن التوقعات المرتبطة بالتضخم في الولايات المتحدة إيجابية، بمعنى أن التضخم سيعود تدريجياً إلى النسبة المستهدفة (2%) ما لم تحدث أي تطورات جيوسياسية كبيرة أو تصدعات في السياسة الأمريكية.
ويوضح أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تدعم وجهة نظرهم وهي:
أولاً، شهد الاقتصاد الأميركي بالفعل تعديلات كبيرة في الأرباع الأخيرة، الأمر الذي ساهم في تخفيف حالة نقص العرض وارتفاع الطلب التي كانت تضغط على الأسعار. ويشير معدل استغلال الطاقة الإنتاجية في الولايات المتحدة، قياساً بحالة سوق العمل والركود الصناعي، إلى أن الاقتصاد الأميركي لم يعد محموماً. بعبارة أخرى، هناك عدد مناسب من العمالة لفرص العمل المتاحة، في حين أن النشاط الصناعي يسير دون اتجاهه الطويل الأجل. وتأقلمت سوق العمل بالكامل وهي الآن عند مستوى طبيعي، حيث بلغ معدل البطالة 4.1% في أكتوبر 2024، بعد أن كان قد بلغ أقصى درجات الضيق في أوائل عام 2023 عندما تراجع بكثير من مستوى التوازن إلى 3.4%. وتدعم هذه الظروف التخفيف التدريجي لضغوط الأسعار.
ثانياً، سيصبح انخفاض التضخم في أسعار الإسكان مساهماً رئيسياً في انخفاض التضخم الإجمالي في الأرباع القادمة. يمثل الإسكان ما يقرب من 15% من مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، ويشمل الإيجار أو، إذا كانت الوحدة السكنية مملوكة للمالك، ما قد يكلفه استئجار وحدة مماثلة في سوق الإسكان الحالية. بلغ التضخم في الإسكان ذروته عند 8.2% في أبريل 2023، حيث تأخر كثيراً عن ذروة التضخم الإجمالي، مما يعكس "ثبات" الأسعار، نظراً لأن العقود تستند إلى الإيجار السنوي. لذلك، تتفاعل الأسعار بشكل أبطأ حيث عادة ما يظهر تأثير تغير الأوضاع الاقتصادية الكلية عليها بشكل متأخر. انخفض تضخم الإسكان بوتيرة ثابتة منذ منتصف عام 2023 وهو حالياً أقل من 5%. تُظهر مؤشرات السوق للإيجارات المتعاقد عليها حديثاً، والتي تتوقع الاتجاهات في الإحصائيات التقليدية، أن تضخم الإيجار أقل من مستويات ما قبل الجائحة. وهذا يشير إلى أن مكون الإسكان في الأسعار سيستمر في التباطؤ في عام 2025، مما يساعد في خفض التضخم الإجمالي.
ثالثاً، غالباً ما يتم المبالغة في المخاوف بشأن الطبيعة التضخمية للنسخة الثانية من سياسة الرئيس ترامب الاقتصادية "أميركا أولاً". ستبدأ إدارة ترامب الجديدة في ظل بيئة وطنية ودولية مختلفة تماماً عن ظروف الولاية السابقة في عام 2016، حيث سيكون نطاق التحفيز المالي الكبير مقيداً أكثر. لقد اتسع العجز المالي الأميركي بالفعل بشكل كبير من 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 إلى 6% في عام 2024، مع زيادة نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في نفس الفترة من أقل من 100% إلى ما يقرب من 125%. وأعرب وزير الخزانة القادم، سكوت بيسنت، الذي يعتبر "أحد الصقور" في القطاع المالي، بالفعل عن نيته "تطبيع" العجز إلى 3% بحلول نهاية الولاية. بعبارة أخرى، سيتم تشديد الأوضاع المالية أكثر بدلاً من تخفيفها، وهو ما من شأنه أن يساهم في إبطاء ضغوط الأسعار، على الرغم من أي تأثيرات ناجمة عن سياسات التعريفات الجمركية والهجرة التي لم يتم إضفاء الطابع الرسمي عليها بالكامل بعد.