صدرت مؤخراً تصريحات متفائلة تشير إلى أن الجهود الدبلوماسية المبذولة لإبرام صفقة لتبادل الأسرى بين الكيان الصهيوني وحركة حماس توشك أن تثمر.
يعود هذا التفاؤل بشكل أساسي إلى المرونة التي أبدتها حركة حماس في تعاملها مع تعديلات كانت الإدارة الأمريكية قد اقترحت إدخالها على خطة بايدن المعلنة لوقف الحرب في قطاع غزة؛ فبعد تسلم الوسطاء رد حماس على هذه التعديلات، وقيامهم بإحاطة الأطراف المعنية علماً به، اعتبرته إدارة بايدن رداً مشجعاً من شأنه أن يساعد على إطلاق جولة جديدة من المفاوضات، وهو ما حدث بالفعل.
خلال الأيام القليلة الماضية، استقبلت القاهرة والرياض وفوداً أمريكية وإسرائيلية وفلسطينية، وعقدت اجتماعات عديدة لمناقشة جوانب مختلفة من تفاصيل الاتفاق المنشود. لذا، يعتقد على نطاق واسع أن جولة المفاوضات الحالية ستكون حاسمة، وستفضي على الأرجح إلى اتفاق ينهي حرباً هي الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
تقضي الحكمة التعامل بحذر مع موجة التفاؤل الجديدة، وخصوصاً أنَّ الفجوة بين المواقف المعلنة لكل من حركة حماس والحكومة الإسرائيلية لا تزال واسعة جداً، فضلاً عن أن نتنياهو الذي يدرك بوضوح أن وقف الحرب لا يصب في مصلحته، بل وقد يؤدي إلى انهيار حكومته وفقدانه منصبه كرئيس لوزراء الكيان، لا يزال قادراً على المناورة، ومن ثم فربما ينجح في تخريب جولة المفاوضات الحالية، مثلما نجح من قبل في تخريب جولات سابقة.
وحتى بافتراض فشله في تخريب الجولة الحالية ونجاح الضغوط المحلية والإقليمية والدولية التي تمارس للتوصل إلى اتفاق يفضي ليس إلى وقف دائم لإطلاق النار فحسب، إنما أيضاً إلى انسحاب كامل لقوات الاحتلال الصهيوني من قطاع غزة، فلن يكون ذلك كافياً لحل كل القضايا الإشكالية العالقة، وخصوصاً ما يتصل منها بمستقبل القضية الفلسطينية وبالطريق الذي يتعين أن تسلكه عقب توقف القتال.
حين خططت حماس لإطلاق وتنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، لم تستهدف القيام باستعراض عسكري أو لإثبات قدراتها القتالية، إنما أرادت التأكيد أن الشعب الفلسطيني لن يستسلم للاحتلال الصهيوني، وسيظل مصمماً على مقاومته إلى أن يتمكن من دحره نهائياً.
ولأن حماس تدرك يقيناً أن هدفاً على هذا المستوى من الطموح لا يمكن أن يتحقق عبر معركة واحدة، فقد كان من الطبيعي أن تصبح لعملية “طوفان الأقصى” أهداف أكثر تواضعاً تثبت من خلالها أن جيش الكيان الصهيوني قابل للهزيمة، وأن باستطاعة المقاومة الفلسطينية المسلحة إجباره على تحرير الأسرى القابعين في سجونه، وأن القضية الفلسطينية لم تمت، ولا تزال قادرة على أن تتصدر جدول أعمال النظامين العالمي والإقليمي من جديد.
أما الكيان الصهيوني الذي تعرض جيشه وأجهزة أمنه للإهانة والإذلال يوم 7 تشرين الماضي، فقد جاء رد فعله انفعالياً وانتقامياً وعشوائياً إلى درجة جعلته يتخبط وينتقل من هزيمة إلى أخرى أشد قسوة، فقد قرر شن حرب شاملة هدفها الحقيقي تدمير قطاع غزة وإبادة جميع سكانه أو إجبارهم على الرحيل، ضارباً بذلك عرض الحائط بكل القواعد والقوانين والأعراف والمؤسسات الدولية.
أما أهدافه المعلنة فهي: تحطيم القدرات العسكرية لحركة حماس، وإنهاء حكمها لقطاع غزة، واستعادة المحتجزين لديها، وإعادة احتلال القطاع واستيطانه، أو على الأقل فرض سيطرة أمنية دائمة عليه للحيلولة دون تكرار “الطوفان”.
