الحرب كمدعاة لصيانة وانتصار سلطة العقل والاخلاق الوطنية
تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT
وجدي كامل
ايا كان غياب الوحدة الوطنية كحقيقة ماثلة، متفق عليها من قبل الجميع فيما مضى، وابان المرحلة التاريخية التي تلت الاستقلال وتستمر الى اللحظة فان هذه الحرب وبكل المعاني المباشرة والمستترة تعد دعوة لتحقيق تلك الوحدة الوطنية الغائبة. فالآن، وبعد ان حلت الكارثة الضخمة، الكبيرة بوطننا، علينا ان نقف على اقدامنا وننهض سويا كضحايا لها، ونبدا في صناعة التفاهم والتفاكر لاجل توحيد الصفوف، وتنقية ثقافاتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من سائر العيوب، وفي مقدمة ذلك استبعاد العنف كلغة للحوار واستبداله بلغة العقل وتطويرها حتى تصبح سلطة.
ذلك لن يتحقق بالأمنيات بقدر ما يتحقق بقبول النقد والتغيير بحيث لا يقوم حل سواهما، وهو ما يعني تغيير المعادلات وخارطة العلاقات والمؤثرات المكونة للسلطة في شتى تمثيلها وتماهياتها في الحياة. هنالك اهداف لا مناص من اصابتها، وفي اولها الضبط قدر الامكان، والتفعيل، للعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وصيانة الحقوق الاساسية للمواطن والدفاع عنها ليس بواسطة سلطة سياسية فوقية مؤقتة، ولكن بمشاركة الجميع، وبحيث لا يصبح ثمة مجال لتسرب الانتهاكات مرة اخرى وللابد في السلوك والممارسة. الشراكة في الوطن مفهوم اساسي هنا يجب اعتماده.
اما المجال الجوهري الذي يغدو مرشحا للاختراق والتعديل فهو المجال او الفضاء الثقافي عبر تصميم المفاهيم والتصورات والسلوك العقلي الجديد لاجل التخطيط لهياكل ومخرجات التعليم والاعلام. ولا شك انه، ومن خلال التجربة التاريخية الوطنية للممارسة السياسة فان ذلك الهدف الاستراتيجي العزيز سوف يكون بعيد المنال اذا ما بقيت ممسكات الدفاع والأمن للدولة والمجتمعات السودانية خارج السيطرة، وهو ما يعزز لمطلب إحكام السيطرة المدنية عليهما عبر الاحتكام لنظام ديمقراطي بالغ النزاهة والشفافية.
ان معضلة تحقيق ذلك تتضح يوما بعد يوم بسبب ضعف فعالية الخطابات الثقافية السياسية الموجهة للمجتمعات السودانية في افتقادها لمحتويات التنوير، والانحياز لقضايا التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
امامنا كسودانيين درس مبذول حاليا وبتكلفة عالية ممثلا في هذه الحرب الضارية، ما يعني ان علينا الاخذ باسبابها مجتمعة والتحلي بالقدر الواجب من الشجاعة والقدرة على النقد وتسمية الاخطاء بمسمياتها، والعمل على القضاء والتنحية لمجمل الظواهر السياسية (وربما المجتمع السياسي بممثليه وشخوصه) على اساس الكشف عن الاخطاء المتكررة المرتكبة تجاه حقوق الشعوب السودانية، وهذا ما يجيز اعتماد مفهوم الموت السياسي وليس اعادة الحياة لمن تسبب في انتاج الخراب الذي حل ليس فقط باطلاق كتيبة المؤتمر الوطني الرصاصة الاولى ولكن بفعل تراث وميراث من الاخطاء التاريخية العضوية في الممارسة السياسية التي تدين الاطراف العسكرية بقدر الادانة للطرف المدني بما ساهم به بمناسيب وبمقادير متنوعة ومتعددة في اشعال الحرب.
