من طرف المسيد: كسرة ود بشارة
يرويها الأستاذ محمد سيد احمد الحسن
حررها عادل سيد احمد
وواصل الوالد محمد سيد أحمد الحسن في تسجيلاته الصوتية عن الكسرة قديما وحديثا، فقال:
- الكسرات كثيرة وهي موجودة في التاريخ القديم كما في التاريخ الحديث.
وفي التاريخ الاسلامي نذكر من كسرات يهود المدينة المنورة كسرة بني قريضة، فقد انتهت الغزوة التي قادها الرسول (ص) عليهم في السنة الرابعة للهجرة في يثرب، فاستسلم بنو قريظة وطلبوا التحكيم الذي قضى بقتل الرجال وسبي الذراري وتقسيم أموالهم واراضيهم على المسلمين.
وفي التاريخ القديم، أيضا، قتل جنكيز خان ثم من بعده حفيده هولاكو خان الملايين من سكان بلاد جنوب غرب آسيا وتوسع جيش هولاكو في أجزاء من الإمبراطورية المغولية مؤسسا سلالة الخانات بفارس. وقد اجتاح المغول تحت قيادته بغداد عاصمة الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي وتحول المؤرخون للكتابة بالفارسية بدلا عن العربية.
وقد سبق أن ذكرت لك كسرة ود بشارة ضمن كسرات التاريخ الحديث في شمال السودان.
وود بشارة قائد من قواد المهدية، وهو تعايشي ويقال أنه ابن عم الخليفة الذي أرسله لفض الخلاف بين عبد الرحمن النجومي وقيدوم مسلم.
وخلفية حملة توشكي أنه ولما كان خليفة المهدي يتخوّف من الأشراف ومن قائدهم عبد الرحمن النجومي بطبيعة الحال، اخترع حكاية فتح مصر، وأرسل عبد الرحمن النجومي على رأس جيش خالٍ من المقاتلين كان قوامه الأطفال والنساء والعجزة أعطاهم الخليفة لعبد الرحمن النجومي وقال له: (افتح مصر) ... دون امدادهم بالخدمات الضرورية لذلك الجيش، من طعام واسكان وما إلى ذلك، فذهب هذا الجيش العرمرم وهو لا يملك قوت يومه.
فعاث الجنود في البلد فساد والبلد نفسها كانت تشكو الفاقة وكانت دولة المهدية في ذلك الوقت قريبة من نهايتها، شبه منهارة، ولم يكن عند الناس أي شيء.
فعاث الجيش في البلد فسادا، ويقال أنهم أكلوا ما عند الناس، وكان الجندي أو الجندية الأنصارية يترك إحدى حاجياته في بيت ما فيما يعني انه سيجيئ لتناول طعام العشاء فيه. وليس بالضرورة بيتا واحدا، فكان أحدهم يضع بعض حاجياته في ثلاثة أو أربعة بيوت، فهو يريد أن يتعشى عند هذه الأربعة أسر، الذين لا يملكون قوت يومهم، ومع ذلك استطاع الناس أن يكافحوا ويصبروا.
من أشهر الحكاوي، والناس طبعا في أشد الظروف يبحثوا عن النكتة أو القصص المضحكة، أن أحد الجهادية جاء لامرأة لا تملك شيئا اسمها البتول من أهالي الحجير وولدها مشهور باسم محمد ود البتول، ووضع عصاة أو شيء من هذا القبيل، على اعتبار أنه سيتعشى عندها في الليل... وفعلا جاء، وفي ذلك الزمان طبعا لا توجد طواحين، ولا دقيق ويعني ذلك أن الناس كانوا يحتاجون لزمن ليطحنوا العيش، ويعوسوه، زمن طويل حتى يجهزوا الطعام فصارت البتول تترجاه وتقول له: (يا أخينا في لبن، أديك لبن؟) ... فانتهرها قائلا:
- (انا كديس تعشيني بي اللبن؟)
فطحنت وعاست وجهزت الأكل، وناولته له. وأكل، ولكنه قال لها:
- (كدي لبنك البتتشكريبو دا جيبي لينا نشوفو!)
وكانت هذه من النكات التي تداولها الناس. وعلى ذكر ولدنا او أخونا سيد أحمد الخضر لخور سكينجة وهو وادي يصب من الصحراء في النيل، ومخرج الوادي صار دلتا فيه أشجار وغابات وأشياء، ويقال أن الناس في النهارات كانوا يختبئون في غابات خور سكينجة لأنهم كانوا عراة، ليس لديهم ما يلبسون ويخرجوا في الليل يبحثوا عن أرزاقهم.
