abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الملاحظ في هذه الحرب منذ اندلاعها المفاجئ للجيش، هو اصرار قادة الجيش علي رفض كل دعوات الحوار، والمضي قدما في خيار استمرار الحرب، بدعاوي يقوم حولها الكثير من الشكوك! مثل حتمية الانتصار التي لاتسندها حقائق علي الارض، ان لم يكن العكس هو ما يحدث، في ظل تقدم مليشيا الجنجويد يوما بعد يوم، واكتساحها المدن واسقاطها الحاميات (اغلبها انسحابات)! وما لم تسقط من مدن مثل الفاشر، يُضرب عليها حصار خانق يعجز الجيش عن فكه، وذلك مع الاحتفاظ بكل ما سيطرت عليه سابقا.
اما ما يثير الحيرة حول تعنت قادة الجيش وموقفهم الغامض من الحوار بل والحرب نفسها، ان قائد الجيش وفي معرض دفاعه عنه، تحدث عن الدعم السريع بانه من يهاجم، وان الجيش في موقف الدفاع! فكيف والحال كذلك يتحدث ذات القائد عن حتمية الانتصار؟! بل حتي المتحركات التي تتقدم للهجوم يتم استهدافها في كمائن بذات السيناريو في كل مرة! بل يُقال والعهدة علي الراوي ان اللواء صبير مدير استخبارات الجيش، التي يقع علي عاتقها حماية المتحركات وكشف خطط المليشيا الهجومية، وهي فاشلة في كل ذلك بامتياز. ان من عينه في هذا الموقع الحساس حميدتي علي ايام سطوته، بدلالة مرافقته لحميدتي في كل جولات اتفاقية جوبا التآمرية. و حتي لو افترضنا حسن النية ووطنية واخلاص هؤلاء القادة، الا يشكك هذا الاداء المخجل في كفاءتهم العسكرية واستحقاقهم للمحاسبة والعقاب!
وفي ذات السياق الا يدعو للحسرة ان يتحدث قادة الجيش بجرأة يحسدون عليها، عن اقتراب تحرير ولاية الجزيرة بعد نصف عام من استباحتها بواسطة المليشيا البربرية. لنُفاجأ باحتلال المليشيا لمنطقة جبل موية الاستراتيجية، ودخولها سنجة بكل سهولة، والسيطرة علي الدندر، وحصارها لسنار وتهديدها للقضارف والدمازين! والاهم قبل تحرير الجزيرة لماذا لم يُكشف حتي اليوم عن سبب انسحاب الجيش وكامل اجهزة الامن والشرطة من ولاية الجزيرة بدون مبرر مقنع، او مكاسب تصب في مصلحة الجيش او الانتصار في المعركة؟ والمفارقة ان هنالك اخبار غير مؤكدة، تشير لترقية اللواء احمد الطيب، اشهر منسحب في تاريخ الحروب، لرتبة فريق في كشف الترقيات الاخيرة الذي اصدره البرهان (فايق ورايق)! واذا صح ذلك فمن جانبنا نرشح الفريق منسحب احمد الطيب، للانتداب لمليشيا الجنجويد، حتي يسنحبوا من كامل البلاد دون حروبات وخسائر ودمار، وكفي الجيش شر القتال!
اما الفرية الاخري التي يتمسك بها قادة الجيش كمبرر لرفض التفاوض، فهي اصرارهم علي خروج المليشيا الهمجية من بيوت المواطنين والمدن والاعيان المدنية كشرط شارط. ولكن ما يحدث علي الارض هو حماية الجيش لمقراته وجعل المواطنين طعمة لوحوش مليشيا الدعم السريع. كما ان رفض التفاوض (مدة عام كامل) اثبت انه يعني سقوط مزيد من الحاميات والمدن وتعريض اهلها لمذلة الاحتلال الهمجي والفوضي الشاملة! وخارطة سيطرة المليشيا خلال هذا العام تقول الكثير حول خطل هذا الرفض، ناهيك عن الاصرار عليه وكأنهم يبحثون عن الانتحار وليس الانتصار!
بل ذات القادة الذين يتباكون علي معاناة المواطنين، وكانهم ليس المتورطون الاساسيين فيها، لا يكلفون انفسهم زيارة المشريدن في مواطن تشردهم، ليواسونهم ويشاركونهم آلامهم واحزانهم، ويخففون مأساتهم بمعالجة فورية. بل بكل بساطة يجعلونها عبء علي مواطنين مدن لم تصلها الحرب، وهم انفسهم يحتاجون لمن يرفع الاعباء عنهم، بعد ان احالت هذه الحرب البلاد الي جحيم وسط كومة خراب.