لقد أثبتت أحداث الأشهر التسعة الماضية أن الأهداف التي سعت حماس لتحقيقها من وراء عملية “طوفان الأقصى” هي أهداف واقعية تماماً، وبالتالي قابلة للتحقيق على أرض الواقع. أما الأهداف التي سعى الكيان الصهيوني لتحقيقها من وراء عملية “السيوف الحديدية”، فهي أهداف مستحيلة، وبالتالي غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع؛ فعبر صمودها أكثر من تسعة أشهر أمام آلة الحرب الصهيونية، نجحت المقاومة الفلسطينية المسلحة في إثبات أن جيش الكيان قابل للهزيمة فعلاً، وفي إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التي تم وضعها من جديد على رأس جدول أعمال النظامين الإقليمي والعالمي، ولا تزال تحتفظ لديها بأعداد من الأسرى الإسرائيليين، جنوداً ومستوطنين، تكفي للضغط من أجل إخلاء السجون الإسرائيلية من كل الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.
في المقابل، ثبت بالدليل القاطع أن أهداف الكيان الصهيوني من شن الحرب الشاملة على قطاع غزة مستحيلة التحقيق، وخصوصاً بعد اعتراف جنرالاته مؤخراً بأن القضاء على حماس أصبح هدفاً غير قابل للتحقيق، وسوف يحتاج تحقيقه في أحسن الأحوال إلى سنوات طوال.
ولأنهم باتوا مقتنعين باستحالة تحرير “الرهائن” عن طريق القوة، فقد بدأوا يطالبون بعقد صفقة فورية لتبادل الأسرى “مهما كان الثمن”، ما اضطر نتنياهو في النهاية إلى إرسال وفد للتفاوض حول صفقة جديدة، علماً أنه ما زال يكابر ويصر على رفض الوقف الدائم لإطلاق النار قبل أن تتحقق جميع أهدافه، بل وصرح مؤخراً، حتى إبان وجود وفده في قطر، بأنه لن يقبل بأي صفقة تؤدي إلى تكببيل يديه عن مواصلة استخدام القوة المسلحة في مواجهة حماس إلى أن يتحقق له “النصر المطلق”، بل وراح يفرض شروطاً جديدة في محاولة واضحة لعرقلة الصفقة.
لا أستبعد شخصياً أن تؤدي الضغوط المحلية والإقليمية والدولية المتصاعدة إلى إجبار نتنياهو على قبول صفقة بشروط حماس أو بنسخة معدلة وقريبة منها، غير أن السؤال الذي ينبغي أن ننشغل جميعاً ومنذ الآن بالبحث عن إجابة له يتعلق بمرحلة ما بعد الوقف الدائم لإطلاق النار، فنحن نعلم يقيناً أن حماس، ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، لن تفرط في ورقة الأسرى المحتجزين لديها، وبالتالي لن تقبل بإطلاق سراحهم جميعاً، إلا إذا ضمنت الانسحاب الكامل لقوات الجيش الصهيوني من القطاع.
لكن ماذا بعد؟ الانسحاب الكامل لن يتحول إلى حقيقة على أرض الواقع إلا إذا ارتبط بتصور محدد حول كيفية إدارة القطاع في مرحلة ما بعد الانسحاب الكامل، وعلاقة ذلك بمسار القضية الفلسطينية ومستقبلها، إذ لا يمكن عملياً تصور أن تعود الأوضاع في القطاع إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين الماضي، وخصوصاً أن عملية إعماره ستستغرق سنوات عديدة، سيحاول البعض خلالها إعادة تبريد القضية الفلسطينية والالتفاف حولها من جديد.
ولأنه يستحيل في الوقت نفسه قبول الأفكار الإسرائيلية أو الأمريكية المطروحة على هذا الصعيد، ينبغي العمل على وضع تصور فلسطيني عربي مشترك لكيفية إدارة تلك المرحلة البالغة الحساسية من مراحل تطور القضية الفلسطينية.
يتوقّع أن يستميت الكيان الصهيوني، أياً كان شكل الحكومة الذي ستتولى إدارة شؤونه في تلك المرحلة، لفرض صيغة تتيح له التدخل الأمني في القطاع كلما اقتضت الضرورة، وذلك بحجة الحيلولة دون تكرار ما جرى في 7 اكتوبر، وهي صيغة مرفوضة من الأساس، وبالتالي يستحيل قبولها.
