الذي يجمع بين الأديان دائرة الإنسان، ومن دائرة الإنسان تتشكل المواطنة، فالمواطنة لا تلغي حق الإنسان في اختيار دينه، وفي ممارسة طقوسه، وفي الوقت نفسه تسع المواطنة الجميع من حيث الحقوق والواجبات، ضمن قيمتي المساواة والعدل بين الجميع.

فإذا اتسع ذلك من حيث الأديان؛ يتسع من حيث المذاهب داخل الدين الواحد، ومنها دين الإسلام، إذ يحوي مذاهب عقدية وفقهية وسلوكية وحركية وتوجهات فكرية، وجميعها تجتمع على المشتركات الكبرى في الإسلام، إلا أنها تختلف في المصدر الثاني، وأصول الاستنباط، وفي العديد من جزئيات المعتقد، وفي النظرة التأريخية لأحداث الإسلام الأول بعد وفاة النبي الأكرم، وفي العديد من القضايا الفقهية، ومدى سعة التعامل مع الاتجاهات السلوكية الصوفية والعرفانية، ثم مدى انفتاحها على القراءات المعاصرة، كل هذا أوجد تعددية في البيت الإسلامي إن صح التعبير.

الدولة الوطنية وفق رؤيتها المركزية الواحدة لا إشكالية لديها حول هذه التعددية الدينية أو المذهبية، وتنظر إليها أنها على عنصر ثراء وتنوع وتكامل، وتحافظ على معتقد الفرد، وحرية تدينه وممارسة طقوسه، مع حرية تفكيره ونقده، لأن الدولة الوطنية تعمل على المشترك الأكبر، فهي تتعامل مع كل فرد على أنه مواطن يمثل ذات مستقلة، وما عداه فهي ألبسة يلبسها المواطن، وله حريته في اختيار لباسه، ويجد بذاته انتماء للدولة الوطنية إذا ما حافظت على قيمته الفردية، وجعلته مساويا للجميع، وفق قانون يحمي الجميع، ولا يمايز بينهم.

هناك مساحة واسعة داخل الدولة الوطنية والمركزية لإتاحة النقد العلمي الذي يدفع بالعقل إلى البحث والتساؤل والتصحيح، مع الإيمان بحق الآخر في المعتقد وممارسة الطقوس، ولكن هذه المساحة تضيق لمن يسعى لإثارة الخلافات الدينية والمذهبية لأجل إقصاء الآخر، وممارسة الوصاية عليه، وجعله في درجة ثانية أو متدنية من حيث المواطنة، هذا التمايز في درجات المواطنة يؤدي بدوره إلى شيء من الاختناق قد يظهر أثره السلبي حال ضعف مركزية الدولة.

فدولة المواطنة تنطلق من قيمة الفرد المشكل لقيمة المجموعة، لا أن تهيمن الجماعة على قيمة الفرد، بمعنى أنها تقصي وتلغي الآخر، كما أن دولة المواطنة تنطلق من إنسانية الفرد إلى انتماءاته الدينية والمذهبية والثقافية والاجتماعية، بهذا القدر يشعر كل فرد في هذه الدولة أن له انتماء حقيقيا، يجد في هذه الدولة مناخا يحميه، ويسعى لأجل رقيها واستقرارها وتطورها، وليس مجرد نسبة ينتسب إليها، فأكثر ما يؤثر في استقرار الأمم التمييز الهوياتي والانتمائي، وبذاته يؤدي إلى الصراع والتفكك والاحتراب.

وعلى هذا لابد أن يتهذب الخطاب الديني المعاصر من خلال سعة دولة المواطنة، وأن يؤمن بالتعدية واستيعاب الآخر واحترامه، وأن يمايز بين ما يؤمن به، ويمارسه طقوسا، كفرد أو جماعة، و بين حرية الآخر في معتقده وممارسة طقوسه أيضا، وأن ينطلق في خطابه الديني من الدائرة الأوسع ليستوعب الانتماءات الأدنى، فيتهذب خطابه الديني لأجل ذلك.