ورغم ما ذكر اعلاه وغيره مما يدعو للاسي والحيرة والالم، وبدل انصات قادة الجيش لصوت العقل ونداء الضمير بوضع حد لهذه المحرقة. يصر قادة الجيش علي ذات الخطاب المفارق للواقع، والغارق في الاحلام الطفولية والتفكير الرغبوي الذي يسم المراهقين. عبر اللجوء لاكليشهات مستهلكة من جنس خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب، ونري الانتصار قريب، والانتصارات غير المرئية وسحق المليشيا، وغيرها من الخزعبلات التي تذكر بخزعبلات اسحاق فضل الله عن الغزالة والمسك ..الخ من خطرفات تتلبس ذاك المهووس الممسوس!
وصحيح هذه النوعية من الدعاية الحربية الساذجة، قد تجذب المستنفرين وتخدع البسطاء وتحجب حقيقة الواقع العسكري، ولكنها علي المدي البعيد، وهو الاهم، تاتي بنتائج عكسية بل وكارثية. بدلالة انفصال الجنوب والحديث المحبط عن الشريعة المدغمسة بعد عقد ونصف من الحرب الجهادية الشرسة.
كما ان تعنت قادة الجيش لا يتوقف علي الاداء العسكري البائس والهزائم المتلاحقة في الداخل، ولكنه يُظهر الجيش وكانه الرافض للحلول السلمية والمُصر علي الحرب وما يترتب عليها من خسائر ومآسٍ في نظر الخارج! وهو ما يصُب في خانة اظهار مليشيا الدعم السريع وكانها حاملة غصن الزيتون وحمامة السلام، فقط بمواقفها المعلنة من قبول التفاوض، رغم الشكوك حول مصداقيتها والفظائع التي تقترفها ضد الابرياء، وتضعها تحت طائلة المليشيا الاجرامية الارهابية.
والحال كذلك، تتجسد مأساة شعبنا في عجز الجيش ليس عن كسب المعركة، ولكن حتي وضع حد لها بشكل مشرف. وعليه، يستمر مسلسل المعاناة التي بلغت الحلقوم والانتهاكات الفظيعة وتدمير البلاد الذي يتواصل بشكل حثيث. ورغم المخاطر التي اصبحت تكتنف هذه الحرب الوحشية، واحتمالات تحولها الي حروب اهلية وانفراط عقد البلاد. وهو ما دعا الدول الاقليمية لزيادة تحركاتها، استباقا لوقوع الكارثة الكبري، التي قد تجر معها دول الجوار الهشة التكوين والاستقرار. ومن ثمَّ دعوة البرهان وحميدتي لضرورة العمل الجاد لايقاف هذه الحرب الجنونية. نجد البرهان وبمجرد وعده لهم خيرا ومغادرتهم البلاد او وضع سماعة التلفون، ينكث علي عقبيه ويعلن عن رفضه التفاوض، ويستعرض عنترياته الفارغة، وتسويفه، وبيعه الوهم للكيزان والمناصرين.
وكل ما سلف يقع تحت بند غموض هذه الحرب وخطورتها وضبابية اهدافها، او بالاصح كل خيوط هذه اللعبة القذرة يتحكم فيها البرهان بغموضه المريب! وهذا بالطبع يتنافي مع سردية انها حرب الكيزان او هم من يسعي لا ستمرارها. ليس لانهم يترفعون عن ذلك، فهم اسوأ من ذلك، ولكن لواقعة يتناسها الكثيرون. وهي ان العسكر هم من يستغلون السياسيين بعد نجاح الانقلاب واستقراره، وليس العكس كما هو في الظاهر. ولنا في تجربة البشير مع الترابي وحركته الاسلامية العبرة والاعتبار، حيث آلت كل الامور في نهاية المطاف الي سلطة البشير الفردية. لدرجة ان البشير وفي سبيل تحجيم الاسلامويين والاحتياط من غدرهم، ورطنا في كارثة مليشيا الدعم السريع، لاحداث توازن رعب مع الجيش من جهة وجهاز الامن المُعسكر من جهة. اما الجانب الآخر والذي ايضا قد يغيب عن البعض، ان انتصار العسكر علي المدنيين بعد الانقلاب، لا يرجع لشدة ذكاءهم او قدراتهم القيادية الفذة، ان لم يكن العكس هو الصحيح بل وهو المطلوب. ولكنه وثيق الصلة باللعبة الدولية والتوازنات الاقليمية، التي قدرت ان هذه المنطقة الغنية بالموارد وذات الموقع المميز، لابد وان تحكمها الأُسر في الخليج، والبندقية في بقية ارجاءها عبر وسيط المؤسسة العسكرية، كاسهل وارخص واضمن وسيلة لتمرير مصالحها. وغالبا هذا هو السبب الذي يجعل ابناء هذه المؤسسة يدمغون جل السياسيين بوصف العمالة والارتزاق للخارج، وينسون صداقة قادتهم وحلفهم مع ذات الخارج! اي يتحسسون مما يقومون به من دورٍ مخزٍ، ولكنه يكفل لهم السيطرة المطلقة بكافة الوسائل.
