ترجمة: أحمد بن عبدالله الكلباني -
هناك مثل قديم يحذّرنا من معرفة كيفية إعداد وجبة العشاء، وأنه من الأفضل أن لا نعرف تلك العملية. وذات المثل يحذرنا كذلك من معرفة من يحكمنا. يعود هذا المثل الجميل إلى عام 1798، وصاحب تلك المقولة هو «نيكولا شامفورت»، وهو منسق الأعمال المرح في حركة «اليعاقبة». وقد ورد أن «نيكولا» قد انتحر إذ لم يتحمّل أن يُسجن للمرة الثانية في عهد «روبسبيير».
في ذلك الزمان الذي قيل فيه هذا المثل، أي قبل ظهور التلفاز بل والراديو، كان معظم الناس بالفعل لا يعرفون كيفية حكمهم، باستثناء قلة قليلة، وذلك يشبه معرفتهم بمصادر اللحوم والمنتجات الزراعية بالنسبة لأهالي المدن، حيث قلة منهم كانوا يقومون بتقطيع لحومهم وعملية تسميد المزروعات وإنتاج الحبوب وطحنها للخبز.
الكثير من الناس لم يشاهدوا حكامهم كثيرًا، فقط في المناسبات والخطابات المطولة وربما من مسافات بعيدة. بل إن الناس لم تكن تهتم بالخطابات، فالذين يقرؤون الخطابات قلة قليلة منهم، وكانت بعض الخطابات والكتابات من قبل الحكام لم تُحرر بعناية.
كما أن الحكومات لم تكن معروفة للناس. مثلا، بقيت الإدارات الداخلية للمجلس الخاص بـ «إليزابيث تيودور»، وإدارة وزارة الخارجية في عهد «تاليران» و«مترنيخ»، وحتى حكومة «أبراهام لنكولن»، وكذلك استشاريو «أوتو فون بسمارك»، جميعها بقيت غير معروفة لدى الشعب لعقود من الزمن بل ولقرون بعدها.
لم يكن مهمًّا إن كان الحكام محبوبين أو عكس ذلك، ولم يكن مهمًّا إذا بقوا أو سقطوا، بل كان الأهم جودة الحكم وما ينعكس على الشعب. كما كان ذلك يحدث بالضبط بالنسبة للنقانق فليس مهمًّا طريقة الصنع بل المذاق الجيد، فكانوا يحكمون على حكامهم من خلال النتائج التي يلمسونها، وليس على أساس سماتهم الشخصية. وقد بقي الحكام لأن الشعوب كانت تتمتع بالحوافز التي تقدمها الحكومة الجيدة. وهذا ما سار عليه الوضع في الكثير من الأحيان.
وهذا ما يدفعني للحديث عن «جورج واشنطن». إلى أي مستوى من الخرف قد وصل إليه في عام 1797، في الأثناء التي توقف فيها عن ممارسة عمله السياسي كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وحينها كان يبلغ من العمر 65 عامًا. إن الأدلة التاريخية التي بين يدينا تؤكد أنه أصبح أقل قدرة ذهنية أثناء فترة حكمه الثانية، وذلك بالمقارنة بالفترة الأولى من حكمه. في تلك الأثناء، لم يكن إلا القليل من الشعب يعرف عن خرف «جورج واشنطن»، بل كان الأغلب مؤيدًا لحكمه ومساندًا له ولحكومته التي تُدار من قبل المستشارين، ومنهم «ألكسندر هاملتون».
وكذلك كان «بيوتر الأول ألكسيفيتش»، قيصر موسكو خلال الفترة من 1682 إلى غاية 1721، نرجسيا ومعجبا بنفسه إلى حد كبير، كان متباهيًا بنفسه إلى الدرجة التي شبهه فيها شعبه بـ «بطرس الأكبر»، حتى أن ثاني أكبر مدينة حينها سُميت باسمه.
