تبنى العراق منذ العام 2003 سياسات انفتاحيه واسعة نحو العالم وسعى الى تأسيس قواعد اقتصادية وتشريعية مهمة تعمل وفق آليات نظام السوق، اذ ساعد جلها على تحسين تجارة العراق الخارجية، بعد حصار اقتصادي دام اكثر من عقد ونيف من الزمن ادى الى تهميش العراق على خارطة النظام الاقتصادي العالمي وحرمانه من فرص الاستثمار والتقدم والتنمية والمعرفة التكنولوجية التي كان ينبغي ان تعينه على مواجهة المستجدات والتطورات السريعة التي حصلت عليها الاسواق الدولية وتغيرت قدراتها التنافسية بشدة خلال العقدين الماضيين في الأقل.

وهكذا انعزل العراق عن محيطه الدولي في خضم عالم اجتاحته تيارات اندماج شركاته وتحرير اسواقه وتكاملها ولاسيما المالية منها وسيادة المذهب الليبرالي الجديد الذي اقتضى تحولات اقتصادية واسعة في مجال المعلوماتية غدت تنسجم واممية النشاط الانتاجي عبر الدور الذي صارت تؤديه الشركات المتعددة الجنسيات وازدياد الميزة التنافسية للمنتجات التي بدأت تولدها اسواق العالم .

وعلى الرغم من ذلك، نجد في تكامل الاسواق المالية التي زادت قيمة اصولها على 850 تريليون دولار، هي العنوان الرئيس للعولمة المالية وبؤرة الهيمنة الرئيسة في عالمية الاقتصاد الليبرالي الجديد وهي تمثل في الوقت نفسه ديدن الانتقال في محاور التجارة الدولية ومقدمة التحول من نطاق اتفاقية الجات GATTالموقعة في العام 1948الى اتفاقية منظمة التجارة العالميةWTO، حيث انصبت الاخيرة على تنظيم طيف واسع من تجارة الخدمات ولاسيما الخدمات المالية والتي سميت ملاحقها باتفاقية GATS في 1994بالاستناد الى جولة اورغواي.

ففي الوقت الذي لاي تعدى فيه الناتج الاجمالي و لحوالي 192 اقتصاد في العالم83  تريليون دولار سنويا في الوقت الحاضر (وكذلك لم تزد قيمة التجارة العالمية من السلع والخدمات سنويا هي الاخرى الا اقل من ثلث الناتج العالمي المذكور انفا) نجد ان التجارة في تحويل العملات والمضاربة فيها والحركات الرأسمالية قصيرة الاجل تزيد على حوالي 4ونصف تريليون دولار يوميا في الاسواق النقدية والمالية الدولية وهي تجارة مضاربة مالية يزيد مجموعها السنوي على اكثر من خمسين مرة من مجموع التجارة العالمية في نشاط السلع والخدمات .

وفي خضم هذه التبدلات في الفضاء التجاري والمالي الدولي ، انتقل العراق الى مستويات تنظيمية مهمة في التحول الى اقتصاد السوق لكسر اثار عزلته الدولية عبر الانخراط في مساحة قوية من الليبرالية الاقتصادية والتي تركزت في تحرير مجالات تجارة العراق الخارجية من السلع والخدمات وسبل تمويلها ،على الرغم من تقلب تنظيمها، و كذلك تطور واتساع مجالات التقدم الحاصل في بعض الخدمات المالية وتحسين بيئة الاستثمار الاجنبي من خلال تشريع قانوني المصارف والاستثمار وقانون البنك المركزي، بما يسمح للمصارف الاجنبية العمل في العراق ويسمح بانتقال رؤوس الاموال والعملة وعلى نحو يخدم انفتاح العراق على العالم في ظروف اقتصاد ريعي مركزي صعب المراس في تفهم ليبرالية السوق ، والتي ادت مع ذلك الى توفير فرص ايجابية واسس قانونية وتنظيمية واعدة لبيئة الاعمال العراقية.

الا ان كل ذلك لايكفي لوضع العراق على مسار المنافسة الاقتصادية الدولية.اذ مازال هناك اكثر من خمسة آلاف نص من النصوص التشريعية المعرقلة للحرية الاقتصادية ونشاط السوق، تتولى الاوساط القانونية دراستها والتي يقضي الحال تعديلها لكي يتمكن العراق من الاندماج في التجارة والاستثمار الدوليين وتهيئته للانضمام الى منظمة التجارة العالمية وفق شروط العضوية فيها كي تحصل بلادنا على شرط الدولة الاكثر رعاية ومبدأ المعاملة الوطنية.