أما إدارة بايدن، فهي تريد وضع القطاع تحت إدارة قوات عربية إلى أن يتم “تجديد” السلطة الفلسطينية وتصبح هذه السلطة مؤهلة لإدارة القطاع، وهي صيغة خطرة، ومن ثم ينبغي أن تواجه بالرفض المطلق أيضاً، لأنها تضع الدول العربية في مواجهة مسلحة محتملة مع فصائل المقاومة الفلسطينية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
لذا، ينبغي أن يكون لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، وبتنسيق كامل مع محور المقاومة، تصورها الخاص لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وعليها أن تقوم بمناقشة هذا التصور مع الأطراف العربية الفاعلة، تمهيداً لإقناع المجتمع الدولي به والعمل على تحويله إلى خطة عمل قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
ليس عيباً أن تقبل حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وجود قوات عربية في القطاع خلال مرحلة انتقالية محددة، شرط أن يكون ذلك في إطار ضوابط وشروط متفق عليها سلفاً، أهمها في تقديري:
أولاً: وضع كل من الضفة والقطاع تحت سلطة حكومة وطنية فلسطينية موحدة تشكل بالتوافق بين سلطة رام الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، على أن تكون مهمتها الأساسية تهيئة الأوضاع لإجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، تشكل في إثرها حكومة موحدة ودائمة تلتزم ببرنامج وطني متفق عليه من الجميع.
ثانياً: التحديد الدقيق للمهام الملقاة على عاتق قوات التدخل العربية، والتي ينبغي أن تشكل بالتوافق بين سلطة رام الله وفصائل المقاومة المسلحة في القطاع والدول العربية المعنية، على أن تقتصر مهمتها الرئيسية على حفظ الأمن، مع الالتزام التام بعدم المساس بسلاح فصائل المقاومة إلى أن يتم الاتفاق على دمج هذه الفصائل في جيش فلسطيني موحد ينبغي أن يواكب تشكيله قيام دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة في 1967.
ثالثاً: الدعوة إلى مؤتمر دولي جامع يعقد تحت سلطة ورعاية الأمم المتحدة، وتشارك فيه كل الدول المعنية بتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، تكون مهمته رسم خارطة طريق واضحة لإقامة الدولة الفلسطينية المرجوة، على أن يتبنى مجلس الأمن هذه الخارطة ويتعهّد بوضعها موضع التطبيق.
إذا تم التوصل خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة إلى صفقة لتبادل المحتجزين تكون مقبولة من جانب حماس، فسوف ينتقل الصراع من مرحلة الاقتتال والصدام المسلح إلى مرحلة التسويات السياسية، وهي المرحلة الأكثر خطورة وحساسية. ولأن إسرائيل ستحاول أن تحصل بالمفاوضات على ما لم تستطع الحصول عليه بالقتال، فينبغي لفصائل المقاومة أن ترفض أي اتفاق يعيدنا إلى ما قبل 7 اكتوبر أو يغلق الطريق أمام قيام دولة فلسطينية.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة المسلحة فصائل المقاومة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة الکیان الصهیونی على أرض الواقع المسلحة فی فی القطاع قطاع غزة ینبغی أن على أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
صمود غزة يفتك بـ “اقتصاد الكيان الصهيوني”
يمانيون../
يتعرض العدو “الإسرائيلي” لخسائر اقتصادية فادحة نتيجة عدوانه الغاشم على غزة، هذه الخسائر ليست مجرد أرقام، وإنما تمثل تجسيدا حقيقيا للأثر العميق لعمليات المقاومة. فقد بلغت تكلفة الحرب مستويات قياسية، حيث تأثرت قطاعات حيوية بشكل غير مسبوق، ما أثر بشكل كبير على الحياة اليومية لملايين الصهاينة.
تشير الخسائر البشرية التي تكبدها العدو إلى أن صمود المقاومة الفلسطينية أمام العدوان كان له دور محوري في إحباط المخططات الإسرائيلية. ومع تزايد التقارير التي تُظهر تدهور سمعة الاقتصاد الإسرائيلي، يبدو أن المقاومة -رغم التصعيد- قد تمكنت من فرض واقع جديد أثر في قدرة “إسرائيل” على السيطرة. لم تعد هذه الحقائق قابلة للتجاهل، خاصة مع التصريحات المتزايدة من خبراء ومحللين “إسرائيليين”، إذ يؤكدون أن خسائر الاقتصاد “الإسرائيلي” منذ عملية طوفان الأقصى حتى الآن قد بلغت حوالي 100 مليار دولار، وما زالت هذه الخسائر تتصاعد.