وانا زرت خور سكينجة، وأعرفه جيدا فقد رعيت غنمي فيه، وفيه (خور ابو الرقيع) أو خور الخفاش، فيه مادة اسمها المغر (الجير الأحمر). والخور يمتاز بخاصية غريبة جدا فالمياه السطحية فيه على عمق أقل من نصف متر، وبمجرد ان تبدأ الحفر ينبعث لك الماء من الحفرة. ولا أعرف ما إذا كانت هذه الخاصية (الموية القريبة) لا تزال موجودة في خور سكينجة أم انتهت.
وبالنسبة للمراجع فهي نادرة وهي قصص تحكى تناقلتها الاجيال شفاهة، ولا توجد كتابات ولكن بابكر بدري ألف كتاب اسمه (تاريخ حياتي) وثق فيه لود بشارة ولمعركة توشكي، كتاب جيد جدا جدا لبابكر بدري، والذي كان صريحا فيما كتب مع أنه كان رجل أنصاري وكان جنديا في جيش ود بشارة... ولكنه كان صريح صراحة جارحة في بعض الاحيان.
تحدث عن كل المصائب التي حدثت وتحدث عن السرقات، وعن الناس الذين أكلوا الحمير وآخرين أكلوا جلود الحيوانات وعن كل هذه المسائل.
ساقية سكينجة، هي آخر ساقية في حدود ناحية المقل الجنوبية. (وتقع قريتنا المقل في شرق النيل، وهي في الأساس الضفة الغربية له، واختلاف الاتجاهات هذا يعود لانعكاس جريان النيل من الشمال إلى الجنوب، في منحناه قبل أن يعاود السريان شمالا)، وتليها ساقية ود بابكر أول ساقية في ناحية الحجير. وسكينجة آخر ساقية في المقل وهي حوالي 27 ساقية تبدأ من الحليلي وتنتهي بسكينجة. والناس هناك أهل وجيران مع أن من كانوا يقدرون على مواجهة المعيشة كانوا قليلي العدد.
وبعد دخول الانجليز كانوا يرسلون صنادل نهرية لتأخذ المغر من سكينجة... وكان يفرضون على السواقي، كل على حدة، إرسال شخص للعمل في تعبئة وشحن المغر في نظام عمل يسمى (السخرة) وهو العمل بدون أجر ولا أي مقابل وبالقوة... وكان الناس يتهربون من هذه السخرة ويتداولون حولها الحكايات.
وقد بذلت جهدا لمعرفة ماهية هذا المغر وماهي استخداماته وكيف يفيد منه الإنجليز؟ فأرسلت عينات لمركز الاستشارات الصناعية بشمبات ومعهد أبحاث البناء والطرق بجامعة الخرطوم ولكن بلا جدوى، والمغر نفسه طينة غريبة توجد في شكل كتل، كوم هنا وكوم هناك، والأرض نفسها كانت غريبة جدا، فيها ما يشبه الشق (Crack) يمتلئ بالمياه خلال الفيضان بالنز ويسمي حفرة النز. وفيه مياه شديدة الملوحة كريهة الرائحة، وعندما ينحسر النيل يجمع الناس العطرون من هذه المنطقة.
ويستخدم العطرون كعلاج للعديد من الامراض: وجع العيون ووجع الرأس وأمراض أخرى.
وقد حكت جدتي بت نعمي التي عاشت حوالي مائة عام عن حفرة النز فقالت: (في هذه الحفرة أغرق ود عمارة بربط حبل في عنقه وإدخاله في الحفرة). وود عمارة شخص اشتهر بأنه قد اكل ابنته.
وفي هذه الفترة داهمت رجرجة ود بشارة البلد وقضت على الأخضر واليابس فيها. وحاول عقلاء الناس أن يقنعوهم بعد خرط التمر وهو أخضر لأنه لن يفيد أحد. ولكن خرطوه وعبئوه في جولات وبالطبع عفن فتخلصوا منه في الطريق. وبعدها مباشرة حدثت المجاعة.
الشاهد، أن ود بشارة أرسل إلى الشمال لأن ود النجومي شكى من مسلم قيدوم وهو حاكم ووالي منطقة دنقلا. وكان قد رفض ان يسير جيشه مع حملة عبد الرحمن النجومي وقال له: (اذهب انت وانا سأمدك بكل ما تحتاج). ولما لم يف بالوعد. فشكى ود النجومي إلى أن أرسل الخليفة جيش ود بشارة وهو أحد أمراء المهدية لحل الاشكال، كما ذكرنا، ولكن ود بشارة لم يرافق حملة النجومي.