الخلاصة، منذ 500 عام إلى 100 عام مضت، كانت سمات الحاكم وشخصيته ومستوى ذكائه العقلي لا تشكل أهمية، بل كان المهم وقتها تأثير الحكومة وسياساتها على الشعوب والمميزات التي تقدمها لهم.
اليوم تغيّر الوضع كثيرًا، فقد أصبحت الشعوب قادرة على رؤية الحكام بين فترة وأخرى على الشاشات، وذلك أشبه بالمربيات اللاتي يظهرن للأطفال لتهدئتهم ومنحهم شعورًا بالأمان، خاصة حينما يظهر الحكام وهم يتحدثون عن قلق عام قد حدث.
على سبيل المثال، إذا لم يقم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالوصول إلى موقعٍ حدثت فيه كارثة طبيعية، أو لم يقم بتعزية ضحايا عمل إجرامي نال تغطية إعلامية واسعة، فإنه لا بد وأن يتعرّض لسيل من الانتقادات الواسعة وبشكل علني، رغم أن الرئيس ليس له القدرة على منع الكوارث الطبيعية، أو حتى التنبؤ بجرائم القتل ومنعها ومعاقبة الجاني. بل هي أعمال ومسؤولية الحكومة المحلية، وليست مسؤولية الحكومة الفدرالية.
على مر تاريخ الولايات المتحدة كان يحدث مثل ذلك، وربما بدأ في هذا الأمر «فرانكلين روزفلت» حيث كان قد بدأ بـ «فن رعاية الأطفال» في الأماكن العامة، وذلك من خلال حديثه عبر الراديو. كان يدردش معهم وهو بجانب الموقد، وذلك تحديدًا خلال فترة الكساد العظيم، وكان الأمريكيون بحاجة إلى الرعاية والاهتمام.
بعد ذلك في عصر التلفزيون، عمل الحكام الأمريكيون على تطوير «فن الرعاية»، ليصبح من حديث عبر الإذاعة إلى ظهور على الشاشات، محاولين تجنب زلات الخطأ، كما حدث مع «ريتشارد نيكسون» وأدى ذلك إلى خسارته في الانتخابات عام 1960. وتمثلت هذه الزلة في ظهوره أثناء أولى مناظراته المباشرة دون القدر الكافي من الماكياج ضد «جون كيندي»، وكانت هي المناظرة الأولى من نوعها في الولايات المتحدة. حينها كان المظهر مهمًّا جدًا على عكس ما كان في السابق، وإلى غاية اليوم أصبحنا في زمن نسمع فيه الحكام ونراهم على القدر الذي نرى فيه أبناءنا وعائلاتنا. الكثير من الشعب أصبح يهتم بمظهر الحاكم وكأنه ينتظر موعدًا غراميًّا!
إن هذا التغير في المعايير واضح جدًا في الولايات المتحدة، وأصبح رئيس الولايات المتحدة اليوم رئيسًا للحكومة، ورئيسًا للدولة في آن واحد، وهذا الأمر ليس موجودًا في الدول الغربية الأخرى، ويحدث ذلك في الولايات المتحدة في محاولة من الرئيس لكسب الأصوات.
يمكننا القول إن ظهور الراديو والتلفزيون أدى إلى توسعة مهام الرئيس، لتشمل إضافة إلى مهامه التعزية والمواساة وطمأنة الناس. تلك المهام الجديدة لم تكن موجودة بشكل كبير حتى القرن الماضي.
من الواضح أن أهمية هذه المهام قد زادت مؤخرًا بسبب الصراع السياسي في الولايات المتحدة.