الا ان من مفارقات الانضمام تتمحور في قضيتي النفط والزراعة اضافة الى مشكلات الانضمام الاخرى .

ففي الوقت الذي يهيمن فيه الانتاج في القطاع النفطي على نسبة تقارب 50%من مكونات الناتج المحلي الاجمالي للعراق الا ان ذلك القطاع لا يستخدم سوى 2% من قوة العمل العراقية و تشكل صادرات البلاد من النفط الخام وعوائده النسبة العظمى شبه المطلقة من الصادرات الكلية وايرادات الموازنة العامة وحصيلة البلاد من النقد الاجنبي . وازاء ذلك كله ، تستبعد منظمة التجارة العالمية النفط الخام بكونه سلعة ضمن مجموعة السلع الخام التي يتاجر بها دولياً ، وهو الامر الذي مازال يشكل جوهر التناقض في انضمام العراق الى تلك المنظمة التي تستبعد النفط الخام . ولو سمحت منظمة التجارة العالمية بأدخال النفط في الحسبان لترك السعر يتحدد بالعرض والطلب العالمي بعيدا عن كارتيل او تجمعات المستهلكين والممثلة بالمنظمة الدولية للطاقة وخطوطها وبرامجها في ترشيد الطلب على النفط . او بعيدا عن كارتيل او تجمعات المنتجين الممثلة بمنظمة البلدان المصدرة للنفط ( اوبك ) ودورها في تقنين الانتاج والتأثير على الاسعار ، وهو الامر الذي وضع قيودا سعرية وكمية لسلعة تجارية ولكن ستراتيجية وسياسية في الوقت نفسه والتي تعد القوة المحركة لتجارة العراق الخارجية .

وعلى الطرف الاخر من الاقتصاد العراقي، نجد القطاع الزراعي الذي يضم اقل من ثلث سكان العراق وحوالي 22% من قوة العمل العراقية ولايساهم في الناتج المحلي الاجمالي الا بنسبة لاتتعدى 5% مما جعل البلاد مستورد شبه صافي للغذاء اوالسلع الزراعية التي تزيد قيمة استيرادات البلاد منها على 14 مليار دولار سنوياً وان هذا القطاع المهم الذي تعرض للعسكرة والاهمال على مدى الاعوام الثلاثين ونيف الماضية ، لايمتلك المقومات الكافية في توفير الامن الغذائي من الحبوب او مستلزمات الانتاج الزراعية بعد تقلص المساحات الزراعية المنتجة بفعل التصحر والتملح وازمة المياه الاخيرة التي حذفت مايزيد على 50% من الاراضي المعدة للزراعة أضافة الى تدهور البنية التحتية الزراعية التي تهيمن الدولة على 83% من مكوناتها كسلعة عامة .

وهنا يتناقض القطاع الزراعي مع القطاع النفطي هيكلياً في اتجاهات الانفتاح على السوق العالمية وبجناحين مختلفين من حيث تأثير المنافع والتكاليف التجارية . فقد اصبحت قوى السوق الدولية او العرض والطلب العالمية تتحكم بقوة ، سواء في الطلب على النفط وتأثيره على قيمة الصادرات العراقية او في عرض المواد الغذائية وتأثيرها على كلفة استيرادات العراق منها .

وعند الرجوع الى فلسفة خفض القيود الكمركية بنسبة تبلغ 24% والغاء القيود غير الكمركية وهي الشروط التي تفرضها منظمة التجارة العالمية على الدولة العضو في مجموعة البلدان النامية للعمل بها وتطبيقها خلال مدة ست سنوات من تاريخ الانضمام ، فضلا عن خفض الدعم الزراعي بنسبة 13.3% خلال مدة عشر سنوات من الانضمام .نجد ان تلك الشروط التنظيمةً لمنظمة التجارة العالمية تصطدم مع شروط واوضاع السوق الزراعية وبورصة المواد الغذائية العالمية نفسها. فأذا ما نظرنا الى الاحتكارات الزراعية في العالم إزاء تدهور التنمية الزراعية في العراق ، نجد تهديداً حقيقياً للامن الغذائي الوطني يقيد البلاد في حالة الانضمام الى المنظمة ما لم يسبقه البدأ او السير في برنامج زراعي للاكتفاء الذاتي فوراً ونحن حقا سنكون بحاجة الى ثورة خضراء على غرار ما قامت به المكسيك والكثير من بلدان امريكا اللاتينية . خصوصا اذا ماعرفنا ان هنالك ما بين 3 الى 6 شركات احتكارية كبرى في العالم تسيطر على 80 الى 90% من تجارة المحاصيل الزراعية والتحكم بالاسعار والكميات مثل الحنطة والسكر والشاي والقهوة والقطن والجوت ... الخ. في وقت مازالت تهيمن عشر شركات متعددة الجنسيات على ثلث انتاج وتجارة البذور والمبيدات في العالم .