وواصل النجومي حملته، وبعض الناس دفنوا سيوفهم في الأرض لأنهم عجزوا عن حملها. وقد أحسن بابكر بدري في توثيقه في كتابه (تاريخ حياتي) توثيقا شامل وكامل وأمين وكان شاهد عيان.
اما جيش النجومي فقد انصلم وصار انصاره يفرون منه بعض منهم ذهب إلى مصر وبعض آخر حاول العودة وآخرين هاموا على وجوههم في الصحراء، وهكذا انتهى جيش النجومي. أما النجومي نفسه فقد مات في توشكي ودفن هناك، وما حدث لهذا الجيش وأين ذهب بالضبط غير معروف حتى الآن.
وهنا اتضح للأتراك ضعف الدولة المهدية وانكشفت قدراتها فقد كان هذا الجيش يمثل نموذجا لجيوش المهدية في المناطق الاخرى. يقول بابكر بدري: (عندما وصلوا توشكي كانوا في غاية الجوع والعطش فاندفعوا نحو البحر- النيل- حيث غرق بعضهم وظهرت باخرة واحدة منعت الجميع من ورود الماء وكانت تقتل كل من يقترب من النيل فصار الناس يشربون ليلا ويمتنعون نهارا لتفادي الرصاص لأن الباخرة كانت تتحرك يمينا ويسارا وهي لهم بالمرصاد).
وهذا هو كل المعلوم عندي عن كسرة ود بشارة.
اما كسرة المك نمر فقد بدأت عندما أرسل محمد علي باشا ابنه إسماعيل على رأس جيش لجلب الذهب والعبيد. وكان محمد علي في انتظارهم في القلعة بمصر. ولكنه لم يجد ذهبا ولا عبيد. فعاثوا في الأرض فسادا وتخريب. وتفتق ذهن إسماعيل باشا أن يضغط المك نمر مك الجعليين أن يدبر لهم كمية من الذهب وعدد من العبيد والخيل. وعندما حاول المك نمر أن يوضح للباشا استحالة تلبية طلبه لطمه بالغليون وهو لا يدرك انه قد لطم مك الجعليين، الأمر الذي لن يمر بسلام ابدا. فجمع المك نمر رجاله ودبر (كتلة) مقتلة لإسماعيل وجندة حسب ما هو معروف. ثم انكسروا إلى جهة الحبشة والقضارف في شرق السودان ولم يعودوا بعدها. ولا يدري أحد ماذا حدث لهم بعد ذلك بالضبط. ويقول بعض الناس ان الجعلتيين في إثيوبيا هم من نسل المك نمر وأنصاره.
وفي تكملة لتلك الرواية فإن المك نمر والكثير من اتباعه هربوا الي إقليم غوندار في اثيوبيا حيث سميت المنطقة التي استقروا فيها بالمتمة الاثيوبية ويوجد فيها قبره وقبور الآخرين من السودانيين الذين دخلوا معه الحبشة واستقروا وتزاوجوا مع الاثيوبيين.
اما كسرة المك نمر فقد كانت تحسبا وخوفا من حملة الدفتردار (صهر محمد علي باشا) الانتقامية وفظاعاتها التي سجلها المؤرخون وحكت عنها كتب التاريخ. وكانت الكسرات بتلك الصورة الكريهة حيث الفوضى فلا توجد سلطة ولا ادب.
أما (الكتلة) فهي المقتلة، وهي أحد انواع العقاب، وتنفذها جهة تملك القوة لإبادة أهل منطقة بعينها.
عبد الله ود سعد ملك الجعليين بعد المك نمر بعد حوالي ثمانين سنة... وفي زمنه انتقلت المملكة من شندي إلى المتمة، والجيش الغازي بدأ تحركاته في الشمال وحاول عبد الله ود سعد ان يجري معهم بعض الاتصالات، فاتهمه المهديون وصدر الأمر بإبادة الجعليين رجالا ونساء قتلا وليس اعتقال.
والفرق بين الكتلة والكسرة ان الناس تحاصر وتباد في الأولى بينما في الثانية ان الناس يهربون ويتركوا ديارهم ينعق فيها البوم.
amsidahmed@outlook.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی التاریخ
إقرأ أيضاً:
إما ازدواج طريق «المطرية- بورسعيد».. أو إغلاقه!