والمؤلم فيما ذكر اعلاه اذا ما صدق، ان دعاوي الديمقراطية وحقوق الانسان والدولة المدنية رغم نبالتها واهميتها، وما قُدم من اجلها من جهود وتضحيات، إلا انها تغرد خارج السرب، او جزء من التمويه الذي يخفي جوهر المسألة (الحاضنة المدنية للانظمة العسكرية). وقد يري البعض هذا صادما او دعوة انهزامية للاستسلام، ولكنه افضل من الاستغراق في الوهم. بدليل ان الديمقراطية كتجربة انسانية راقية ومتقدمة اصبحت تعاني التدهور في معاقلها (النموذج الامريكي، راجع مناظرة بايدن ترامب والانشقاق الذي يضرب المجتمع) وموطنها نفسه (اوربا وصعود اليمين بقيمه شديدة المحافظة والانعزال). وهو ما يدل ليس علي هشاشة القيم الديمقراطية وامكانية اللاعب بها، بل ومصادرتها في اي لحظة مهما توهمنا الحصانة، ولكن لانها نشأت وترعرعت في بيئة راسمالية، تحركها قبل كل شئ قيم ربحية، تحولت مع مرور الايام الي مارد قادر علي التهام كل شئ. والحال كذلك، يبدو انه في اي لحظة تتعارض الديمقراطية مع غول الربحية ستتم التضحية بها. وهذا بدوره يرجع لاشكالية بنيوية في الراسمالية كصنو للطبقة البرجوازية (قلق المكانة كما عبر الان باتون). اي هي طبقة محكوم عليها بالقلق الذي ينسحب علي كامل منظومتها وقيمها وانشطتها، لانها من جهة عاجزة عن بلوغ الارستقراطية بحكم الدم والنسب، ومن جهة هاربة من الطبقة الكادحة وتشغلها مخاوف التردي اليها. ويبدو انه هذا القلق هو ما يشعل حمي الصراع/التنافس كسمة راسماية، والذي بدوره لا يهدأ ولا يتقيد بمبدأ سوي مشروعية الصراع/التنافس نفسه. وهو ذات الشئ الذي يجعل دولها تتنكر لقيمها ومبادئها المعلنة، او توظفها عكس مدلولها خاصة تجاه الدول النامية (جلدا ما هو جلدك)، وباختصار دين الراسمالية هو المصالح، التي من اجلها يُضحي بكل شئ.
وبالرجوع لدور البرهان الغامض ولعبه بالاسلامويين وليس العكس، ان صلة البرهان بالمليشيا اعرق واوثق من صلته بالاسلامويين. وما قدمه لها من تسهيلات عسكرية ولوجستية وتمكينها من مفاصل الدولة الاستراتيجية، من الغباء بمكان تصديق انه مجرد (دقسة) منه، وليس عمل منظم تقف خلفه جهات لها مآرب لا تخفي علي احد. بل من السذاجة تصديق ان الساذج الجاهل حميدتي يملك كل هذه القوة في هذه الفترة الوجيزة، وبهذا التخطيط المحكم، وليس مجرد ارجوز ينحصر دوره في تشتيت الانتباه عما يجري في الخفاء! اذا صدق ذلك، فهذا يعني ان هذه الحرب جزء من المخطط القذر، لمصادرة الدولة من اهلها. اي هي حرب البرهان من اجل تحويل الجيش، من جيش (الكيزان) او السودان كما قال الثوار، الي جيش البرهان بالفعل، كما ندد ذات الثوار! وذلك بعد اضعاف الجيش والمليشيا والتخلص من الاقوياء فيهما، والابقاء علي المخلصين له. ولمزيد من التمويه يمكن تحويل كثير من مرتزقة المليشيا، الي كباش فداء، يتم التضحية بها، بعد تحميلها وزر الانتهاكات. ومن ثمَّ اعادة انتاج نسخة سيساوية داخل السودان، لطالما كان معجب بها البرهان، وبسببها ادخلنا في هذه المتاهة المكلفة، منذ فض اعتصام القيادة.
