mugheira88@gmail.com
قصة قصيرة
المغيرة التجاني علي
أحسست بصدري يعجز عن حمل رئتي الممتلئتين بهواء أوائل الخريف الطلق و الطائرة تهبط في هدوء في مدرج مطار الخرطوم . حاولت قبل النزول أن أحتوي المشهد كله بنظرة واحدة عميقة من أحد نوافذ الطائرة. لم يشغلني الناس المستقبلين و لا أفراد العمل في المطار بأزيائهم المختلفة .
كانت تترآي أمامي فقط وجوه أخواتي و أخواني وأهلي و أبناء عمومتي و أولادهم و أصدقائي . كنت أحاول أيضا أن أضع صورة للذين لم أراهم أو الذين شبوا و كبروا في غيبتي . الشخص الذي أستقبلني كان أحد نسابتي الجدد الذين لم التقيهم قبلا. كان رجلا لطيفا وسيم القسمات . أعجبني اكثر القميص الأبيض نصف كم الذي يرتديه والذي يختلف عن لبس الكثيرين الذين ضجت بهم صالات المطار و الساحة الخارجية . كان المشوار طويلا نسبيا و قد شبت في المناطق الخالية التي آلفتها ,, مباني و عمائر و طرقات . أذكر انني كنت أذهب بذات الطريق الي اقربائي ببصات أبورجيلة المشهورة في رحلة ماتعة لطيفة . تذكرت قريبي الذي كان يعمل كمساريا في البص – ترحمت عليه وقفزت الي ذاكرتي صفوف البص و كراسيه الأنيقة ,, تذكرت أيضا كيف كان الركاب يضعون البطيخ تحت الأرجل ,, البعض يحمل ربطات البرسيم ,, وهم يتصفحون جريدتي الأيام أو الصحافة ويتبادلون الحديث عن الأسعار و الاحتياجات و مشاغل الحياة و يتجادلون في شأن السياسية و الأحزاب و جدلية هلال مريخ المحببة . انهمكت في عناق شديد و دموع و نحيب وأنا بين أحضان اخواتي و أخواني و عماتي و خالاتي و أولادهن . حتي الجيران الذين لا يعرفونني جاءوا ليستقبلوا أخو السريرة و يتعرفوا عليه عن قرب . داهمتني الروائح المحببة المبنعثة من كل مكان في الدار و ما جاوره ,,لحم الضأن المشوي و خمار الكسرة المعتق و البخور و المحريب. تمنيت أن لو آكل وأشرب في لحظة واحدة كلما اشتهيته و افتقدته طوال سني غربتي. تمنيت أن يجيء كل معارفي وأصدقائي و أهلي وأن أعانقهم جميعا و أتعرف علي أحوالهم. قلت لأختي بعد أن هدأت عواطفنا الجياشة : تعرفي يا السريرة أنني جائع و لست في حاجة الي ذبائح ولحوم وغيره . تعرفي تشوقي للكسرة و للمفروكة والملاح الأخضر . غمزت بوجنتها الحبيبة الي قلبي و أشارت بكمشتها الخشبية الي المطبخ – الحلل مليانه بس كيف انت نلقاك و تأكل و تشرب معانا. تعمدت أن أتناول الغداء مع أخواتي بعد أن أذن لي نسابتي واخواني الموجودون في صالون المنزل . توسطت صينية الغداء برندتنا الأليفة المضمخة ببخور التيمان و عطر نوار الليمون المنبعث من الحوش الأمامي . أعرف ذوق أخواتي و يعرفن طبعي الذي لا أظن أنه قد تغير كثيرا. ثلاثة صحون لاغير . الصحن الكبير يحوي الكسرة بالملاح الأخضر , صحن اللحم الشهي الجديد و صحن سلطة الجرجير و الطماطم المرصوصة علي في شكل أهلة علي الحواف . لم أتبين من بين الصحون تلك الإضافة المفاجأة المحببة ,, (الملاحة ). قلت في سري وووواااااو ,,كما يقولها أبناء هذا الجيل الجديد .
