حرب العقول بين المقاومة والاحتلال
تاريخ النشر: 16th, July 2024 GMT
لما ينتبه الكثيرون لما حمله طوفان الأقصى من حقائق جديدة في مسيرة تراكمية للنجاحات والإنجازات التي تحققها المقاومة، وقد جاءت حرب الشهور التسعة التي أعقبت الطوفان لتحمل تأكيداً للكثير من معانيه وأبعاده، بعدما نجحت المقاومة في تحويل الحرب إلى استنزاف للاحتلال، تأقلم معها المقاومون، وتدبّروا أمورهم، بحيث حسم أمر فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهداف حربه، الى غير رجعة، ويدور القتال حول حجم الهزيمة التي سوف يُمنى بها الاحتلال، وحجم النصر الذي سوف تكتبه المقاومة.
في هذه الحرب الدائرة في غزة ومثلها التي تدور رحاها على حدود لبنان الجنوبية وصولاً الى عمق كيان الاحتلال، تأكيد للأبعاد والمعاني ذاتها، سواء لجهة فشل الاحتلال في إسكات الجبهة، أو في فصلها عن هدفها كجبهة إسناد لغزة خصوصاً في مسار التفاوض، وصار مأزق الاحتلال الذي تسبّبت به المقاومة، سواء عبر تهجير المستوطنين أو تجميد جزء هام وحيوي من جيش الاحتلال لجبهة لبنان بدلاً من إرسال هذه الوحدات للقتال في غزة، وصولاً إلى التحدي اليومي المذلّ والمهين لمهابة القوة التي كان يتباهى بها هذا الجيش، ومثل هذه الجبهة حال الجبهة اليمنية والجبهة العراقية، سواء لجهة فشل محاولات الفصل او الإسكات، أو نجاح المقاومة بخلق تحديات جديدة على كيان الاحتلال لا قدرة على التخلص منها إلا بوقف الحرب على غزة.
في النظر للتفوّق الذي تظهره المقاومة في هذه الحرب، يثبت بما لا يقبل النقاش، أن إنجازات طوفان الأقصى لصالح صورة المقاومة وقوتها ومقدراتها، بعدما كان الانطباع الذي وقع أسره الكثيرون، هو أن إنجازات الطوفان تعود لعنصر المفاجأة من طرف المقاومة، وليس إلى عناصر تتصل بالكفاءة والمهارة والقدرة على التخطيط وإتقان التنفيذ، وقد تمّ تغييب كل هذه العناصر في تقييم الطوفان ولاحقا تقييم الحرب، والاكتفاء بثنائية تلاحق المقاومة منذ نشأتها، وفي كل الميادين، وقوامها أن عنصري المفاجأة والقدرة على التضحية، هما مصدرا قوة المقاومة.
كان مفهوماً في بدايات تجربة المقاومة التركيز على قدرتها على تقديم التضحيات، وقدرة جسمها على تحمل بذل الدماء، وتسليم بيئتها الشعبية الحاضنة والداعمة بتقبل الكلفة المترتبة على المقاومة كخيار. وقد خرج عدد من المنظرين العسكريين يتحدّثون عن قوة المقاومة كثمرة لاستعداد شبابها للموت، وسقف ما يملكه أي جيش هو التهديد بالموت، فكيف تهدّد عشاق الموت به، وربما يكون قد نتج عن هذه النظرية الحديث عن ثقافة الموت، ومناهضة المقاومة بالحديث المعاكس عن ثقافة الحياة؛ بينما تجربة المقاومة تقول إنها في كل مسيرتها لن تسجل رقم المئة من الاستشهاديين، بل إنها في آخر حروبها مع الاحتلال والإرهاب في لبنان وسورية لم تلجأ الى هذه العمليات لانعدام الحاجة لها، والمقاومة تؤمن بالحياة وتحب الحياة، لكنها لا تهاب الموت ولا تخشاه عندما يكون تضحية فردية واجبة لتحيا أمة وينهض وطن، وتُحمى الأرض ويُصان العرض.
أظهر الطوفان وما تلاه على جبهات القتال، أن حركات المقاومة انتصرت في أكثر من حرب على كيان الاحتلال، وهي طبعاً كسبت عليه حرب التضحية، وربحت عليه حرب الروح المعنوية، لكن هاتين لا تختصران المقاومة ولا تفسّران تفوقها، فقد ربحت المقاومة أولاً وأصلاً حرب العقول، ومن ضمنها حرب الرواية، سواء لمفهوم الحق الفلسطيني أو لوقائع الحرب والميدان، رغم عدم امتلاكها إمكانيات إعلامية تتيح التفكير بتحدي الآلات الإعلامية العملاقة المكرسة للترويج لرواية الاحتلال.