وعموما طالما الحرب بهذا الغموض الذي يحيط بها، خاصة من زاوية اظهار الجيش بهذا الضعف والمليشيا بهذه القوة والشراسة. وكذلك الاصرار علي استمرار الحرب رغم كلفتها الباهظة والخسائر التي تلحق بالجيش والمواطنين والدولة، وغيرها من الغرائب المحيطة بهذة المقتلة غير المفهومة! ستظل حالة البلبلة والسيناريوهات المتضاربة، هي الحاكمة للمشهد، دون جزم باي حقيقة في غياب المعلومات الموثوقة. وقد تكون هذه البلبلة والغموض نفسه جزء من مخطط تغبيشي لتمرير اهداف غير مشروعة.
وفي كل الاحوال تظل الدعوة لايقاف هذه الحرب باعجل ما تيسر هي المطلب المُّلح، ليس من وجهة نظر اخلاقية وانسانية فحسب، وانما من وجهة مصلحية يكسب فيها الجميع. ولكن كي تستوي هكذا دعوة علي ساقين، لابد ان نعترف بالحقائق علي الارض. اولها، ان مليشيا الدعم السريع حقيقة واقعة، وقوة عسكرية مسلحة لا يمكن انكارها او الاستهانة بها او التخلص منها. وثانيها، ان هذه المليشيا الهمجية قادرة علي تقويض اسس الدولة وابادة المواطنين اذا ما استمرت هذه الحرب القذرة. وثالثها، ان الطرفين المتقاتلان لن يكُفا عن القتال دون الحصول علي مكاسب كانت سلفا سببا في القتال، وتكبدا بسببها كثيرا من الخسائر. وعليه اصبح هنالك رهانان، اما تقبل هذه المليشيا علي علاتها وكوارثها، مع السعي لاحداث تغييرات في بنيتها ومحاولة تمدينها وضمها للجيش، بعد اعادة تكوينه علي اسس حديثة، وهكذا نضمن ما تبقي من الدولة وحفظ ارواح المواطنين. او رفضها (رفض التفاوض) واستمرار الحرب الملعونة ضدها، كما ظلت تصر قيادات الجيش وداعميها بوهم الحسم العسكري دون ظهور ضوء في آخر نفقه، مع مخاطر هلاك الشعب وفناء الدولة كما سلف. ولا اعتقد ان هنالك عاقل يختار الخيار الثاني، إلا اذا استجاب لمشاعر الغضب والانتقام او الطمع في جني مكاسب لن يكون لها مكان في ظل الفوضي الشاملة المتوقعة.
وطبيعي في هكذا اوضاع معقدة واحقاد مترسبة ومطالب قصوي وشكوك متاصلة، ان يكون التفاوض في غاية الصعوبة، والاتفاق اذا ما تم في غاية الهشاشة. وهنا ياتي دور الطبقة السياسية في تلطيف الاجواء وازالة بؤر الاحتقان، وليس ابعد من ذلك اقلاه مرحليا. والاهم هكذا اتفاق يتطلب وجود قوي دولية تعمل كضامن وحارس وميسر لاعادة البناء.
واخيرا
كل ما نتمناه ان تكون ظنونا كاذبة والاحتمالات المتشاءمة طائشة، وان الجميع حريص علي مصلحة البلاد وشعبها وليس المصالح الضيقة، وان يستجيب الجميع لنداء ايقاف الحرب. فما شهدناه من كوارثها وفواجعها وشرورها لما يزيد عن العام بربع، يجعل مجرد استمرارها ثانية واحدة، لهو الجنون والخسران المبين للجميع.
