المثقفون الغربيون بين العقل المستقيل والنقد الموضوعي
تاريخ النشر: 15th, July 2024 GMT
ذكر بعض المثقفين العرب في رسالتهم المفتوحة لنظرائهم الغربيين حول أحداث غزة وحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني: «كنا ننتظر ـ نحن المثقفين العرب ـ من مفكري بلدان الغرب وأدبائها وفنانيها أن يقابلوا نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية المشروعة والعادلة بالنصرة والتأييد». وجاء ضمن رد المثقفين الغربيين «كونوا على ثقة أيها الأصدقاء المثقفون في العالم العربي أن التزامنا بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني لا يضعف، وأننا نتابع العمل الشاق الذي قمنا به قبل فترة طويلة، لجعل الناس يسمعون صوت القانون والعدالة والقيم الإنسانية الحقة».
عبروا في ردهم عن قلقهم وسخطهم على الأحداث وشعورهم الرهيب بالعجز إزاء ذبح الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ، واصفين ذلك بأنه جريمة إنسانية لا تصدق، وأعربوا بأنهم يشاركون في القيم الأخلاقية الأساسية للحضارة الإنسانية، وأنهم يطالبون بوقف إطلاق النار وإنهاء الحصار المفروض على الفلسطينيين، وأشاروا في ردهم إلى المعايير المزدوجة التي تهيمن على عالم اليوم والعنصرية التي لا تزال سائدة في الغرب، وعبروا عن تأييدهم للحق الفلسطيني في المقاومة ضد دولة الاحتلال وحقهم في دولتهم المستقلة. واعترافهم أن إسرائيل لم تخضع لأدنى عقوبة قط، وأنه ليس من العدل أن يتم تجاهل نكبة عام 1948 في ظل عقود عديدة من القمع والظلم والعدوان. وقّع الردَّ بعض المثقفين الغربيين نذكر منهم (فيليب تانسلين، شاعر وفيلسوف، فرانسيس كومبس، شاعر إيف فارغاس، فيلسوف، لوران فوركوت، شاعر، باتريشا لاتور، صحفية، جيرارد أستور، كاتب مسرحي، باسكال أكوت، مؤرخ علم البيئة، كلوديا كريستيانسن، موسيقية، إيرو سيافلاكي، مخرج، إيزبيل لاجني، طبيبة، جان ماري، مترجمة).
وكان مجموعة من المثقفين العرب قد وجهوا في الرابع والعشرين من نوفمبر 2023م رسالة مفتوحة إلى المثقفين الغربيين يستنكرون فيها صمت المثقفين الغربيين عن المجازر الوحشية وتدعوهم إلى استنكارها وإلى الإعلان الصريح المؤيد للحقوق الفلسطينية في مقاومة الاحتلال وصولا إلى إقامة دولته على الأراضي الفلسطينية، ويستنهضون فيها نصرة المثقفين الغربيين أسوة بقطاعات اجتماعية حية من الشعوب الأوروبية وفي أمريكا وخصوصا الطلبة الذين خرجوا في مظاهرات عارمة تنديدا بالمجازر والإبادة التي ترتكبها إسرائيل وتنديدا بالصمت المخزي والمعايير المزدوجة التي ينتهجها سياسيو الغرب وإعلامهم وما يلاقيه الفلسطينيون من ظلم وعدوان وتجاهل متعمد ومشاركة في تلك الإبادة الجماعية التي لا يتورعون في إمدادها بالأسلحة التي تفتك بالأطفال والشيوخ والنساء، وحرق وتدمير كل شيء بما فيها البنى التحتية في قطاع غزة.
وقَّعَ الرسالة عدد من الباحثين والكتاب والأدباء والفنانين من مختلف الأقطار العربية بينهم أذكر الروائية جوخة الحارثي من سلطنة عُمان، محمد الأشعري، الطاهر لبيب، محمد برادة، نبيل عبد الفتاح، مرسيل خليفة، علي أومليل، عزيز العظمة، محمد بنيس، نبيل سليمان، عبد الحسين شعبان، علوية صبح، صلاح بوسريف، أدونيس، حسن نجمي، أمين الزاوي، أحمد المديني، فخري صالح، فراس سواح، عبد القادر الشاوي، مبارك ربيع، فاضل ربيعي، وفاء العمراني، بسام كوسا، واسيني الاعرج، شوقي بزيع.
