لجريدة عمان:
2024-08-31@05:36:36 GMT

إيران.. وديناميكية النظام السياسي

تاريخ النشر: 15th, July 2024 GMT

مسعود بزشكيان.. الرئيس الحالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية المحسوب على الإصلاحيين، جاء إلى الحكم في 6 يوليو 2024م، بانتخابات بعد رحيل الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي، إثر تحطم طائرته بتاريخ 19 مايو 2024م. معظم التحليلات السياسية ركزت على أن الانتخابات صراع بين تياري المحافظين والإصلاحيين، وبرأيي؛ هذه قراءة لسطح السياسة الإيرانية دون عمقها، ولذا؛ علينا أن نقرأ ميكانيزم النظام في بُنيته الأساسية.

إن نظام ولاية الفقيه المتبع في إيران هو الوحيد من بين تيارات الإسلام السياسي الذي نجح في الوصول للحكم عبر ثورة شعبية عارمة عام 1979م، واستمر بزخمه السياسي حتى الآن، رغم التحديات الكبرى التي عاشها في المنطقة، ولا يزال يعيشها مع الغرب. لقد استطاع أن يطور من مؤسساته السياسية التي أثبتت أنها تخضع لسيطرة حاسمة ذات ديناميكية تواكب المتغيرات؛ داخليًّا وخارجيًّا. وبعكس تيار الإسلام السياسي العام الذي يستحضر المقولات الفقهية التقليدية؛ فإن ولاية الفقيه جاءت «ثورة» على هذه المقولات لصالح الشأن السياسي. ولفهم مدى الديناميكية التي يتمتع بها النظام السياسي الإيراني علينا أن نقرأها من خلال جميع مؤسسات النظام وتطبيقاته، ولطبيعة المقال فإنه يكتفي بأن يتطرق لبُنية النظام ممثلة في «ولاية الفقيه» و«المرشد الأعلى».

- ولاية الفقيه.. نظرية تطورت لدى مفكري إيران ومراجعها الدينيين خلال مدة طولية، حتى أثمرت تطبيقها السياسي بقيام «الحكومة الإسلامية» على يد روح الله الخميني، ولا يسع المقام أن نتتبع نشأة النظرية وحجج قيامها والاعتراضات عليها، ومدى مشروعيتها في ظل اعتماد الدستور الإيراني للفقه الجعفري السائد بإيران. ما يهمنا هنا أنها نظرية متطورة ومتحركة، ويكفي أن روح الله الخميني استطاع أن يقرّها في الدستور عام 1979م بتصويت شعبي لأول مرة في تاريخ إيران.

البعض.. يتصور أن تطبيق ولاية الفقيه يعني أن الحكم برمته يؤول إلى المرشد الأعلى للجمهورية، والواقع أن المرشد بأساسه الدستوري هو «مشرف» على التزام سلطات الدولة الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية بالدستور، مع الحفاظ على مبادئ الثورة والمرجعية السياسية للشعب الإيراني، أما ذات النظرية فهي تطبق عبر مؤسسات تدار وفقًا للدستور ولا يستأثر المرشد بها وحده.

ورغم أن النظام في إيران هو «جمهوري إسلامي»؛ بمعنى أن «الأحزاب الإسلامية» هي التي لها حق التنافس على رئاسة الجمهورية، فإن الواقع السياسي الذي فرضته ولاية الفقيه؛ أدى بالتنافس أن يقتصر على من يلتزم بخط النظرية، وهذا قيد آخر للنظام الجمهوري بالإضافة إلى شرط إسلاميته، ورغم ذلك؛ استطاع النظام أن يحافظ على ديناميكيته عبر مؤسسات صنع القرار القائمة على الشورى: مجلس خبراء القيادة، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الأمن الوطني الأعلى، وهذه المؤسسات كما أنها تحرس النظام؛ فإنها كذلك تعمل على تفعيل الدستور.

- المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية.. منصب خلقته الثورة، قبل أن تفرضه نظرية ولاية الفقيه، أو ينص عليه الدستور. فالخميني.. حدد مهمته بإزاحة الشاه وحليفه الأمريكي، وتسليم البلاد للشعب، بيد أن الأوضاع المعقدة وحماسة الجماهير أثناء الثورة جعلته يواصل وجوده السياسي؛ بكونه قائدًا للشعب ومرشدًا لولاية الفقيه. والمفترض.. أن يكون تدخله في عمل الحكومة «إرشاديًّا»، لكنه أصبح حاسمًا بحكم الكاريزما التي تشكلت للخميني عبر نضاله الطويل بقيادة الشعب نحو ثورة ناجحة، وظل الخميني رجل الثورة ولم يتحول لرجل الدولة.

بعد رحيل الخميني عام 1989م أجريت تعديلاتٌ في الدستور لانتقال إيران من الثورة إلى الدولة، منها أنه لم يشترط لمرشد الجمهورية أن يكون (الفقيه جامع الشرائط)، واكتفى بأن يكون (الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية أو المسائل السياسية والاجتماعية)، وهذه المادة ذات المرونة في اختيار المرشد أعطت ديناميكية واسعة، أهّلت علي خامنئي الذي مارس رئاسة الجمهورية عدة سنوات بأن يشغل منصب المرشد، مع وجود مرجعيات دينية أكبر منه. ومنها إلغاء منصب رئيس الحكومة، وأعطيت صلاحياته لرئيس الجمهورية، في حين تحول كثير من اختصاصات رئيس الجمهورية للمرشد.

البعض يجادل.. بأن هذا تكريس لسلطة المرشد، وهذا صحيح إلى حد ما؛ إلا أن عملية التحول من الثورة إلى الدولة اقتضت وجود قيادة صلبة لمؤسساتها، تسعى إلى توحيد الرؤية السياسية في الجمهورية. وقد أثبت الواقع أن إيران لم تجمد سياسيًّا بهذا التحول، وإنما عززت من قدراتها في إدارة مؤسسات الدولة وحضورها الدولي. وهذا لا يعني بأنه لم تظهر مشكلات من التحول.. بل ظهرت وانعكست على المستوى الشعبي بالاحتجاجات التي تندلع بين الحين والآخر، ولكن هذا الوضع له أسباب عدة؛ منها ما يعود لذات نظرية ولاية الفقيه، وظهور توجهات دينية وسياسية وشعبية ترغب بتجاوزها، ومنها أسباب عالمية كالحصار الذي فرض على إيران، وطبيعة التحولات التي توجد نتيجة «ديالكتيك التغيير». ومع ذلك؛ فإن إيران كانت لديها القدرة على الاستفادة من هذه الأسباب في مزيد من الواقعية السياسية. والوضع.. أن كل الأنظمة تعاني من التغيّرات الحاصلة، بما فيها الأنظمة الغربية التي شهدت احتجاجات، ولا تزال حبلى بالمفاجآت، وآخرها وصول اليسار للحكم في بريطانيا وفرنسا.

يجادل البعض كذلك.. بأن اختيار المرشد الأعلى تحول من الانتخاب الشعبي إلى اختياره من قِبَل مؤسسة خبراء القيادة، مما كرّس سلطته، وهذا كذلك استلزمته طبيعة التحول إلى الدولة، لضمان بقاء منصب المرشد داخل آلية مؤسسات الدولة ذاتها، فهي الضامنة لبقائه أمام عاصفة التحولات التي يمر بها الاجتماع البشري في إيران. ومع حصول إشكالات في هذا التعديل؛ إلا أنها لم تؤثر على استقرار النظام السياسي بإيران، وظلت الإشكالات متداولة بين النخبة السياسية، في حين احتفظ النظام بديناميكيته بما جعله يواكب التغيرات الداخلية والمؤثرات الخارجية.