ما حدث ليوسف عزت من اقالة أُخرجت في شكل استقالة، هو جزاء متوقع لمن يُسخر نفسه وملكاته لخدمة جنرالات ومشاريع مشبوهة. وهو دور شبيه (بالمُحلل) وسواء طال الزمن ام قصر ستاتي تضارب مصالح او مؤامرة او احلال غيره محله، ليُطرد شر طردة او يقذف به في اقرب مكب من غير رحمة. وسظل عالقة في عنقك كل جرائم وانتهاكات المليشيا ضد الابرياء والتي عاصرتها مستشارا دون ان تستنكرها، بل وتشفعها باستقالة مسببة تدين فيها تلك الجرائم والانتهاكات! حتي يتسق مع ما ظللت تظهر (تتظاهر) به، كمستنير يدعو للحداثة ومناصر لمشروع الديمقراطية وخدمة حقوق المواطنين. لذلك لو كان للابتلاءت من نعم، فهي تفضح لنا زيف الشعارات وخواء ورياء الشعاراتية. والحال كذلك، كم ظلمنا الكيزان الظلمة، ونماذج مبارك الفضل وهجو وترك واردول، ونحن نظنهم فئة ضالة وتركيبة منحرفة. ولكنا اكتشفنا نماذجهم مخترقة لكافة الاحزاب والحركات المسلحة والتنظيمات المدنية، وكل ما نحتاجه مجرد اختبار السلطة. ودمتم في عاية الله.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع قادة الجیش هذه الحرب من جهة
إقرأ أيضاً:
حرب العاشر من رمضان.. القوات الجوية تدمر مواقع العدو والبحرية تفرض حصارا والدفاع الجوي يسقط ثلث طائرات الجيش الذي لا يقهر
تحتفل مصر و القوات المسلحة بالذكرى المجيدة، ذكرى حرب العاشر من رمضان ، ذلك اليوم العظيم من أيام الوطنية المصرية، الذى حققه هذا الجيل من أبناء القوات المسلحة، وجسد بطولات وتضحيات الشعب المصري فى استرداد أرض سيناء المقدسة وأعادوا لمصر عزتها وكرامتها وللأمة العربية شموخها وكبريائها.
وبمناسبة ذكرى انتصار العاشر من رمضان عام 1973، نستعرض الدور الذي قامت به القوات الجوية والبحرية والدفاع الجوية والمدفعية، خلال حرب العاشر من رمضان.
القوات الجوية
إعداد القوات الجوية بعد حرب يونيو 67
بدأ فعليًا الإعداد لحرب العاشر من رمضان المجيدة بعد انتهاء حرب يونيو 1967، حيث استوعبت القوات المسلحة ومن ضمنها القوات الجوية الدرس، وبدأت بالتجهيز للحرب من خلال عدة محاور، وهي:
المحور الأول:
وهو بناء القوة القتالية من الطائرات والطيارين، فأعيد تخطيط الهيكل التنظيمي للقوات الجوية لتكون في صورة ألوية مستقلة وتم تشكيل لواء استطلاع جوى تم تجهيزه بوسائل الاستطلاع الحديثة، أما الطيارون، فعلى الرغم من أن أعداد الطيارين بانتهاء حرب يونيو 1967 كانت تفوق أعداد الطائرات، إلا أن مرحلة البناء كانت تتطلب زيادة أكبر فى أعداد الطيارين، لذلك تمت زيادة الأعداد بالكلية الجوية لتفي بالأعداد المطلوبة والمتناسبة مع زيادة عدد الطائرات.
المحور الثاني:
فهو تجهيز مسرح العمليات، حيث قامت القوات الجوية بإنشاء المطارات الجديدة وكذا غرف عمليات محصنة فى كل القواعد الجوية والمطارات، كما قامت بزيادة الممرات بكل قاعدة ومطار، وتم إنشاء العديد من الدشم المحصنة للطائرات وكذا دشم الصيانة.
حرب الاستنزاف و القوات الجوية
إن القوات الجوية كان لها دور مهم في حرب الاستنزاف، وساعد ذلك في التجهيز والإعداد العملي الجيد لحرب رمضان، ففي يوم 10 ديسمبر 1969 كانت أول مواجهة للطيارين المصريين مع الطائرة الفانتوم التى توصف بأنها من أحدث الطائرات في الترسانة الأمريكية وجرت معركة جوية في الساعة الحادية عشرة صباحًا فوق منطقة العين السخنة في خليج السويس عندما هاجمت 8 طائرات فانتوم المنطقة لضرب محطة رادار مصرية فتصدت لها على الفور 8 طائرات مصرية طراز ميج 21.
فقد تم إسقاط أول طائرة فانتوم على يد طيار مصري في منطقة رأس المسلة على الساحل الشرقي لخليج السويس، وكانت فترة حرب الاستنزاف خير إعداد وتجهيز عملي للطيارين قبل حرب رمضان.
معركة النصر في 1973
خلال حرب العاشر من رمضان المجيدة عام 1973 سطرت قواتنا المسلحة ملحمة بطولية شهد لها العالم، وجاءت أعمال قتال قواتنا الجوية في الطليعة، حيث قامت بالعديد من البطولات منها الضربة الجوية التى أفقدت العدو توازنه في بداية الحرب، وكانت الضربة الجوية الرئيسية مكونة من أكثر من 200 طائرة مقاتلة لضرب الأهداف المعادية الإسرائيلية المحددة لها داخل سيناء المحتلة، وقد تمت الضربة الجوية في صمت لاسلكي تام لتجنب أي عمليات تصنت معادية يمكن أن تكشف الهجوم المصري.