ملاحة ؟ يا الله ,,, ملاحة ؟. كانت مفاجأة لم أتوقعها ,,, سنوات طويلة مضت و لم تقع في عيني ملاحة . حتي في المطاعم التي قليلا ما ارتادها يكون للملاحة شكل اسطواني مختلف عن ملاحتنا المعهودة .دفعتها أختي أمامي بلطف و هي ترمقني بنظرة حنون . ملاحة جميلة أنيقة . بيضاء بورود علي جانبيها و نقوش بالوان زاهية . في كل كف أو عين كما نسميها نوعان من البهار . الشطة و الفلفل الدقة في عين و في العين الأخرى ملح اسمر مجروش ,,وبينهما برزخ لايلتقيان ,, نظرت اليُ أخواتي جميعهن في لحظة واحدة وقد توهطت عيونهن الحبيبة في رحابة علي صدري . قرأت في عيونهن أمراً . كما لو كان مطلوبا مني أن أجب علي لغز ,, تذكرت بدقة المحب حينها, أن هذه
الملاحة تخص أمي فاطمة , رحمها الله, وقد تبقت ضمن ما بقي من حاجياتها العزيزة في البيت . أحسست بيدي تتسمر في أحدي عيني الملاحة كما لو أنها مثبتة بغراء لاصق . لم أستطع أن أحبس دمعة حري نزلت للتو علي طرف قميصي . دمعت عيون أخواتي في ذات اللحظة .حاولنا أن نتماسك جميعنا حتي لا نفسد بهجة هذه الجلسة الجامعة الوسيمة . تعمدت أن أروي حكاية هذه الملاحة لكي لا تظن أخواتي أنني قد نسيت في غربتي ملامح حياتنا الوادعة القديمة في كنف الوالدة . قلت : رحم الله أمي . أذكر أننا قد اشترينا هذه الملاحة من سوق الزيارة كما تسميه الأمهات عند بوابة المستشفى . و أشترت لي أمي أيضا علبة هندسة و حزام جلدي . تمتمن بهمهات غير مسموعة وفاضت للتو أعينهن بالدمع , أغمصت بشوق غلاب قطة اللحم في كلا عيني الملاحة في لذة ممزوجة بحنان و شوق الي أمي والي تلك الأيام العزيزة. عزمت علي أن آخذ معي في مهجري البعيد هذه الملاحة العتيقة ,, ملاحة أمي لتبقي معي دوماً مثل ذكراها الحبيبة الباقية .
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
هذه الملاحة
إقرأ أيضاً:
الدفاع الفرنسية: فرار "العشرات" من القوات الأوكرانية الذين تلقوا تدريبات لدينا
قالت وزارة الدفاع الفرنسية، أن "العشرات" من الجنود الأوكرانيين، الذين كانوا يتلقون تدريبات في فرنسا، فروا أثناء تواجدهم على الأراضي الفرنسية.
تفاصيل لقاء السفيرة هايدي سري بأبناء ورموز الجالية المصرية في جنوب
فرنسا وزراء خارجية فرنسا وألمانيا يلتقون الشرع في دمشق
وأفادت وسائل إعلام فرنسية، نقلا عن وزارة الدفاع الفرنسية، أنه "بحسب هيئة الأركان العامة، فإن الجيش الفرنسي، الذي قام بتدريب لواء أوكراني في فرنسا قبل إرساله إلى الجبهة، لاحظ وجود "عدة عشرات" من الفارين أثناء التدريب، في حين اعترفت القيادة الأوكرانية بوجود مشاكل داخل الوحدات.
وبحسب ممثل هيئة الأركان العامة الفرنسية، فإن العسكريين "كانوا في الثكنات الفرنسية وكان لهم الحق في المغادرة.
وأشار الممثل العسكري الفرنسي، نقلا عن تلك الوسائل، إلى أن "الفرار في فرنسا ليس جريمة. إذا فر شخص ما، فإن المدعي العام الفرنسي ليس لديه سلطة اعتقال هذا الشخص، والحق الممنوح للسلطات الأوكرانية على الأراضي الفرنسية هو مجرد حق تأديبي".
وفي وقت سابق من اليوم، صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأنه يجب على أوكرانيا أن تجري محادثات واقعية حول القضايا الإقليمية في إطار الصراع.