الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصية المعتقد والطقوس
تاريخ النشر: 15th, July 2024 GMT
الذي يجمع بين الأديان دائرة الإنسان، ومن دائرة الإنسان تتشكل المواطنة، فالمواطنة لا تلغي حق الإنسان في اختيار دينه، وفي ممارسة طقوسه، وفي الوقت نفسه تسع المواطنة الجميع من حيث الحقوق والواجبات، ضمن قيمتي المساواة والعدل بين الجميع.
فإذا اتسع ذلك من حيث الأديان؛ يتسع من حيث المذاهب داخل الدين الواحد، ومنها دين الإسلام، إذ يحوي مذاهب عقدية وفقهية وسلوكية وحركية وتوجهات فكرية، وجميعها تجتمع على المشتركات الكبرى في الإسلام، إلا أنها تختلف في المصدر الثاني، وأصول الاستنباط، وفي العديد من جزئيات المعتقد، وفي النظرة التأريخية لأحداث الإسلام الأول بعد وفاة النبي الأكرم، وفي العديد من القضايا الفقهية، ومدى سعة التعامل مع الاتجاهات السلوكية الصوفية والعرفانية، ثم مدى انفتاحها على القراءات المعاصرة، كل هذا أوجد تعددية في البيت الإسلامي إن صح التعبير.
الدولة الوطنية وفق رؤيتها المركزية الواحدة لا إشكالية لديها حول هذه التعددية الدينية أو المذهبية، وتنظر إليها أنها على عنصر ثراء وتنوع وتكامل، وتحافظ على معتقد الفرد، وحرية تدينه وممارسة طقوسه، مع حرية تفكيره ونقده، لأن الدولة الوطنية تعمل على المشترك الأكبر، فهي تتعامل مع كل فرد على أنه مواطن يمثل ذات مستقلة، وما عداه فهي ألبسة يلبسها المواطن، وله حريته في اختيار لباسه، ويجد بذاته انتماء للدولة الوطنية إذا ما حافظت على قيمته الفردية، وجعلته مساويا للجميع، وفق قانون يحمي الجميع، ولا يمايز بينهم.
هناك مساحة واسعة داخل الدولة الوطنية والمركزية لإتاحة النقد العلمي الذي يدفع بالعقل إلى البحث والتساؤل والتصحيح، مع الإيمان بحق الآخر في المعتقد وممارسة الطقوس، ولكن هذه المساحة تضيق لمن يسعى لإثارة الخلافات الدينية والمذهبية لأجل إقصاء الآخر، وممارسة الوصاية عليه، وجعله في درجة ثانية أو متدنية من حيث المواطنة، هذا التمايز في درجات المواطنة يؤدي بدوره إلى شيء من الاختناق قد يظهر أثره السلبي حال ضعف مركزية الدولة.
فدولة المواطنة تنطلق من قيمة الفرد المشكل لقيمة المجموعة، لا أن تهيمن الجماعة على قيمة الفرد، بمعنى أنها تقصي وتلغي الآخر، كما أن دولة المواطنة تنطلق من إنسانية الفرد إلى انتماءاته الدينية والمذهبية والثقافية والاجتماعية، بهذا القدر يشعر كل فرد في هذه الدولة أن له انتماء حقيقيا، يجد في هذه الدولة مناخا يحميه، ويسعى لأجل رقيها واستقرارها وتطورها، وليس مجرد نسبة ينتسب إليها، فأكثر ما يؤثر في استقرار الأمم التمييز الهوياتي والانتمائي، وبذاته يؤدي إلى الصراع والتفكك والاحتراب.
وعلى هذا لابد أن يتهذب الخطاب الديني المعاصر من خلال سعة دولة المواطنة، وأن يؤمن بالتعدية واستيعاب الآخر واحترامه، وأن يمايز بين ما يؤمن به، ويمارسه طقوسا، كفرد أو جماعة، و بين حرية الآخر في معتقده وممارسة طقوسه أيضا، وأن ينطلق في خطابه الديني من الدائرة الأوسع ليستوعب الانتماءات الأدنى، فيتهذب خطابه الديني لأجل ذلك.