ومرت التشكيلات الجوية على ارتفاع منخفض جدًا وفى مسارات تم اختيارها بعناية لتفادى وسائل كشف الدفاع الجوي المعادي، وكان لذلك المرور فوق تشكيلاتنا وقواتنا البرية عظيم الأثر في رفع معنويات الجنود المقاتلين على الأرض، وكانت مؤشرا لبدء ملحمة مشتركة من البطولة للقوات المسلحة المصرية، فقد عبرت الطائرات كلها في وقت واحد خط القناة، حيث تم ضرب مركز القيادة الرئيسي للعدو في منطقة "أم مرجم" لمنع سيطرته وعزلة عن قواته ثم تتابع بعد ذلك ضرب الأهداف المخطط التعامل معها بنسبة نجاح تزيد على 90%.
وتم ضرب 3 ممرات رئيسية في 3 مطارات هي "المليز - بيرتمادا - رأس نصراني"، بالإضافة إلى 3 ممرات فرعية فى نفس المطارات، وكذلك تدمير 10 مواقع بطاريات للدفاع الجوي من طراز هوك و2 موقع مدفعية ومركز حرب إلكترونية والعديد من مواقع الشئون الإدارية، وقد استمرت هذه الضربة حوالى 30 دقيقة ونظرًا لنجاحها فى تنفيذ أكثر من 90% من المهام المكلفة بها تم إلغاء الضربة الجوية الثانية لعدم الحاجة إليها.
معركة المنصورة الجوية
خاضت القوات الجوية المصرية معاركها في حرب العاشر من رمضان المجيدة بكل كفاءة واقتدار منذ البداية وحتى النهاية وتألقت قواتنا الجوية في يوم 14 أكتوبر "معركة المنصورة" في أداء مهامها بكفاءة عالية شهد بها العدو قبل الصديق.
ففي هذا اليوم، قام العدو بتنفيذ هجمة جوية على مطارات الدلتا بغرض التأثير على كفاءتها القتالية ومنع طائراتنا من التدخل ضد قواته بعد الخسائر الهائلة التى تكبدها فتصدت له مقاتلاتنا من قاعدة المنصورة وقاعدة أنشاص، ودارت اشتباكات متواصلة شارك فيها أكثر من 150 طائرة من الطرفين أظهر فيها طيارونا مهارات عالية في القتال الجوي.
واستمرت المعركة أكثر من 50 دقيقة وتعد أطول معركة جوية، حيث تم إسقاط 18 طائرة للعدو رغم التفوق النوعي والعددي لطائراته، ولم يكن أمام باقي الطائرات العدو إلا أن تلقى بحمولتها فى البحر وتلوذ بالفرار، كما فعلت ذلك فى باقي أيام الحرب، ومن هنا تم اختيار هذا اليوم عيدًا للقوات الجوية باعتباره من أهم المعارك الجوية خلال حرب 73.
وقد شهد العالم للمخطط المصري روعة التخطيط فى حرب العاشر من رمضان 73، ولقد أثبت الطيار المصري خلال حرب أكتوبر المجيدة صلابة معدنه وشدة بأسه فى القتال بمعدلات أداء عالية بما تيسر له آنذاك من سلاح خاض به معارك البطولة والتضحية والفداء ويكفى فخرًا أن طياري اليوم هم تلاميذ طياري حرب نصر العاشر من رمضان.
القوات البحرية
لعبت القوات البحرية المصرية دورًا محوريًا في تحقيق حرب العاشر من رمضان، حيث كانت هناك مهام عديدة ملقاة على عاتقها واستطاعت تحقيقها بنجاح، ومنها معاونة أعمال قتال الجيوش الميدانية في سيناء سواء بالنيران أو بحماية جانب القوات البرية المتقدمة بمحاذاة الساحل.
تنفيذ إبرار بحري وإغلاق مضيق باب المندب
قامت القوات البحرية بتنفيذ المعاونة لباقي أفرع القوات المسلحة، وذلك بالإبرار البحري لعناصر القوات الخاصة على الساحل الشمالي لسيناء، وسيطرت على مضيق باب المندب وباشرت حق الزيارة والتفتيش واعتراض السفن التجارية ومنعها من الوصول إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، مما أفقد الميناء قيمته وتم تعطيله عن العمل تمامًا، ومن ثم حرمان إسرائيل من جميع إمداداتها عن طريق البحر الأحمر.