مما لا شك فيه بأن للمثقفين الغربيين فلاسفة وكتاب أدباء وفنانين مساهمات عظيمة وجليلة في خدمة البشرية وذلك من خلال النظريات والكتابات والروايات العظيمة شعراً ونثراً، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومنهم من كان مناصرا للحقوق الفلسطينية والعرب وكانوا متناسقين منسجمين مع كتاباتهم ونظرياتهم، هم كثر ولا يتسع المكان لذكر الجميع، فقط أستحضر البعض، ومنهم، جاك بيرك، أرنولد تويني، موريس بوكاي، أسين بلاثيوس، أندريه ميكيل، نعوم تشومسكي، إدجار موران، روجيه جارودي، جان جينيه، جيل دولوز، خوان غوتيلس، والكثير من الفنانين والموسيقيين من بينهم المغني الإنجليزي روجر ووترز الذي قال «أيها الإسرائيليون أنتم دولة فاشلة انتهى الأمر، أحزموا أمتعتكم وارحلوا. لقد حان الوقت لتفعلوا الصواب». وهناك العديد من الرسائل والعرائض التي وقعها الكثير من المثقفين الغربيين تأييدا لفلسطين وغزة، منها العريضة التي وقّعها العديد من الموسيقيين منهم المغني الإنجليزي روجر ووترز يطالبون فيها زملاءهم الفنانين بمقاطعة العروض في إسرائيل حتى تكون فلسطين حرة. وأنشأوا مجموعة «موسيقيون من أجل فلسطين».
لكن ذلك لا ينفي ولا يخفي العلاقة الملتبسة مع المثقفين الغربيين والغرب بشكل عام التي تظل علاقة تدور في فلك الغرب ونظرته للعرب بشكل عام وقد ساهم بعض المثقفين الغربيين بصمتهم بل وتأييدهم ووقوفهم صراحة في تمادي القوى الغربية المدججة بأسلحتها في شن سلسلة من الحروب من العدوان والوحشية على العرب والمسلمين على مدار التاريخ، وقد يكون لصمتهم أو تأييدهم ذلك الدور المهم في تهيئة الأرضية وتمهيد الطرق المؤدية للاستعمار الغربي للأراضي العربية وهذا ما أداه بعض المستشرقين بطريقة مباشرة أو مباشرة والذين أتوا إلى البلاد العربية بحثا عن الاكتشاف والمغامرات وحب الاستطلاع.
بكل تجريد ما الذي يدعو مثقفين ومنهم فلاسفة وشعراء وروائيون وغيرهم من المثقفين الغربيين إلى الانخراط في دعم الفاشية الإسرائيلية والانخراط في جوقة ترديد المزاعم الدعائية الغربية الصهيونية بل لما هو أبعد من ذلك بترويجهم الأكاذيب والمغالطات الصهيونية، ويقفون عاجزين عن مناصرة الشعب الفلسطيني في كفاحه ونضاله المشروع الذي تكفله لهم شرائع السماء والأرض وهم على دراية بذلك، هل اختاروا بمحض إرادتهم أن يكون عقلهم ضمن العقل المستقيل؟
الفجوة (وذلك ما ذكره المثقفون العرب في رسالتهم) الكبيرة التي يزداد اتساعها بين تلك النظريات والإسهامات الفكرية من جهة وبين المواقف الحقيقية والملموسة التي يعبر عنها أولئك المثقفون وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية والعرب والإسلام بشكل عام، وهي لا تخلو من مواقف متناقضة ملتبسة غامضة، لا يتورعون بالمجاهرة والعلانية في الوقوف في صف الإسرائيليين داعمين لهم في المجازر والإبادة واستعمارهم للأراضي الفلسطينية والحقوق العربية.
نذكر من ذلك تعبير إدوارد سعيد مثلا عن خيبة أمله من موقف جان بول سارتر في ذلك اللقاء المثير الذي جمعهما في باريس في عام 1979، في منزل ميشيل فوكو حيث وجد سارتر غير متحمس للقضية الفلسطينية وظل وفيا لمبادئه الفلسفية الصهيونية، كذلك عبر إدوارد سعيد عن صدمته من مواقف ميشيل فوكو الداعم لإسرائيل وسيمون دي بوفوار (زوجة سارتر) وكلهم كانوا غير متحمسين للقضية الفلسطينية بل كانت غايتهم من ذلك اللقاء فقط الترويج والتطبيع للتعايش بين العرب وإسرائيل.
الأستاذ د. محمد المحيفيظ أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة بن طفيل بالقنيطرة بالمملكة المغربية يشخص ذلك بقوله: «إن العديد من المثقفين الغربيين- كما كانت العادة منذ عقود- قد انحازوا للرواية الإسرائيلية، إما بسب تعصب عرقي أو عجزهم عن التحرر من اشتراطات نفسية أو تربوية أو اجتماعية تحكمهم» أو دعنا نقول مع فرانسيس بيكون: بسبب خضوعهم إما لأوهام القبيلة، أو لأوهام الكهف أو لأوهام السوق أو لأوهام المسرح أو لهذه الأوهام كلها» وأحيانا بسبب مصالح آنية أو نذالة وخسة روحية، وهم بذلك يخونون رسالتهم المفترضة فيهم بصفتهم مثقفين.
ليس عقلهم مستقيلا إلا إذا تعلق الأمر بالقضايا العربية والإسلامية، نذكر هنا أيضا، الموقف الذي عبر عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (سليل الأخلاق النازية) كما وصفه مواطنه الفيلسوف بتر سلوتردايك. هابرماس الذي أصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية، وعرف عنه بأنه من أكبر معارضي اليمين المتطرف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في الغرب، فقد وقع هابرماس مع مجموعة من المثقفين عريضة بخصوص الأحداث المأساوية في غزة، أكد فيها على شرعية العدوان الإسرائيلي على سكان غزة، ومما يثير السخف في تلك العريضة قوله بأن مجرد اتهام إسرائيل بشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر معاداة السامية. متجاهلا في تلك العريضة حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال.