ان نقف على اقدامنا تعني ان نتخلص، ونساعد بعضنا البعض في التخلص ايضا من ميراث المحاباة والفساد والتردد والتخفي ازاء اتخاذ كل ما يستوجب اتخاذه من انشطة واعمال لصالح صناعة واقع آخر- واقع يضع نصب اعينه مصلحة الاجيال القادمة وحقها في ان تصنع حياة مبرأة من صور الانتكاس والخذلان وتلك هى روح الثورة المطلوبة للسيطرة على الواقع بواسطة إحكام سيطرة العقول والشخصيات ذات الصحة النفسية والاخلاقية السياسية الصحيحة عبر ديمقراطية حقيقية تتيح القدر الاكبر من التفاعل الشعبي لانتخابها، لا عن طريق صناديق الانتخابات ولكن عبر نتائج ومنتجات المختبرات اليومية لمقاومة واقع التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الماثل.
هذه الحرب وبكل ما انتجته من دمار تبقى وفي الخلاصات دعوة للنهضة بالبحث عن وصفتها الذكية وشفرتها الخاصة.
wagdik@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
نظرية جديدة لتفسير آلية اختزان الذكريات في العقل البشري
تنقسم ذاكرة العقل البشري إلى شقين رئيسيين، أولهما ذاكرة المدى القصير التي تعرف أيضا باسم الذاكرة النشطة، ويتمثل دورها في اختزان كمية محدودة من المعلومات في العقل دون مراجعة على أن تظل متاحة للاسترجاع لفترة زمنية محدودة. وهناك ذاكرة المدى الطويل، وهي التي تقوم بمعالجة الذكريات والاحتفاظ بها إلى أجل غير مسمى.
ويقول العلماء: إن من بين خصائص ذاكرة المدى الطويل أنها تتميز بسعة غير محدودة، وتحتفظ بالذكريات لفترات طويلة دون أن تفقدها، ويسهل استدعاء هذه الذكريات عند الاحتياج إليها. وعادة ما تنقسم ذاكرة المدى الطويل إلى عدة أنواع مثل الذاكرة الصريحة التي تختزن الذكريات والمعلومات التي يتم استرجاعها بوعي، والذاكرة العرضية التي تحتفظ بمعلومات عن الأحداث التي تمر بالإنسان على امتداد حياته، والذاكرة الدلالية التي تختزن معلومات يتم استخدامها في الحياة اليومية مثل معاني الكلمات وطريقة التعامل مع مختلف المعطيات في البيئة المحيطة.
وتضم ذاكرة المدى الطويل أيضا الذاكرة الإجرائية التي تتعلق بالمهارات الحركية للإنسان مثل ركوب الدراجة أو الكتابة بالقلم أو السباحة وغيرها، وهناك أيضا الذاكرة الترابطية التي تسترجع ذكريات محددة من خلال ارتباطها بسلوكيات أو مواقف قديمة بغرض تطويرها واكتساب خبرات جديدة.
وعند تعامل العقل مع المدخلات اليومية، فإنه يقوم باختزان المعلومات في البداية على ذاكرة المدى القصير لبرهة محدودة من الوقت ثم يتخلص من المعلومات غير المهمة تباعا لإفساح المجال لإدخال معلومات جديدة علما بأن الذكريات المهمة تنتقل من ذاكرة المدى القصير إلى المدى الطويل، حيث يتم الاحتفاظ بها لاسترجاعها عند الحاجة إليها. ولكن فريقا من الباحثين من معهد ماكس بلانك بولاية فلوريدا الأمريكية توصل إلى نظرية جديدة تقول إنه من الممكن اختزان الذكريات في ذاكرة المدى الطويل مباشرة دون الحاجة لمرورها على ذاكرة المدى القصير أولا، مما يفتح مجالا جديدا لفهم آلية عمل ذاكرة الإنسان ومعرفة الظروف التي تحيط بمنظومة اختزان الذكريات في العقل البشري.
ويقول الباحث ميونج يون شين رئيس فريق الدراسة: إن «هذا الاكتشاف يماثل العثور على ممر سري يفضي إلى الذاكرة الدائمة داخل العقل»، مضيفا في تصريحات للموقع الإلكتروني «سايتيك ديلي» المتخصص في الأبحاث العلمية أن «النظريات السائدة تشير إلى وجود ممر واحد لانتقال المعلومات من ذاكرة المدى القصير إلى الطويل، ولكننا الآن لدينا دلائل قوية تشير إلى وجود مسارين على الأقل لتكوين الذكريات يمر أحدهما عبر ذاكرة المدى القصير، ويفضي الآخر لذاكرة المدى الطويل مباشرة، وهو ما يدل على أن العقل البشري أكثر مرونة عما كان يعتقد من قبل».