وكذلك قامت القوات البحرية المصرية بتنفيذ مهمة التعرض لخطوط المواصلات البحرية الإسرائيلية في البحر المتوسط والأحمر بكفاءة تامة، وعلى أعماق بعيدة، مما أدى إلى تحقيق آثار عسكرية واقتصادية ومعنوية على إسرائيل وقواتها المسلحة.
إغارة على الموانئ والمراسي والأهداف الساحلية بإسرائيل
نفذت القوات البحرية المصرية إغارة بالنيران على الموانئ والمراسي والأهداف الساحلية بإسرائيل بتسديد ضربات بالصواريخ والمدفعية ضدها بأسلوب متطور اعتمد على خفة الحركة وسرعة المناورة مع توفير قوة نيران عالية، فيما وفرت تأمين النطاق التعبوي للقواعد البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط.
وكان له أكبر الأثر الفاعل في إحباط جميع محاولات العدو للتدخل ضد قواتنا البحرية العاملة على المحاور الساحلية، وساعد على استمرار خطوط المواصلات البحرية من وإلى الموانئ المصرية دون أي تأثير وطوال فترة العمليات.
خمسون قطعة بحرية مصرية تنتشر في البحرين المتوسط والأحمر
اعتبارا من يوم 27 سبتمبر 1973 بدأت خمسون قطعة بحرية مصرية انتشارها فوق مياه البحرين المتوسط والأحمر، كما وصلت مجموعة بحرية مكونة من المدمرات والفرقاطات والغواصات إلى مضيق باب المندب بحجة مساندة اليمن الجنوبية، ومع بدء العمليات في السادس من أكتوبر تم إعلان البحر الأحمر عند خط 21 شمالًا، منطقة عمليات.
وتمكنت البحرية المصرية خلال الفترة من 6 أكتوبر حتى 21 أكتوبر 1973 من اعتراض 200 سفينة محايدة ومعادية، إلا أن ناقلة بترول إسرائيلية لم تمتثل لتعليمات البحرية المصرية بالابتعاد عن الخط الشمالي المار بين مدينة جدة السعودية وبور سودان السودانية لأنها منطقة عمليات، فقامت الغواصات المصرية باعتراضها وإغراقها بالطوربيدات، فتوقفت الملاحة نهائيًا منذ يوم 7 أكتوبر في البحر الأحمر.
استهداف منشآت إستراتيجية للعدو الإسرائيلي
قامت وحدات بث الألغام التابعة للبحرية المصرية بإغلاق مدخل خليج السويس، كما هاجمت الضفادع البشرية منطقة بلاعيم ودمرت حفارًا ضخمًا، فيما تم قصف منطقة رأس سدر على خليج السويس بالصواريخ، لتصاب عمليات شحن البترول في خليج السويس إلى ميناء إيلات بالشلل التام، حيث كان الهدف الإستراتيجي للقوات البحرية هو حرمان إسرائيل وقواتها المسلحة من البترول المسلوب من الآبار المصرية في خليج السويس والبترول المستورد.
ونجحت القوات البحرية في السيطرة على مسرح العمليات البحرية على السواحل المصرية وسواحل فلسطين المحتلة وسيناء لتؤمن أجناب الجيش المصري الذي خاض معركة التحرير في سيناء.
قوات الدفاع الجوي
إن الحديث عن حرب العاشر من رمضان لا ينتهى، وإذا أردنا أن نسرد ونسجل الأحداث كلها فسوف يتطلب ذلك العديد من الكتب حتى تحوى جميع الأحداث، وسوف نكتفى بذكر نبذة عن دور قوات الدفاع الجوي فى هذه الحرب، ولكى نبرز أهمية هذا الدور فإنه يجب أولًا معرفة موقف القوات الجوية الإسرائيلية وما وصلت إليه من كفاءة قتالية عالية وتسليح حديث متطور.
وبدأ التخطيط لتنظيم وتسليح القوات الجوية الإسرائيلية بأحدث ما وصلت إليه الترسانة الجوية فى ذلك الوقت مبكرا، وذلك بشراء طائرات ميراج من فرنسا والتعاقد مع الولايات المتحدة على شراء الطائرات الفانتوم وسكاي هوك حتى وصل عدد الطائرات قبل عام 1973 إلى 600 طائرة أنواع مختلفة.