يعاني الاقتصاد الإسرائيلي أيضاً من تأثيرات الأحداث الحالية في غزة، التي تستنزف موارد “إسرائيل” عسكرياً وتكبّد خزينة الكيان مليارات “الشيكلات”. بالإضافة إلى ذلك، تستمر عمليات المقاومة الفلسطينية -المعززة بصواريخ ومسيرات الإسناد اليمني- في تحقيق نجاحات في العمق الإسرائيلي، في وقت تعاني فيه “إسرائيل” من الحظر البحري المستمر على حركة ملاحة سفنها والسفن المتعاونة معها في البحر الأحمر.
الكلفة الاقتصادية باهظة
في مقابلة أجرتها صحيفة “معاريف”، أدلى أفيغدور ليبرمان بتصريحات قوية ضد من يسمى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكداً أن الأخير “قاد إسرائيل إلى الدمار ولا يعرف إدارة أي شيء”. وفي إطار حديثه، أضاف ليبرمان أن نتنياهو يسعى فقط لضمان بقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة، في وقت تواجه فيه “إسرائيل” التهديدات الوجودية، وتدخل في أزمة متعددة الأبعاد هي الأعمق منذ إنشائها، تجلت في القتلى والجرحى من “الجنود” والمستوطنين، بالإضافة إلى الكلفة الاقتصادية الباهظة”.
في السياق، يكشف التقرير الصادر عن منظمة “لاتيت” للإغاثة الإنسانية أنه -بالإضافة إلى التحديات الأمنية والعسكرية الراهنة- هناك حرب أخرى، وهي “الحرب على الفقر، حيث تواجه “إسرائيل” اختباراً أخلاقياً يتطلب التضامن والمسؤولية المتبادلة. ويعد هذا الاختبار عاملاً حاسماً في تحديد مدى صمود المجتمع وقوته أو ضعفه عند مواجهة هذه الأزمات”.
وحسب صحيفتي “يديعوت أحرونوت” و”إسرائيل اليوم”، يوضح التقرير أن تكاليف المعيشة التي كانت مرتفعة بالفعل قبل الحرب، شهدت تفاقماً ملحوظاً بسبب الظروف الحالية، ما تسبب في ضغوط لزيادة الأسعار، وخصوصاً في قطاع المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية. وكشفت الأرقام أن متوسط الإنفاق الشهري للأسر المدعومة بلغ 10,367 شيكلاً (ما يعادل 2,870 دولاراً)، وهو أعلى بنسبة 1.7 مرة من متوسط صافي دخلها الشهري البالغ 6,092 شيكلاً (1,686 دولاراً).
ويظهر التقرير أن 78.8% من الأسر المدعومة من “حكومة” العدو تعاني من الديون، مقارنة بـ26.9% من عامة السكان، فيما عانى 65% من متلقي المساعدات من تدهور أوضاعهم الاقتصادية، بالإضافة إلى 32.1% من عامة الناس خلال العام الماضي. تقوم هذه الأرقام بتسليط الضوء على عمق الأزمة الإنسانية التي تؤثر على فئات مختلفة من الصهاينة.
كذلك، تشير النتائج إلى التأثير على الأطفال والمراهقين الذي أحدثته الحرب، حيث تأثرت الإنجازات الأكاديمية لـ44.6% من الأطفال المدعومين بشكل كبير مقارنة بـ1.14% في صفوف عموم السكان. بل ووجد أن خُمس الأفراد الذين تلقوا المساعدات أفادوا بأن أحد أطفالهم ترك المدرسة أو اضطر للانتقال إلى مدارس داخلية بسبب الضغوط المالية.
وبالنظر إلى فئة كبار السن من اللصهاينة، تظهر التقديرات أن 81.7% من هؤلاء المستفيدين يعانون من الفقر، و52.6% في فقر مدقع. كما يُعاني أكثر من ثلثهم (34.8%) من انعدام الأمن الغذائي الشديد، و60.4% من كبار السن المدعومين اضطروا للتخلي عن الأدوية أو العلاج الطبي بسبب عدم قدرتهم على تحمل التكاليف.