هذا لا يمنع أن يمارس حقه في النقد وبيان صحة رأيه ومعتقده وطقوسه، لكن أن يمارس دور التثوير والتهييج ضد المختلف، وأن يتكئ على السلطة المركزية في إقصاء الآخر؛ هذا يغرس في العقل الجمعي باسم الدين ذاته ضرورة إقصاء المختلف، مما قد يمارس معه بعض العقل الجمعي إقصاءات عملية لأي مختلف عنه، كالإقصاءات الإدارية، والعنف اللفظي، وقد يؤدي إلى قتل الآخر أو تفجيره رغبة في تحقيق الرضا الأخروي، لأنه غرس فيه التعامل مع المختلف من خلال انتمائه الديني والمذهبي، لا من خلال سعة الوجود، وسعة اختلافه وتعدديته.
لقد عانت العديد من الدول العربية في نهايات القرن العشرين من طائفية جعلت بعض الديار يعمها التمزق والخراب، ثم بدأ العقل المعرفي يدرك خطورة هذا الخطاب الطائفي والمذهبي، وأثره السلبي على السلم الاجتماعي، وعلى وحدة وتقدم الدولة الوطنية، واليوم أجد بعضهم يحاولون استنساخ هذه السنوات السود في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال إحياء الطائفية، مقرونة بالسب والشتم والاستهزاء بالآخر، واستغلاله سياسيا، وهذا تحول سيئ إذا لم يتداركه العقلاء قبل أن يجد أرضا خصبة، فما حدث في لبنان من حرب طائفية قبل أكثر من ثلاثة عقود؛ جعل البلد مدمرا حتى اليوم.
كنت أرجو بعد هذه التجارب أن تكون هناك مراجعات من داخل التيارات الدينية والمذهبية، لخلق قاعدة اعتدالية في استيعاب الآخر، ولكني أجد اليوم أن الحالة الأصولية الإقصائية ما زالت أكثر تمددا في الذهنية العلمائية والخطابية داخل العديد من المذاهب الإسلامية، ولولا بعض التوجهات السياسية المؤمنة بحق الآخر وحريته المعتقدية والطقوسية لرأينا استنساخا للصراعات والإقصاءات المذهبية، وجرّ سعة المواطنة إلى ضيق الطائفية، ويشتد السوء إذا وسعت الدولة المركزية دائرةَ العقول الأصولية الإقصائية، وضيقت من دائرة العقول المعتدلة، داخل المذاهب الإسلامية ذاتها.
الخطر الأكبر الآخر الذي يهدد السلم الاجتماعي، والاستقرار المذهبي هو خطر التبشير المذهبي الممنهج، واستغلال المال العام في ذلك، فلا أدري ما الفائدة من التبشير المذهبي، مع أن العقل الجمعي عموما متشابه في دائرة إيمانه بالأصول العامة، ومتشابه في ممارسة أركان دينه، والأشد خطورة أن يكون مدعوما من خارج الدولة المركزية؛ لأجل خلق ولاءات خارجية باسم الدين أو المذهب، والأصل في الخطاب الديني أن يشتغل على حق الإنسان من حيث المواطنة، وأن يشتغل في القيم والأخلاقيات الكبرى المشتركة بين الجميع، لا أن يشتغل بالتبشير وإقصاء الآخر من خلال تفخيم الجزئيات والفرعيات التأويلية والتاريخية، لا في مساق النقد العلمي، ولكن في مساق التضييق على المختلف الديني والمذهبي والفكري.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدولة الوطنیة العدید من من خلال من حیث
إقرأ أيضاً:
الشرع يشدد على وحدة سوريا و"احتكار" السلاح بيد الدولة في افتتاح مؤتمر الحوار الوطني
شدد الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع الثلاثاء على وحدة سوريا و »احتكار » السلاح بيد الدولة، في افتتاح مؤتمر الحوار الوطني الذي أطلقته السلطات الجديدة في إطار مساعيها لإدارة المرحلة الانتقالية.
وأكد الشرع كذلك العمل على تشكيل هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية في البلاد.
وقال الشرع في كلمة من قصر الشعب أمام المئات من المشاركين في المؤتمر « وحدة السلاح واحتكاره بيد الدولة ليس رفاهية بل هو واجب وفرض »، مشددا على أن « سوريا لا تقبل القسمة فهي كل متكامل وقوتها في وحدتها ».
وكان حكام سوريا الجدد حثوا كل الفصائل المسلحة ومن بينها قوات سوريا الديموقراطية التي يشكل الأكراد عمادها، على تسليم أسلحتها ورفضوا فكرة الحكم الذاتي الكردي.