في حرب العقول عناوين عديدة تجلى فيها تفوق المقاومة، فقد خططت المقاومة تصوراً معيناً لاجتياح غلاف غزة، ونفذت خطتها بنجاح واضح ومبهر، وخطط الاحتلال لاحتلال غزة وسحق المقاومة فيها، وهو يغرق في وحول حربه ومستنقعات الهزيمة كل يوم أكثر. وفي حرب العقول نجحت المقاومة في تفكيك شيفرات منظومات الحماية حول غلاف غزة واختراقها، بينما فشل الاحتلال في امتلاك خريطة واحدة لأنفاقها، ونجحت المقاومة بكتمان خطتها لغلاف غزة شهوراً طوال بحيث أصيب الاحتلال بالذهول والمفاجأة عند حدوث الطوفان. وفي تقنيات الأسلحة والخطط الحربية ظهرت المقاومة، في جنوب لبنان كقوة تكنولوجية متفوقة، خصوصاً في مجال التلاعب بالقبة الحديدية وتقنياتها، وتأمين المرور الآمن لطائراتها المسيرة وصواريخها، وصارت الحرب بين رجلين يجلس كل منهما أمام شاشة، واحد يتحكّم بالقبة الحديدية وصواريخها، والثاني يتحكم بالطائرات المسيّرة وخط سيرها، وحتى الآن يبدو واضحاً، أن صاحب الطائرات هو مَن يربح.
في حرب العقول تطوير الأسلحة، وها هي قذيفة الـ 105 وعبوة الشواظ تنتصران على أجيال الميركافا الأربعة، بما في ذلك ناقلة الجنود النمر، بينما تخرج المقاومة في لبنان كل يوم من ترسانتها أحد أسلحتها الجديدة التي صنعتها وطوّرتها، فتصيب العدو والصديق بالذهول، وها هي تسجيلات الهدهد الأول والثاني، تقول إذا لم تكن هذه حرب عقول فهي حرب ماذا إذن؟
والإنجاز كله فعل عقلي لا مكان للعضلات ولا التضحيات ولا المعنويات دور في صناعته، إلا من زاوية روح الإنسان الذي يستخدم عقله بطريقة مختلفة عن عدوه.
من حق المقاومة والمقاومين التركيز على هذا التفوق في حرب العقول، لأن الانتصار في الحرب ليس فقط انتصاراً للدم على السيف، بل انتصار لعقل يتقن إحدى التكنولوجيات ويقوم بصناعتها، ويتفوق على عدو تفرّد لعقود بهذه الميزة.
*رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: المقاومة فی
إقرأ أيضاً:
“هآرتس”: صور الحشود التي تعبر نِتساريم تُحطّم وهم النصر المطلق
الثورة نت
أشار المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس الإسرائيلية” عاموس هرئيل إلى أن صور الحشود الفلسطينية التي تعبر سيرًا على الأقدام من ممر “نِتساريم” في طريقها إلى ما تبقى من بيوتها في شمال غزة، تعكس بأرجحية عالية أيضًا نهاية الحرب بين “إسرائيل” وحماس، مؤكدًا أن الصور التي تم التقاطها، يوم أمس الاثنين، تحطم أيضًا الأوهام حول النصر المطلق التي نشرها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ومؤيدوه على مدى أشهر طويلة، وأكمل بالقول: “معظم فترة الحرب، رفض نتنياهو مناقشة الترتيبات لما بعد الحرب في قطاع غزة، ولم يوافق على فتح باب لمشاركة السلطة الفلسطينية في غزة، واستمر في دفع سيناريو خيالي لهزيمة حماس بشكل تام. والآن، من يمكن الاعتقاد أنه اضطر للتسوية على أقل من ذلك بكثير”.