ولقد بدأ رجال الدفاع الجوي الإعداد والتجهيز لحرب التحرير واستعادة الأرض والكرامة فى العاشر من رمضان من خلال استكمال التسليح لأنظمة جديدة لرفع مستوى الاستعداد القتالي واكتساب الخبرات القتالية العالية خلال فترة وقف إطلاق النار، وتم وصول عدد من وحدات الصواريخ الحديثة سام - 3 "البتشورا" وانضمامها لمنظومات الدفاع الجوي بنهاية عام 1970 وإدخال منظومات حديثة من الصواريخ "سام-6" فى عام 1973.
وخلال فترة وقف إطلاق النار، نجحت قوات الدفاع الجوي فى حرمان العدو الجوي من استطلاع قواتنا غرب القناة بإسقاط طائرة الإستطلاع الإلكترونى "الإستراتوكروزار" صباح يوم 17 سبتمبر 1971، وكانت مهمة قوات الدفاع الجوي بالغة الصعوبة لأن مسرح العمليات لا يقتصر فقط على جبهة قناة السويس بل يشمل مساحة مصر كلها بما فيها من أهداف حيوية سياسية واقتصادية وقواعد جوية ومطارات وقواعد بحرية وموانئ استراتيجية.
إسقاط أكثر من 25 طائرة للعدو الإسرائيلي
فى اليوم الأول للقتال فى العاشر من رمضان عام 1973، هاجم العدو الإسرائيلي القوات المصرية القائمة بالعبور حتى آخر ضوء بعدد من الطائرات كرد فعل فورى توالت بعدها هجمات بأعداد صغيرة من الطائرات خلال ليلة 10/11 رمضان تصدت لها وحدات الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات ونجحت فى إسقاط أكثر من 25 طائرة، بالإضافة إلى إصابة أعداد أخرى وأسر عدد من الطيارين.
وعلى ضوء ذلك، أصدر قائد القوات الجوية الإسرائيلية أوامره للطيارين بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة أقل من 15 كم، وفى صباح يوم 11 رمضان 1973 قام العدو بتنفيذ هجمات جوية على القواعد الجوية والمطارات المتقدمة وكتائب الرادار، ولكنها لم تجن سوى الفشل ومزيد من الخسائر فى الطائرات والطيارين.
وخلال الثلاثة أيام الأولى من الحرب، فقد العدو الجوي الإسرائيلي أكثر من ثلث طائراته وأكفأ طياريه الذين كان يتباهى بهم، وكانت الملحمة الكبرى لقوات الدفاع الجوي خلال حرب العاشر من رمضان، مما جعل "موشى ديان" يعلن فى رابع أيام القتال عن أنه عاجز عن اختراق شبكة الصواريخ المصرية وذكر فى أحد الأحاديث التليفزيونية يوم 14 أكتوبر 73 أن القوات الجوية الإسرائيلية تخوض معارك "ثقيلة بأيامها ثقيلة بدمائه".
المدفعية المصرية
تم تنفيذ أكبر تمهيد نيراني بطول الجبهة، حيث قام ما يقرب من 2000 مدفع على طول خط القناة بإطلاق قذائفها في اتجاه الضفة الغربية للقناة تجاه العدو الإسرائيلي وضرب التمركزات ومراكز القيادة والسيطرة ومحطات الرادار الخاصة بالعدو الإسرائيلي، وذلك بعد الضربة الجوية المركزة التي قامت بها القوات الجوية على طول خط بارليف.
وقد ساهم ذلك فى نجاح اقتحام قناة السويس وتنفيذ مراحل العملية الهجومية، الأمر الذى ساعد قوات العبور المتتالية على الاقتحام ومهاجمة جميع حصون خط بارليف، وإسقاط النقاط المعادية شرق القناة، وفى تلك اللحظات الحرجة لعبت الصواريخ المضادة للدبابات دورا مؤثرًا فى تدمير دبابات العدو وعناصره المدرعة، وقد اشتركت مدفعيتنا وصواريخنا بمختلف الأسلحة الجديدة المتطورة، في معركة النصر، وقامت بأخطر الأدوار في هذه الحرب.
وتنفرد المدفعية المصرية عن باقى مدفعيات دول العالم بقدرتها على تجميع النيران وحشد أكبر عدد من الكتائب للضرب فى وقت واحد، وذلك ما ظهر جليًا فى جميع معارك المدفعية المصرية حتى الوصول إلى أكبر حشد نيرانى فى نصر العاشر من رمضان 1973، وهو أعظم تمهيد نيرانى تم تنفيذه حتى الآن ويدرس فى الكليات والأكاديميات العسكرية العالمية، وكان نقطة انطلاق لحرب العاشر من رمضان المجيدة.