** لم يعد مقبولاً، أن تسكت الحكومة، عن خطورة طريق بحيرة المنزلة، الواصل بين محافظتى الدقهلية وبورسعيد، ليس بسبب كارثة «الأربعاء» قبل الماضى وحسب، التى حصدت أرواح 13 من شهداء لقمة العيش، ودونهم 22 مصاباً، ولكن بسبب تكرار سقوط ضحايا، بمعدلات غير مسبوقة، فى سجلات حوادث الطرق عامة، ولو أن الحكومة معنية بسلامة الناس، ما كان رئيس هذه الحكومة، الدكتور مصطفى مدبولى، قد تأخر عن مواساة أهالى الضحايا، والتخفيف من صدمة فقدان أبنائهم، إن كانوا ممن يخاطبهم مثل باقى المصريين بـ«أهالينا»، إنما أولئك الناس البسطاء، كما لو كانوا، على هوامش الـ«أهالينا» فى العاصمة والمناطق المهمة، عند الدكتور «مدبولى».
** وفى نفس الاتجاه، ليس كافياً ما تحدث به أى من اللوائين، محب حبشى، محافظ بورسعيد، أو طارق مرزوق، محافظ الدقهلية، عن إجراءات عاجلة، تتعلق بوضع كتل خرسانية، فى بداية الطريق ونهايته، لمنع مرور سيارات النقل الثقيل، من دون اتخاذ القرارات القاطعة، لمحاسبة من كان وراء رفع هذه الكتل الخرسانية، التى كانت موجودة قبل الحادث، سواء من الإدارة المحلية أو من إدارة المرور، أو التحرى عما إن كانت «مافيا» السائقين للنقل الثقيل - هذا ما ينتظر الناس معرفته - وإيقاع العقاب المشدد على المتورطين، وليس مجرد قرارات وقتية، بإنارة الطريق وصب مطبات صناعية.. إلخ، وكانها أنهت خطر الطريق، الذى لم يشهد تحركات المحافظَيِن، إلا بعد وقوع الكارثة.
** أنا لا أقلل من جهد وجدية المحافظين «حبشى» و«مرزوق»، وأفهم حدود المسئولية لديهما، ومن هذه البديهية، كان عليهما الالتقاء فى وسط الطريق، ومعهما فريق متخصص فى الطرق، والبحث فى الأخطاء الإنشائية لهذا الطريق، والعمل على تقارير هندسية، توصى الحكومة بتخصيص ميزانية سريعة، لازدواج الطريق - وهو لا يتعدى طوله الـ17 كيلو متراّ- وتطبيق أعلى المعايير الفنية قى التنفيذ، وتوفير «حارات أمان» على الجوانب، لتأمين أى مركبات تتعطل، حتى لا تكون مشاريع حوادث، فى حال توقفت على الأسفلت، هذا هو المهم «العاجل»، وليس مجرد علاجات سطحية، لترضية المكلومين على أبنائهم «الضحايا»، إما ذلك أو تغلقونه تماماً، حتى لا يسقط ضحايا آخرون.
** صحيح.. أنه الطريق الذى انتظره الناس طويلاً، لكن كان حلم هذا الطريق، أن يكون ضمن خطة الدولة، للنهوض بشبكة الطرق المصرية، وليس أن يكون مجرد «حزام»، يفصل بين منطقة التعديات على أراضى البحيرة، وبين مسطح مياه الصيد الحر، وكان من الأولى، على الجهة التى تولت إنشاؤه، التنبه لكونه من أهم الطرق، التى تختصر المسافة بين مدينتى المطرية وبورسعيد، إلى 15 دقيقة تقريباً، بدلاً من 90 دقيقة عبر طريق ترعة السلام، ومن ثم يسهِل سفر الأيدى العاملة، من مراكز الجمالية والمنزلة والمطرية، لتنمية العمل فى مناطق الاستثمار فى بور سعيد، لكن بكل أسف وحزن، صاروا مشاريع شهادة فى سبيل لقمة العيش، طالما يظل الطريق على حاله السيئ.
** أعود لرئيس الحكومة، أن ينظر للناس جميعاً فى مصر، على أنهم متساوون فى الحقوق والواجبات، وبالتالى إن لمراكز الدقهلية فى الشمال، وفى المقدمة مركزى المنزلة والمطرية، الحق الدستورى والأخلاقى، أن يكون لها نصيب فى خطط الحكومة التنموية، مثلها مثل المحافظات المحظوظة، فى النهوض بكل المرافق والخدمات، التى هى على حافة الانهيار، بما فيها إعادة هيكلة الطرق، التى تربط بين المدن والقرى، وتمثل خطورة على أرواح الناس، طالما كانت متهالكة وغير مُعبَدة، وهى الفرصة التى نُذِكر فيها الدكتور «مدبولى»، بأن الخطاب الشعبى هناك، يتحدث عن هذه الحقوق الدستورية.. كما المطالب بشأن ازدواج طريق المطرية- بورسعيد.. الذى تحول إلى طريق قاتل.
[email protected]