وعلى الرغم مما تقدم فأن دخول العراق و الانتظام في الفضاء الاقتصادي العالمي عبر منظمة التجارة العالمية وتعامله مع المجموعات الدولية بشروط تسري على الجميع من الناحية الشكلية في وقت مازال فيه العالم منقسم بين دول الشمال والجنوب او دول المركز الصناعي المتقدم والمحيط النامي ، فما على العراق من خيار في مغادرة عزلته الدولية التي ورثها منذ الحصار الذي بدأ في العام 1990 والذي وضع العراق تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة او ذيوله ، وهو الفصل الذي مازالت آثاره توفربيئة اقتصادية سالبة معادية للتنمية وربما معرقلة للاندماج الطبيعي في السوق العالمية. حيث يحظر هذا الفصل مستويات من الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة اوالتعاطي ميسر فيها مع العالم بسبب مايفرضه من قيود على بلادنا بكونها من البلدان عالية المخاطر ومهددة للسلم العالمي واباحة استخدام القوة ضده في آرث مؤسف على حضارة وادي الرافدين على الرغم من زوال الاسباب الموضوعية التي فرض الحصار الاقتصادي بموجبها على العراق .منوهين بأن انضمام العراق الى مناطق اقتصادية اقليمية ، كمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وغيرها من الاتفاقات الاقتصادية في نطاق الجامعة العربية او غيرها من اشكال التكامل والاندماج الاقليمي ، لابد من ان تضع في الاعتبار تنفيذ الاحكام الواردة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية ومن قبلها اتفاقية الجات والتي اصبح كلاهما قيداً ملزماً على تنفيذ الاتفاقيات التجارية . وبهذا فأن اية تسهيلات تجارية في اطار الاتفاقيات الاقليمية تصبح دون فائدة او قيمة اذا كانت هي ما دون التسهيلات المقدمة في اطار منظمة التجارة العالمية .

ختاما ، ان بقاء العراق منعزلا عن محيطه الدولي سيكلفه الكثير بسبب فقدانه للمزايا والفرص التنظيمية والمنافع التكنولوجية والقانونية والمجالات الاخرى في الاستثمار والتحكيم ، وهي الفرص التي لايوفرها له الانعزال عن العالم ولايمكن من التحول التدريجي الى مجموعة البلدان المستقرة والقليلة المخاطر ، ذلك التحول الذي يشجع على التعاون الدولي في بيئة استثمارية وتجارية عالمية امنة شريطة البدأ بتنمية فاعلة تقوم على برنامج الدفعة القوية.

المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز

كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار مظهر محمد صالح

إقرأ أيضاً:

"المالية" تنظم ندوة مع منظمة التعاون الاقتصادي حول الضرائب الدولية

نظمت وزارة المالية بالتعاون مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، اليوم الأربعاء، ندوة حول الضرائب الدولية، في دبي، بمشاركة مسؤولين حكوميين وخبراء اقتصاديين وممثلين عن قطاعات الأعمال والاستشارات من 12 دولة تناقش مجموعة من المواضيع في مجال الضرائب الدولية.

وتأتي الندوة في إطار مذكرة التفاهم بين الوزارة والمنظمة، والتي تهدف إلى تسهيل تطوير شبكات الاتفاقيات الضريبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمساعدة على تبني الأحكام الضريبية الدولية الرامية إلى تلبية احتياجاتها الاقتصادية التكاملية، وتعزز الفهم المتبادل للقواعد واللوائح الضريبية الدولية، يشمل ذلك أحكام تسعير التحويل، التي غالباً ما تكون لها آثار متعددة الاختصاصات القضائية على كل من الشركات والمؤسسات الضريبية.