هذه الديناميكية التي يتمتع بها النظام السياسي؛ لم تكن غائبة عن المرشد، رغم تركّز العديد من الصلاحيات العليا بيده، ويكفي أن نعود إلى الانتخابات الأخيرة، فالكثيرون يرون أن علي خامنئي رأس المحافظين، وهذا نظر لجانب محدود من العملية السياسية، ولتتضح الرؤية.. علينا أن نعلم بأن هناك محددين مهمين للتمييز بين الإصلاحيين والمحافظين.

الأول: أن الإصلاحيين هم ذوو طبيعة تغييرية.. ويرون أن الثورة جاءت للتغيير، ولا ينبغي أن نقف عند لحظتها الأولى. في حين؛ يرى المحافظون أنه لا بد أن يكون هناك وفاء للمبادئ التي قامت عليها الثورة وأسست تقاليدها، وفي مقدمتها الإيمان بولاية الفقيه.

الثاني.. أن الإصلاحيين يرون الانفتاح على العالم الخارجي.. أما المحافظون فيتحفظون على هذا الانفتاح، ويرونه بداية تدخل في الشأن الداخلي لإيران؛ قد يؤدي إلى القبول التدريجي بالليبرالية الغربية، والتي قامت الثورة ضدها.

وبهذين المعنيين لا يمكن حساب المرشد على هذا التيار دون ذاك، فدوره دائمًا هو الحفاظ على النظام، كما أن سياساته واقعية؛ سواء حكم المحافظون أم الإصلاحيون. الانتخابات الأخيرة أثبتت ما أقول، وأكدت على الديناميكية التي يتمتع بها المرشد، عندما أعلن إعطاء صوته لمسعود بزشكيان، وذلك لأنه يراه هو المؤهل لمواصلة الدور الذي قام به الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي؛ من مثل التفاوض حول الملف النووي، ورجع العلاقات مع المحيط العربي، وإعادة بناء الثقة مع الجارة أذربيجان.

ختامًا.. لا يمكن قراءة النظام السياسي بآلية الصراع بين الإصلاح والمحافظة فقط، وإنما علينا قراءته بآلية الديناميكية السياسية، وهي آلية تجعل كلا من المحافظين والإصلاحيين يكمل دور الآخر، دون النفي بأن هذا التداول قد يؤثر على مستقبل العملية السياسية. ولكن إيران قادرة على أن تعيد النظر في فلسفة نظامها وآليات عمله، باتجاه إشراك أوسع للشعب في اختيار قيادته للحفاظ على بقاء النظام وديناميكيته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النظام السیاسی المرشد الأعلى ولایة الفقیه أن یکون

إقرأ أيضاً:

الدكتور معتز عبدالفتاح: الإخوان المسلمون.. إخوان أكثر منهم مسلمون

“الإخوان المسلمون... إخوان أكثر منهم مسلمون”، هكذا لخص الدكتور معتز عبد الفتاح في برنامجه على قناة المشهد التي تبث من دولة الإمارات الجهود الإخوانية للعودة إلى الساحة السياسية المصرية.