ورأى هرئيل أن رئيس حكومة العدو، هذا الأسبوع، قد حقق ما أراده، إذ إن حماس وضعت عوائق في طريق تنفيذ الدفعات التالية من المرحلة الأولى في صفقة الأسرى، لكن نتنياهو تمكن من التغلب عليها، على حد تعبيره، موضحًا أنه: “حتى منتصف الليل يوم الأحد، تأخر نتنياهو في الموافقة على عبور مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال القطاع، بعد أن تراجعت حماس عن وعدها بالإفراج عن الأسيرة أربيل يهود من “نير عوز””، ولكن بعد ذلك أعلنت حماس نيتها الإفراج عن الأسيرة، وفق زعمه، فعلّق هرئيل: “حماس وعدت، والوسطاء تعهدوا، أن يهود ستعود بعد غد مع الجندية الأخيرة آغام برغر ومع أسير “إسرائيلي” آخر، والدفعة التالية، التي تشمل ثلاثة أسرى “مدنيين” (من المستوطنين)، ستتم في يوم السبت القادم”. لذلك، قاد تعنّت نتنياهو – ومنعه عودة النازحين الفلسطينيين – على تسريع الإفراج عن ثلاثة أسرى “إسرائيليين” في أسبوع، على حد ادعاء الكاتب.
تابع هرئيل: “لكن في الصورة الكبيرة، قدمت حماس تنازلًا تكتيكيًّا لإكمال خطوة استراتيجية، أي عودة السكان إلى شمال القطاع”، مردفًا: “أنه بعد عودتهم إلى البلدات المدمرة، سيكون من الصعب على “إسرائيل” استئناف الحرب وإجلاء المواطنين مرة أخرى من المناطق التي عادت إليها حتى إذا انهار الاتفاق بعد ستة أسابيع من المرحلة الأولى”، مضيفًا: “على الرغم من نشر مقاولين أميركيين من البنتاغون في ممر “نِتساريم” للتأكد من عدم تهريب الأسلحة في السيارات، لا يوجد مراقبة للحشود التي تتحرك سيرًا على الأقدام، من المحتمل أن تتمكن حماس من تهريب الكثير من الأسلحة بهذه الطريقة، وفق زعمه، كما أن الجناح العسكري للحركة، الذي لم يتراجع تمامًا عن شمال القطاع، سيكون قادرًا على تجديد تدريجي لكوادره العملياتية”.
وادعى هرئيل أن حماس تلقت ضربة عسكرية كبيرة في الحرب، على الأرجح هي الأشد، ومع ذلك، لا يرى أن هناك حسمًا، مشيرًا إلى أن هذا هو مصدر الوعود التي يطلقها “وزير المالية الإسرائيلي” بتسلئيل سموتريتش، المتمسك بمقعده رغم معارضته لصفقة الأسرى، بشأن العودة السريعة للحرب التي ستحل المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، ويعتقد هرئيل أن: “الحقيقة بعيدة عن ذلك، استئناف الحرب لا يعتمد تقريبًا على نتنياهو، وبالتأكيد ليس على شركائه من “اليمين المتطرف”، القرار النهائي على الأرجح في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن المتوقع أن يستضيف الأخير نتنياهو قريبًا في واشنطن للاجتماع، وهذه المرة لا يمكن وصفه إلا بالمصيري”.
وأردف هرئيل ، وفقا لموقع العهد الاخباري: “ترامب يحب الضبابية والغموض، حتى يقرر، لذلك من الصعب جدًّا التنبؤ بسلوكه”، لافتًا إلى أنه وفقًا للإشارات التي تركها ترامب في الأسابيع الأخيرة، فإن اهتمامه الرئيسي ليس في استئناف الحرب بل في إنهائها، وأكمل قائلًا: “حاليًا، يبدو أن هذا هو الاتجاه الذي سيضغط فيه على نتنياهو لإتمام صفقة الأسرى، وصفقة ضخمة أميركية – سعودية – “إسرائيلية” وربما أيضًا للاعتراف، على الأقل شفهيًّا، برؤية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية”.
وقال هرئيل إن “نتنياهو، الذي أصرّ طوال السنوات أنه قادر على إدارة “الدولة” (الكيان) وأيضًا الوقوف أمام محكمة جنائية، جُرّ أمس مرة أخرى للإدلاء بشهادته في المحكمة المركزية، رغم أنه يبدو بوضوح أنه لم يتعاف بعد من العملية التي أجراها في بداية الشهر، واستغل الفرصة لنفي الشائعات التي تفيد بأنه يعاني من مرض عضال، لكنه لم يشرح بشكل علني حالته الصحية”، مشددًا على أن نتنياهو الآن، من خلال معاناته الشخصية والطبية والجنائية والسياسية، قد يُطلب منه مواجهة أكبر ضغط مارسه رئيس أميركي على رئيس وزراء “إسرائيلي”.