هذا لا يمنع أن يمارس حقه في النقد وبيان صحة رأيه ومعتقده وطقوسه، لكن أن يمارس دور التثوير والتهييج ضد المختلف، وأن يتكئ على السلطة المركزية في إقصاء الآخر؛ هذا يغرس في العقل الجمعي باسم الدين ذاته ضرورة إقصاء المختلف، مما قد يمارس معه بعض العقل الجمعي إقصاءات عملية لأي مختلف عنه، كالإقصاءات الإدارية، والعنف اللفظي، وقد يؤدي إلى قتل الآخر أو تفجيره رغبة في تحقيق الرضا الأخروي، لأنه غرس فيه التعامل مع المختلف من خلال انتمائه الديني والمذهبي، لا من خلال سعة الوجود، وسعة اختلافه وتعدديته.

لقد عانت العديد من الدول العربية في نهايات القرن العشرين من طائفية جعلت بعض الديار يعمها التمزق والخراب، ثم بدأ العقل المعرفي يدرك خطورة هذا الخطاب الطائفي والمذهبي، وأثره السلبي على السلم الاجتماعي، وعلى وحدة وتقدم الدولة الوطنية، واليوم أجد بعضهم يحاولون استنساخ هذه السنوات السود في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال إحياء الطائفية، مقرونة بالسب والشتم والاستهزاء بالآخر، واستغلاله سياسيا، وهذا تحول سيئ إذا لم يتداركه العقلاء قبل أن يجد أرضا خصبة، فما حدث في لبنان من حرب طائفية قبل أكثر من ثلاثة عقود؛ جعل البلد مدمرا حتى اليوم.

كنت أرجو بعد هذه التجارب أن تكون هناك مراجعات من داخل التيارات الدينية والمذهبية، لخلق قاعدة اعتدالية في استيعاب الآخر، ولكني أجد اليوم أن الحالة الأصولية الإقصائية ما زالت أكثر تمددا في الذهنية العلمائية والخطابية داخل العديد من المذاهب الإسلامية، ولولا بعض التوجهات السياسية المؤمنة بحق الآخر وحريته المعتقدية والطقوسية لرأينا استنساخا للصراعات والإقصاءات المذهبية، وجرّ سعة المواطنة إلى ضيق الطائفية، ويشتد السوء إذا وسعت الدولة المركزية دائرةَ العقول الأصولية الإقصائية، وضيقت من دائرة العقول المعتدلة، داخل المذاهب الإسلامية ذاتها.

الخطر الأكبر الآخر الذي يهدد السلم الاجتماعي، والاستقرار المذهبي هو خطر التبشير المذهبي الممنهج، واستغلال المال العام في ذلك، فلا أدري ما الفائدة من التبشير المذهبي، مع أن العقل الجمعي عموما متشابه في دائرة إيمانه بالأصول العامة، ومتشابه في ممارسة أركان دينه، والأشد خطورة أن يكون مدعوما من خارج الدولة المركزية؛ لأجل خلق ولاءات خارجية باسم الدين أو المذهب، والأصل في الخطاب الديني أن يشتغل على حق الإنسان من حيث المواطنة، وأن يشتغل في القيم والأخلاقيات الكبرى المشتركة بين الجميع، لا أن يشتغل بالتبشير وإقصاء الآخر من خلال تفخيم الجزئيات والفرعيات التأويلية والتاريخية، لا في مساق النقد العلمي، ولكن في مساق التضييق على المختلف الديني والمذهبي والفكري.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدولة الوطنیة العدید من من خلال من حیث

إقرأ أيضاً:

مصر: السُّلطوية ونفي المواطنة عن الجسد السياسي (4-4)

هذا هو المقال الرابع، والأخير، من سلسلة مقالات حاولت، من خلالها، نقاش أو الإجابة على سؤال، كيف استخدمت الدولة المصرية، تاريخيا وإلى الآن، في عهد السيسي، التقنيات الحداثية في إيجاد ونفي أجساد وأسماء المصريين من أجل بقائها وهيمنتها.