حضر الندوة، يونس حاجي الخوري، وكيل وزارة المالية، وممثلون عن الهيئة الاتحادية للضرائب، ووزارة الخارجية، ودوائر المالية المحلية في دبي وعجمان والفجيرة.
وخلال افتتاحه أعمال الندوة، قال يونس حاجي الخوري: "تمثل هذه الندوة التي تم تنظيمها بالتعاون مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، منصة حيوية لتبادل الخبرات وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، مما يساهم في تطوير نظم ضريبية شفافة ومرنة قادرة على الاستجابة للتحديات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية، لقد أتاحت الندوة فرصة مهمة لمناقشة القضايا الضريبية ذات الأهمية العالمية وتبادل التجارب، كما تجسد التزام دولة الإمارات ببناء نظام ضريبي يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية، ويسهم في تعزيز موقعها كمركز عالمي للأعمال، بما يواكب التحولات السريعة في الاقتصاد الرقمي، ويساعد في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة".

نقاشات متنوعة

وتتضمن جلسات الندوة نقاشات متنوعة حول عدد من الموضوعات الجوهرية، حيث تركز على آليات تنفيذ الاتفاقيات الضريبية، بما في ذلك قاعدة الخضوع للضريبة من الركيزة الثانية التي أصدرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وعلى أحكام تسعير التحويل بما في ذلك توثيق التسعير التحويلي وتقييم المخاطر. وتوفر الندوة فرصة لبناء حوار إقليمي بشأن سياسة وتطبيق الاتفاقيات الضريبية، فضلاً عن المسائل الضريبية الدولية ذات الصلة التي تواجه واضعي السياسات الضريبية، وتتناول آخر تطورات تآكل القاعدة وتحويل الأرباح 2.0 (BEPS) والجوانب التقنية الكامنة وراء عمل الإطار الشامل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومجموعة العشرين، بما في ذلك العمل على معالجة التحديات الضريبية الناشئة عن رقمنة الاقتصاد، كما قدمت وزارة المالية خلال الجلسات عرضاً حول تجربتها في تطبيق الاتفاقيات الضريبية وآخر التطورات في هذا المجال.

وحدة الاتفاقيات الضريبية

وأدار جلسات الندوة نخبة من الخبراء الدوليين من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وهيئة الإيرادات والجمارك في المملكة المتحدة، حيث أدار إيف فان بروسل، مستشار في وحدة الاتفاقيات الضريبية والتعاون الدولي بمركز السياسة والإدارة الضريبية التابع للمنظمة، عدة جلسات حول المبادئ الأساسية للمعاهدات الضريبية وقاعدة الخضوع للضريبة، بينما قدم كينجيرو توميتا، مستشار أول في وحدة التسعير التحويلي التابعة لشعبة الضرائب عبر الحدود والضرائب الدولية في مركز السياسة والإدارة الضريبية التابعة للمنظمة، جلسات حول تطور تسعير التحويل وأهمية توثيقها في الاقتصادات الدولية. كما قدمت ديبرا إيفانز، أخصائية تبادل المعلومات والسلطة ذات الاختصاص في إدارة الضرائب – هيئة الإيرادات والجمارك في المملكة المتحدة، جلسة حول تقييم المخاطر المرتبطة بالتسعير التحويلي، ويتابع الخبراء غداً مناقشة عدد من المحاور التي تم طرحها خلال الندوة.

مقالات مشابهة

  • منظمة الأمم المتحدة للسياحة تعلن انضمام قلاع أبو نقطة في طبب التاريخية ضمن أفضل القرى السياحية لعام 2024
  • المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: التعدي على المنشآت الصحية يعتبر جريمة حرب
  • الصحة العالمية: عام 2022 شهد إصابة 130 ألف سيدة بسرطان الثدي و53 ألف حالة وفاة
  • “العفو الدولية”: أنظمة أسلحة فرنسية في السودان تنتهك الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة
  • أنظمة أسلحة فرنسية تنتهك الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة في السودان
  • د. المعلم يلتقي المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا
  • «المالية» تنظم ندوة مع «منظمة التعاون الاقتصادي» حول الضرائب الدولية
  • "المالية" تنظم ندوة مع منظمة التعاون الاقتصادي حول الضرائب الدولية
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟
  • «العمل الدولية»: الوضع الإنساني في لبنان بلغ مستويات غير مسبوقة