ويؤكد تقرير “لاتيت” أن العائلات داخل كيان العدو تعيش في حالة من الخوف المستمر من نفاد الطعام، وعدم قدرتها على تأمين وجبات متوازنة لأطفالها. ومع تصاعد التحديات، تنبأ مؤسس شركة “لاتيت” والرئيس التنفيذي للمنظمة بأن التوقعات المستقبلية ليست مطمئنة، حيث من المتوقع أن تؤدي الإجراءات الاقتصادية المخطط لها -مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة وشروط التأمين- إلى تفاقم معاناة الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع. هذه الوقائع تكشف عن أزمة شاملة يمر بها الكيان المؤقت.
هشاشة الوضع الاقتصادي الإسرائيلي
تشير التقارير الأخيرة من “إسرائيل” إلى أن الاقتصاد يعاني من تقلبات حادة نتيجة العدوان على غزة، ما يعكس عدم جدوى هذا العدوان بدلالة تأثيره المدمر على الاستقرار الاقتصادي حيث أصبح الكيان الصهيوني مقصداً للمضاربين الذين يستغلون الظروف الصعبة لجني الأرباح. فبدلاً من الاستقرار، تتعرض الأسواق للارتباك، ما يبرز فشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها العسكرية. تعكس تصرفات المضاربين حقيقة يأس المستثمرين وفقدانهم الثقة في مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي.
إن التحولات الاقتصادية التي يشهدها السوق “الإسرائيلي” تؤكد أن العدوان لم يحقق أهدافه، بل ساهم بدلاً من ذلك في تعزيز صمود المقاومة وزيادة هشاشة الوضع الاقتصادي في “إسرائيل”. ومن المتوقع أن تشير التطورات المستقبلية إلى استمرار هذا الاتجاه، ما يعزز الأمل في تحقيق نتائج إيجابية تعكس ما أنجزته جهود المقاومة من انتصارات مستمرة.
تستمر الأحداث في “إسرائيل” في كشف واقع اقتصادي متزعزع، حيث أدت التطورات الجارية إلى خلق بيئة مواتية للانتهازية المالية. تظهر التغيرات السريعة في أسعار العملات -مثل الشيكل- تقلبات غير مسبوقة؛ فعلى سبيل المثال، انخفض “الشيكل” بشكل حاد إلى أكثر من 4″ شيكل” لكل دولار في بداية العدوان على غزة.
هذه التغيرات تعكس عدم استقرار الوضع الاقتصادي في الكيان ، وهو ما يخلق صورة مواتية للمستوطنين الصهاينة عن انهيار النظام المالي وضعف أجهزة الإدارة الاقتصادية للكيان. كما ازدهرت التقلبات فور بداية العدوان، ومع التوصل لاتفاق مع لبنان يظل اقتصاد العدو الإسرائيلي في حالة عدم استقرار مستمر، مع تذبذبات تفوق تلك التي شهدها اليورو في ذات الفترة.
وتشير دراسات لخبراء ومحللين متخصصين في الاقتصاد الاسرائيلي إلى أن المضاربين يستخدمون أدوات مالية متطورة ومعرفة عميقة بالسوق، ما يمنحهم ميزة تنافسية لا تتوفر للآخرين. فالعديد من الصهاينة يجدون صعوبة في فهم أسباب تراجع السوق أمام الظروف الإيجابية، وهذا يُظهر الفجوة بين الخبراء والمستثمرين غير المحترفين. كلما زاد عدم استقرار السوق، زادت فرص الربح للمضاربين، ما يعكس فشلاً في “مجتمع” المستثمرين الأوسع.
الدراسات أثبتت أن السياسات الـ”حكومية” الفاشلة في معالجة الأمور داخل الكيان وخلق انقسامات عميقة في لدى المستوطنين بأنه تتحول “إسرائيل” إلى ملعب مالي مفتوح للمضاربين، حيث تسهم الصراعات السياسية والاجتماعية، ومغالطات ما يسمى بـ”الإصلاحات القانونية المتعلقة بالعدالة”، إلى عمق ما وصل إليه حال الانقسامات في داخل الكيان وما باتت تلعب من دور بالغ الأهمية في زيادة الهوة بين الاستقرار والثقة في السوق. على سبيل المثال، شهدت “إسرائيل” احتجاجات واسعة ضد هذه الإصلاحات، ما أثر على الثقة في أجهزة إدارة الكيان المؤقت وأدى إلى انخفاض في الاستثمارات الأجنبية. بينما يستفيد المضاربون من هذه الفوضى، فإن المستوطنين العاديين يشعرون بارتباك حول كيفية تأثير الأحداث على استثماراتهم ومدخراتهم.