حول اغتراب واستلاب المواطن

في النُظم السُلطوية، تتشكّل علاقة السُلطة بمواطنيها على التضاد من المفترض أو المعقود عليه دستوريا. إذ تتبدّل أدوار كل منهما، حيث تُسّخر السُلطوية السياسية أجساد مواطنيها لخدمتها، في البقاء والهيمنة والتوسّع وغير ذلك من طموحات سُلطوية. ومن هُنا يتأسس ما سمَّاه أستاذ علم الاجتماع السوري حليم بركات بـ"الاغتراب السياسي للمواطنين"، حيث يُصبح الشعب خادما للسلطة، بدلا من أن تكون السلطة هي خادمة الشعب، وتسعى الدولة لإيجاد مواطنين "أجساد" تحكمهم بدلا من أن يسعى المواطنون في تأسيس نظام حكم يتوافقون عليه لإدارة حياتهم.

في هذه الحالة، وبعد كلّ ممارسات القمع التي ذكرناها سالفا، يتمكّن الاغتراب وممارساته الفكرية واليومية من الإنسان الذي تعرض للقمع، فلا يُصيبه الاغتراب السياسي فحسب، نظرا لنزع حقه السياسي منه، بل يصل الحال به إلى الاغتراب الوجودي، وهو الاغتراب الذي يرى الإنسان فيه أن وجوده الحياتي، ذاتيا وجسديا، أصبح مغتربا، تائها، غير مرغوب فيه، حيث تجتمع على الإنسان في المنفى، عوامل أُخرى تساعده في نفيّ ذاته عن الوجود، مثل عدم اندماجه أو انتمائه للمجتمعات الجديدة التي وصل إليها، أو عدم توفر له الأمان المادي والقانوني الذي يُبقيه اسما وجسدا معترفا به من السُلطة بشكلها المجرّد والعام، هذا فضلا عن استمرار سُلطوية بلاده في ملاحقته. هنا يقتحم الإنسان مفهوم الاستلاب، وهو مفهوم طرحه وطوّره واشتبك معه بضعة مفكرين وفلاسفة، من زوايا اقتصادية وثقافية واجتماعية، بدءا بهيغل مرورا بماركس ووصولا إلى الفرنسي لويس ألتوسير.

يتمكّن الاغتراب وممارساته الفكرية واليومية من الإنسان الذي تعرض للقمع، فلا يُصيبه الاغتراب السياسي فحسب، نظرا لنزع حقه السياسي منه، بل يصل الحال به إلى الاغتراب الوجودي، وهو الاغتراب الذي يرى الإنسان فيه أن وجوده الحياتي، ذاتيا وجسديا، أصبح مغتربا، تائها، غير مرغوب فيه، حيث تجتمع على الإنسان في المنفى، عوامل أُخرى تساعده في نفيّ ذاته عن الوجود
هنا الاستلاب يعني أن ذاتية الإنسان استُلبتْ منه عنوة، بسبب تعرّضه لممارسات قمعية من سُلطويات الفكر والسياسة والمجتمع، ولأن المنفى هنا ليس ابعتادا عن الوطن فحسب، بل ابتعادا عن الذات أيضا، كما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، إذ يُصبح المنفى "هوية قسرية لا تنجسر في الكائن البشري وموطنه الأصليّ بين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع".

ما العمل؟

في ظل آلة القمع المستمرة، والتي تعمل بكل جدِّيّة في نزع الحقوق والحريات، جاء دور العمل الحقوقي، إذ شهد تطورا وانتشارا سريعا في سنوات ما بعد وصول السيسي إلى حكم مصر في أيار/ مايو 2014، هذا الانتشار عكسَ حجم انتهاكات الجهاز الأمني في مصر لعموم المواطنين والفئات السياسية المعارضة له، داخل مصر وخارجها. وفّر العمل الحقوقي مساحة كبيرة تضم كافة التيارات الأيديولوجية التي رفضت أن تجتمع يوما ما على الطاولة السياسيّة، فتجد منظمات حقوقية كثيرة، تجمع بين أطياف السياسية المتباينة والمتداخلة، فضلا عن وجود الصحافيين والباحثين والحقوقيين والناشطين المستقلّين، يعملون من أجل توثيق ورصد الانتهاكات في تقارير ودراسات دوريّة.