عاد الإخوان إلى صدارة المشهد الإعلامي بعد أن كشف مذيع بفضائية "الشرق" التي تبث من تركيا، في بث له على قناته الخاصة على يوتيوب، إن حلمي الجزار نائب صلاح عبد الحق القائم بعمل مرشد الجماعة وهما مقيمان في لندن طلب منه رسميًا أن ينقل رسالة عبر قناته أن الجماعة جاهزة للتصالح مع السلطات والقوى السياسية في مصر، وقبول مبادرتها في الصلح متعهدًا بأن تتخلى الجماعة عن العمل في السياسية لمدد تتراوح ما بين 10 و15 عامًا، ونسيان ما فات منذ الإطاحة بحكم الجماعة في يونيو من العام 2013.
ورغما عن نفي حلي الجزار اللاحق ونفي وزارة الداخلية المصرية كذلك وقوع أي تواصل بهذا الشأن لكن واضح عدة أمور. 
وقبل ذلك بشهر تقريبا، كانت مجموعة من شباب الجماعة الذين يصفون أنفسهم بأنهم أعضاء في ملتقي "رشد" في السجون المصرية، نداء للمصريين وكافة فئات المجتمع المصري يطلبونه فيه بالصفح والغفران عما اقترفوه "في حق الوطن"، واصفين أنفسهم بأنهم "مجموعة من الشباب المصري، خدعوا في شعارات جماعة الإخوان الجذابة البراقة، فانضموا لها وتدرجوا في عضويتها المختلفة حتى تم سجنهم بأحكام مختلفة".
ولو رجعنا خمس سنين للخلف سنجد أن هذا ليس بجديد أيضا، لأن في عام 2019 أطلق شباب جماعة الإخوان في مصر مبادرة للتصالح مع الدولة. وتم تداول أخبار أن 1350 من عناصر الجماعة في السجون المصرية أرسلوا رسالة إلى المسؤولين في الدولة يطلبون العفو، معلنين رغبتهم في مراجعة أفكارهم التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة. 
هذا الإنقسام الأفقي بين شباب الجماعة وقياداتها يتوازى مع انقسام آخر رأسي حاصل بين جماعتين للإخوان: جماعة لندن وجماعة إسطنبول. فالجماعة التي ينتمي إليها حلمي الجزار هي جماعة صلاح عبد الحق في لندن والتي هي على خطى القائم بأعمال المرشد العام إبراهيم منير الذي كان قائما بأعمال المرشد حتى مات وأعلنت الجماعة على موقعها الرسمي على الإنترنت وعلى صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي انتخاب صلاح عبد الحق قائما بأعمال المرشد العا. وهو ما رفضته جبهة "محمود حسين" في إسطنبول التي تعلن محمود حسين قائما بأعمال المرشد العام.
وبناء على ما تقدم، استنتج الدكتور معتز عبد الفتاح أن المصريين سواء الانتليجنسيا المثقفة أو أحاد الناس أو مؤسسات الدولة قد أصدرت حكمها النهائي على هذا التنظيم الذي هو ليس في عداء مع الدولة العميقة فقط بزعم الإخوان ولكن مع المجتمع العميق أيضا. وكلمة الدولة العميقة تستخدم لوصف المؤسسات الأمنية والاستخبراتية في أي دولة. أما المجتمع العميق فهو التيار الرئيسي في المجتمع الذي لا يرى مبررا لعودة هذا الشرخ الضخم في المجتمع المصري الذي يقوم على التمايز والتمييز بين المسلم والإسلامي وكأن الإسلامي هو سوبر مسلم لأنه بزعمهم أكثر تدينا أكثر أخلاقية أكثر إيمانا أكثر أحقية بالحكم والتحكم في الدولة والمجتمع.

مقالات مشابهة

  • باحثة تكشف مفاجأة عن مغزى تغريدة المرشد الإيراني
  • رباح المهدي وصراع عودة الوعي
  • حزب المؤتمر الوطني المحلول يهاجم المبعوث الأمريكي ويتهمه ببث الفتنة
  • محلل سياسي: فرنسا تختبر نظرية ماكرون.. والرئيس بعيد تماما عن الانتماءات الحزبية
  • دراسة تحليلية: الانقسام السياسي في ليبيا أثر على النهوض بواقع القطاع الصحي
  • إيران: المشهد السياسي المتاهة.. قراءة في كتاب
  • الدكتور معتز عبدالفتاح: الإخوان المسلمون.. إخوان أكثر منهم مسلمون
  • الإخوان المسلمون.. .إخوان أكثر منهم مسلمون
  • التيار يردّ على كنعان: فوقي وحركته إعلامية استعراضية
  • الإنتخابات النيابية القادمة 2024 … أحسنوا الإختيار .