وتسيطر الإدارة الكردية على جزء كبير من شمال شرق البلاد الغني بالنفط، حيث تقيم إدارة ذاتية بحكم الأمر الواقع.
وتشن فصائل سورية مدعومة من تركيا هجمات على مواقع قوات سوريا الديموقراطية في شمال سوريا منذ نوفمبر، في غياب أي مؤشرات إلى تراجعها.
ويشارك في المؤتمر ممثلون عن المجتمع المدني وعن الطوائف وشخصيات معارضة وفنانون. ولم تتلق الإدارة الذاتية الكردية وذراعها العسكرية قوات سوريا الديمقراطية دعوة للمشاركة في المؤتمر، وفق ما أعلن المنظمون في وقت سابق، باعتبار أنه لم تتم دعوة أي كيانات او تشكيلات عسكرية ما زالت تحتفظ بسلاحها.
وعلى صعيد العدالة الانتقالية، أكد الشرع « عملنا خلال الشهرين الماضيين على ملاحقة مرتكبي الجرائم بحق السوريين وسنعمل على تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية ترد الحقوق للناس وتنصف إن شاء الله وتقدم المجرمين للعدالة ».
وكانت السلطة الجديدة أعلنت منذ وصولها الى دمشق عزمها تنظيم مؤتمر الحوار الوطني. وقد حضها المجتمع الدولي مرارا خلال الأسابيع الماضية على ضرورة أن يتضمن تمثيلا لجميع أطياف السوريين.
وشكلت السلطات خلال الشهر الحالي لجنة تحضيرية للمؤتمر من سبعة أعضاء بينهم سيدتان، جالت خلال الأسبوع الماضي في محافظات عدة، والتقت بأكثر من أربعة آلاف شخص من رجال ونساء، وفق ما اعلنت اللجنة الأحد.
وبعد لقاء ترحيب وعشاء تعارف الاثنين، بدأت أعمال المؤتمر من نقاشات وورش عمل الثلاثاء. ونشرت وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا) الثلاثاء مقطع فيديو يظهر مئات المشاركين خلال توافدهم إلى قاعة كبرى داخل قصر الشعب تتوسطها منصة.
ويتضمن برنامج العمل الذي نشرته سانا الثلاثاء ورش عمل وجلسة ختامية، على أن ينتهي عند الخامسة بعد الظهر بالتوقيت المحلي ببيان ختامي وكلمة نهائية.
ونقلت الوكالة عن رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر ماهر علوش قوله الاثنين إن المؤتمر ينعقد « بمشاركة واسعة من جميع أطياف الشعب السوري، لوضع أسس المرحلة المقبلة، عبر نقاشات جادة ومسؤولة ».
وتعالج ورش العمل المتخصصة خلال المؤتمر، وفق اللجنة، القضايا التي استخلصتها خلال لقاءاتها في المحافظات، مشيرة الى التوافق على « قضايا العدالة الانتقالية، والبناء الدستوري، والإصلاح المؤسساتي والاقتصادي، ووحدة الأراضي السورية، وقضايا الحريات العامة والشخصية والحريات السياسية كأولويات أساسية ».
وستصدر عن المؤتمر توصيات « سيتم البناء عليها من أجل الإعلان الدستوري والهوية الاقتصادية وخطة إصلاح المؤسسات »، وفق اللجنة.
واعتذر مدعوون مقيمون خارج سوريا عن الحضور نظرا لاستحالة ترتيب السفر بسبب ضيق المدة الفاصلة بين توجيه الدعوة الذي بدأ الأحد، وموعد المؤتمر.
وفي منتصف الشهر الحالي، انتقد مجلس سوريا الديمقراطية، المنبثق عن الإدارة الذاتية الكردية، اللجنة التحضيرية التي قال إنها مشكلة من « طيف وتوجه سياسي واحد، مما يخل بمبدأ التمثيل العادل والشامل لكافة مكونات الشعب السوري ».
منذ إطاحة الأسد، شكلت دمشق وجهة لوفود دبلوماسية عربية وغربية، أبدت دعمها للسلطات الجديدة وحثتها على إشراك كل المكونات السورية في إدارة المرحلة الانتقالية.
وتعتزم الإدارة الجديدة تشكيل حكومة انتقالية مطلع الشهر المقبل، تعه د وزير الخارجية أسعد الشيباني أن تكون « ممثلة للشعب السوري قدر الإمكان وتراعي تنوعه ».
كلمات دلالية الشرع حوار سوريا فصائل