يُعدُّ العمل الحقوقي إنجازا كبيرا، من حيث رصد وتوثيق كافة الانتهاكات التي تحدث للمصريين لا سيّما السجناء السياسيين، من وفيّات إثر التعذيب داخل مقرّات الاحتجاز، والتصفيات الجسدية، والانتهاكات الجسدية للسجينات، وغير ذلك. كما احتلَّ مكانة التقدير والامتياز نظرا للظروف الأمنية الصعبة الذي يعمل في ظلّها، ولِصعوبة الحصول على الأرقام والمعلومات التي تفيد التسجيل الصحيح للانتهاكات. كل هذا العمل واستمراره، ما زال يشكّل ضغطا على السُلطوية في مصر، كي تخفف قمعها على المواطنين، وتعطي مجالا للانفتاح السياسي، وحرية التعبير، وإعطاء الحقوق للمواطن المصري، وتلتزم بدورها وفقا للدستور المصري، بدلا من تطويعها القوانين من خلال إقرار تشريعات مجحفة بحق المصريين على جميع المستويات، مثل قانون الإجراءات الجنائية، وتمديد فترة الرئيس من 4 إلى 6 سنوات، كما إعطائه مدة ثالثة للحكم، وانتهاكات أُخرى..

من سياق حقوقي آخر، وفي المنفى، تعمل المؤسسات الحقوقية والدولية من خلال البرامج وعقد الجلسات الدورية ومساعدة المنفيين خارج مصر، في بلدان مُختلفة، وهذا من خلال التعرّف على تجاربهم المُختلفة مع المؤسسات والمُجتمعات والمؤسسات المصرية خارج مصر. ودائما، يوضّح المنفيّون سواء كُرها أو طوعا، وهم يعملون في مجالات مختلفة منها الصحافة والبحث وحقوق الإنسان، مُعاناتهم في التعامل مع البلاد الجديدة التي وصلوا إليها، سواء من الناحية النفسية أو القانونية، حيث تُقابلهم الإشكاليات الأمنية مع السفارات والقنصليات المصرية، ما يترتب عليه صعوبات في تقنين وضعهم القانوني في المنفى، هذا بجانب إشكاليات الاندماج والحصول على فرص للعمل، وغير ذلك، ما يضع هؤلاء المنفيين تحت ضغط نفسي شديد، سبب لهم مع الوقت اغترابا ذاتيا عن محيطهم وعن أنفسهم.

مقالات مشابهة

  • سياسيون: خطاب الرئيس السيسي يمثل خريطة طريق لبناء الإنسان وتجديد الخطاب الديني
  • جاب من الآخر.. إعلامي لبناني يوضح حقيقة الفيديو المنتشر للنجمة نادين نسيب نجيم
  • متحدث الأوقاف: رؤية الرئيس السيسي الثاقبة تقود لتجديد الخطاب الديني
  • الإصلاح والنهضة: دعم الدولة للخطاب الديني المستنير أحد محاور الأمن القومي الفكري
  • د. فرانسيس دينق سياسي مُنحاز وليس مُراقب أو مُحلّل!
  • المواطنة المُتحققة في المناطق الحدودية
  • مصر: السُّلطوية ونفي المواطنة عن الجسد السياسي (4-4)
  • عبد الساتر في قداس عيد الفصح: مدعوون إلى أن لا نصمت أو نبرر الإبادات الجماعية والتجويع
  • علاج انسداد شرايين الرقبة.. دراسة تنسف "المعتقد الشائع"
  • توتر داخل برشلونة: مطالب باللعب تهدد وحدة الفريق تحت قيادة فليك