وتركز الدراسة على أنزيم معين داخل الخلايا العصبية يطلق عليه اسم CaMKll ويرتبط بتكوين ذكريات المدى القصير. وكان العلماء في السابق يعتمدون على علم البصريات الوراثي لتعطيل عمل هذا الأنزيم بشكل مؤقت. وبنفس الطريقة، اعتمد الفريق البحثي في معهد ماكس بلانك على الضوء لتعطيل آلية تكوين ذكريات المدى القصير داخل عقول الفئران. ومن المعروف أن الفئران تفضل الأماكن المظلمة. وإذا ما أتيحت لها الفرصة، فإنها تتجه إلى المكان المظلم بدلا من المكان المضيء، غير أنه إذا تعرض الفأر لتجربة مخيفة في مكان مظلم، فإن هذه الذكرى المرعبة سوف تعدل سلوكياته وتجعله يتجنب الاتجاه إلى الأماكن المظلمة في المستقبل.
وبحسب موقع «سايتيك ديلي»، لجأ الفريق البحثي إلى تعريض فئران التجارب إلى تجربة مفزعة في أماكن مظلمة، ثم استخدموا الضوء للحيلولة دون اختزان هذا الحدث في ذاكرة المدى القصير لدى الفئران. وتبين من التجربة أنه بعد انقضاء ساعة، عادت الفئران للولوج إلى الأماكن المظلمة دون خوف بمعنى أن الفريق البحثي نجح بالفعل في منع تخزين هذا الحدث في ذاكرة المدى القصير. ولكن الأمر الذي أدهش العلماء بعد ذلك أنه بعد مرور عدة أيام أو أسبوع أو شهر، تغيرت سلوكيات فئران التجارب وأصبحت تمتنع عن دخول نفس الأماكن المظلمة التي سبق أن تعرضت فيها لتجربة مخيفة، وهو ما يدل بشكل قاطع على أن الشعور بالخوف من الظلام، الذي لم يتم اختزانه على ذاكرة المدى القصير بعد تدخل العلماء، قد انتقل بشكل مباشر إلى ذاكرة المدى الطويل لدى الفئران، وهو ما أتاح لهذه الحيوانات استرجاع الشعور بالخوف بعد عدة أيام أو أسابيع أو حتى أشهر.
ويقول الباحث شين: «في البداية شعرنا بالدهشة من هذه الملاحظة لأنها لا تتفق مع أفكارنا المسبقة بشأن طريقة تكون الذكريات، ولم نكن نعتقد أنه من الممكن اختزان المعلومات في ذاكرة المدى الطويل دون الاحتفاظ بها لفترة في ذاكرة المدى القصير، غير انه عندما قمنا بتكرار التجربة عدة مرات باستخدام أدوات بحثية مختلفة، استطعنا التحقق من صحة هذه النتيجة وأصبحنا على قناعة». وأوضح شين قائلا: «لقد تبين لنا أن تكون الذكريات طويلة المدى ليس عملية خطية تتطلب مرور المعلومة على ذاكرة المدى القصير أولا، إنما هي عملية متوازية تسمح بتجاوز ذاكرة المدى القصير في بعض الأحيان».
ويقول الباحث ريوهي ياسودا عضو فريق الدراسة في معهد ماكس بلانك: إن «هذه النتائج جعلتنا نعيد النظر في فهمنا لتكوين الذكريات، ونعكف الآن على محاولة فهم الظروف التي تؤدي إلى تكون ذكريات المدى الطويل مباشرة، علما بان هذا البحث العلمي قد يساعد في إيجاد طرق للاحتفاظ بالمعلومات على ذاكرة المدى الطويل في حالة تضرر ذاكرة المدى القصير لدى البعض جراء تقدم السن أو بسبب مشكلات صحية تؤثر على الإدراك العقلي».
وكالة الأنباء الألمانية «د ب أ»