إذن ليس اكتشافا ولا يحتاج الأمر إلى بحث وتروّ، المثقفون الغربيون هم جزء من المنظومة الغربية والثقافة الغربية وأبناء مخلصون وبررة لها ويجعلهم ذلك عاجزين عن التفكير خارج المنظومة الغربية بكل ما تحمله من معان، وقد يكونون هم من أوجدوا تلك المنظومة فهم عاجزون عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية. الغرب بأكمله بما فيه المثقفون مكبّل بما يسمى بعقدة اليهود والسامية والمحرقة والهولوكوست، لذلك فهم مكبلون عاجزون، لا يستطيعون الفكاك من تلك الكونية الملازمة لوجودهم وخوفا من أن يتهموا بمعاداة السامية فإنهم يتمادون في تأييد كل ما يصدر من إسرائيل ولا يستطيعون الفكاك من عقدة ذنب المحرقة وخصوصا الألمان.
الغرب بما فيه سياسيوه ومثقفوه والعامة منهم واقعون تحت الضغط الذي تمارسه الآلة الإعلامية والبروباغاندا الغربية المتحالفة مع الصهيونية. ينظر بعض المثقفين الغربيين إلى أن تأييدهم للفلسطينيين وحقوقهم المشروعة وإدانتهم لإسرائيل قد تحرمهم من أشياء كثيرة كالمناصب والظهور والأضواء والجوائز وحتى طباعة مؤلفاتهم والترويج لها، في المقابل لا يعطيهم تأييد الفلسطينيين والعرب شيئا ويخرجهم من دائرة الضوء والاهتمام، وبالتالي هي أشياء ذاتية شخصية.
إسرائيل في نظر الغربيين بما فيهم المثقفون هي جزء منهم وامتداد طبيعي للسياق الغربي الأوربي الأمريكي، بل هم من أوجدوها وخلقوها. يرى ريجيس دوبريه بأن «لا أحد يستطيع الضغط على إسرائيل اليوم لا أمريكا ولا أوروبا بسبب أن أمريكا هي واقعيا مرتبطة لاهوتيا وعاطفيا بالشعب العبري حيث يعتبرون أنفسهم امتدادا لتاريخه بوصفهم شعبا مختارا جديدا، وهذه الروابط بحسب دوبريه نابعة من اللاوعي اللاهوتي. من الناحية الرمزية أمريكا مستعمرة لإسرائيل وليس العكس، بينما أوروبا تعاني الشلل بسبب المحرقة». إسرائيل والصهيونية من ورائها نجحت وبكل اقتدار في صناعة الهولوكوست والمحرقة وإتقان دور الضحية والمعتدى عليه، وتنجح في الترويج وترسيخ لسرديتها تاريخيا وحاضراً. الصهيونية لا تمسك بوسائل الإعلام وتسخرها لخدمتها فقط ، بل هي تمسك بجميع عناصر صناعة القرار في العالم الغربي والمنظمات التابعة له وتسخر في ذلك المال وكل شيء يخطر بالبال فقط لنصرتها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشعب الفلسطینی من المثقفین
إقرأ أيضاً:
لازاريني: "إسرائيل" تعمل من جانب أحادي على تغيير المعايير الراسخة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي
صفا
قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "الأونروا"، فيليب لازاريني، إن "إسرائيل" تعمل من جانب أحادي على تغيير المعايير الراسخة لحل النزاع "الفلسطيني الإسرائيلي"، في تحدٍ صريح لميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، والأوامر الملزمة لمحكمة العدل الدولية.
وأضاف لازاريني في خطابه أمام اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، أنه خلال الشهر الماضي، أقر البرلمان الإسرائيلي تشريعًا يمكن أن ينهي عمليات الأونروا في الأرض الفلسطينية المحتلة في فترة أقل من ثلاثة أشهر.
وشدد لازاريني على أن هذا من شأنه أن يحقق هدفًا للحرب في غزة تم التعبير عنه صراحًة.
وقال لازاريني في وقت سابق، إن تقييد وصول المساعدات الإنسانية لأهالي قطاع غزة، وفي الوقت نفسه تفكيك الأونروا، سيزيد من المعاناة، منوهًا إلى أن الإرادة السياسية وحدها هي القادرة على وضع حد للوضع الذي صنعته السياسة.
وكان الكنيست صادق بالقراءة النهائية، بعد دعم 92 عضواً ومعارضة 10 فقط، على قانون يحظر أي أنشطة لـ"أونروا" داخل الكيان الإسرائيلي.
وينص القانون على حظر ووقف نشاطات "أونروا" بـ"المناطق السيادية في "إسرائيل" بما في ذلك القدس الشرقية".