كما تشير التغيرات الاقتصادية غير المدروسة والتي ساهمت في تفتيت الثقة ووضعت الكيان المؤقت في موقف يمكن وصفه بكونه ملعباً للمضاربين. ذلك ما أكده “عيران هيلدسهايم” المراسل الاقتصادي لموقع “زمن إسرائيل” بالقول إن “هذا التدهور الاقتصادي يسلّط الضوء على حقيقة كارثية مفادها أن سياسات الـ”حكومة” الحالية لم تخلق انقساما وصدعا داخليا فحسب، بل غيّرت أيضا وضعها الاقتصادي من قوة تجتذب العديد من الاستثمارات، إلى ملعب مالي للمضاربين من جميع أنحاء العالم، ممن يستغلون عدم الاستقرار والاضطرابات التي تمر على “إسرائيل” لجني الأرباح” وفق مراسل المقع.
مشيرا إلى أن المضاربين -المعروفون بقدرتهم على اتخاذ قرارات سريعة- يعتمدون على تحليل التغيرات اللحظية في السوق. على سبيل المثال، يمكن للمضاربين “شبه أسماك القرش” أن يستفيدوا من الأخبار غير المؤكدة، مثل الشائعات حول التوصل إلى اتفاقات سياسية أو عسكرية، ليشتروا الأصول قبل أن ترتفع قيمتها. وقد أظهرت البيانات أن البنوك الكبرى مثل “جيه بي مورغان” و”غولدمان ساكس” قد حققت أرباحا كبيرة من تلك التغيرات، حيث توقعت تقارير أن تحقق هذه البنوك ما يصل إلى 475 مليون دولار من عمليات التداول المتعلقة بالسندات و”الشيكل”.
وأكد أن من المتوقع أن يكسب البنك الأمريكي الرائد جيه بي مورغان 70 مليون دولار من هذه المعاملات، ما يجعله أكبر رابح بين البنوك العالمية العشرة، ويشير النمو الرقمي إلى نشاط غير عادي وإيجابي في الأصول “الإسرائيلية”، وبالتحديد في عام يتسم بنشاط تداول ضعيف نسبياً، ومن المتوقع أن يسجل بنك “غولدمان ساكس” و”سيتي غروب” أرباحاً كبيرة نتيجة لذلك.
خاتمة
تشير التطورات الاقتصادية في “إسرائيل” إلى أن العدوان على غزة لم يؤد فقط إلى نتائج عسكرية غير محمودة، بل أسفرت أيضاً عن تفكيك الأساس الاقتصادي للكيان المؤقت. إن هذه البيئة من الفوضى توفر فرصة للمستثمرين المتخصصين، بينما تترك المستوطنين العاديين في حالة من الارتباك وعدم اليقين.
تتجلى قوة المقاومة الفلسطينية في غزة كرمز للصمود والعزيمة، حيث تبرز الأحداث الأخيرة مؤشراً على أن هذا الصمود يأتي في إطار الحق الطبيعي للفلسطينيين في نيل حريتهم واستعادة أراضيهم. تشهد “إسرائيل” اليوم نتائج العدوان التي تعكس الفشل في تحقيق الأهداف العسكرية، وبينما تعاني من تصاعد الفقر وأزمات اقتصادية خانقة، تتأكد حقيقة أن المقاومة لا تزال تمثل حجر الزاوية في النضال الفلسطيني.
يشير الواقع الاقتصادي في الكيان إلى أن الصمود الذي أبدته غزة لم يكن مجرد رد فعل، بل هو جزء من مسيرة طويلة نحو التمكين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، يتوجها القدس عاصمة لها. الفشل الاقتصادي الذي تواجهه “إسرائيل” اليوم هو نتيجة مباشرة لثبات الفلسطينيين ولإرادتهم في المقاومة، ما يبرز الفجوة بين ادعاءات القوة العسكرية والواقع الملموس.
في مواجهة هذه الظروف، يبقى الأمل قائماً بأن المقاومة ستكون سنداً لتحقيق الأمن والاستقرار للشعب الفلسطيني، ويجب أن يتم تعزيز هذا الصمود عبر التضامن والتنظيم، ليتمكن الفلسطينيون من العبور نحو غد مشرق ومزدهر، حيث تستعاد الحقوق المسلوبة وتُحقق الأهداف الوطنية. إن المسيرة نحو الاستقلال وبناء الدولة المستقلة على كامل التراب الفلسطيني باتت أكثر وضوحاً، في ظل هذا الصمود المتواصل.
أنصار الله – يحيى الربيعي