لا معنى لخرف بايدن
قبل سنوات من المناظرة التلفزيونية بين «بايدن» و«ترامب» في 27 يونيو 2024، كان من الواضح لأي شخص يهتم بالشؤون العامة الأمريكية أن «بايدن» يعاني من الخرف وأن أداءه الرئاسي مُوجَّه من خلال مستشارين ومسؤولين غير مشهورين، وبالنسبة للأمريكيين الذين لا يحتاجون إلى علاقة شخصية مع الرئيس لرعاية مصالحهم، ما يهم هو جودة الحكم التي قدمتها إدارة «بايدن» خلال السنوات الأربع الماضية ونتائج السياسات التي اتبعتها، فإذا أعيد انتخاب «بايدن»، فمن المتوقع استمرار نفس الحوكمة والسياسات حتى نهاية ولايته الثانية أو حتى وفاته! أيهما يأتي أولًا.
ستستمر المصالح التي تسيطر على «بايدن» في السيطرة عليه من خلال نفس المستشارين أو آخرين من اختيارهم، بغض النظر عن هوياتهم. في فيلم «الكثيب»، تتولى رئيسة الكهنة التلاعب بحكم إمبراطورية مجرية لتنصيب شاب إمبراطورًا، يعلم الجميع أنه مختل عقليًّا، ما يهم هو أنه يمكن السيطرة عليه. وبالمثل، فإن السيطرة على «بايدن» واضحة وستستمر إذا أعيد انتخابه.
ومن ناحية أخرى، بالنسبة للأمريكيين الذين لا يحتاجون إلى علاقة شخصية مع الرئيس، فإن غرور «ترامب» ليس أقل أهمية، «ترامب» أظهر غروره بلا خجل لمدة نصف قرن، ومع ذلك، نجح في تحويل الحزب الجمهوري إلى حزب شعبوي محافظ اجتماعيًّا وانتُخب رئيسًا.
أما السياسات التي ستتبعها إدارة «ترامب» الثانية معروفة مثل تلك التي ستتبعها إدارة «بايدن»، وخلال إدارته الأولى، بذل «ترامب» قصارى جهده للوفاء بوعوده الانتخابية، لا يوجد سبب للاعتقاد بأنه لن يفعل ذلك مرة أخرى، ووعوده في حملة 2024 مشابهة لوعوده السابقة، وأنصار «ترامب» يدركون عيوب شخصيته، لكنهم يحبون خطابه وسياساته، إنه يتحدث عن حقائق لم يكن غيره مستعدًا للحديث عنها قبل عام 2016، منها أن النخب الحاكمة عملت على إفقار العمال الأمريكيين من خلال السعي المستمر للحصول على العمالة الأجنبية الرخيصة في التجارة الحرة والهجرة من الدول الفقيرة.
ومن الحقائق الأخرى تحدث بها «ترامب» أن العدالة الاجتماعية ليست مسألة عرق أو جنس أو تفضيل جنسي فقط، وأن هناك جنسين بشريين فقط، وأن البشرة البيضاء لا تجعل الشخص بالضرورة شريرًا، وأن إبعاد المسلمين عن الولايات المتحدة يعتبر وسيلة أرخص وأكثر إنسانية وأكثر فعالية لحماية أمريكا من العنف الإسلامي مقارنة بغزو البلدان الإسلامية!
وإلى جانب كل ذلك كانت أفعال «ترامب» في منصبه متوافقة بشكل غير عادي مع وعود حملته، ومقارنة بالحكام السابقين فقد وعد «فرانكلين روزفلت» في حملته الانتخابية عام 1932 بموازنة الميزانية الفيدرالية، ووعد «ليندون جونسون» في عام 1964 بعدم إرسال قوات أمريكية إلى فيتنام؛ وعارض «بيل كلينتون» التجارة الحرة مع الصين بشدة في عام 1992، لكن كل منهم فعل عكس ما وعد به، أما «ترامب» فكان على عكسهم.
الشخصية والحدة العقلية أقل أهمية
كان أنصار التصويت للرئيس على أساس السمات الشخصية يبررون ذلك بالحاجة إلى حسن الخلق والحدة العقلية لمواجهة الأزمات غير المتوقعة، مثل احتمالية اندلاع حرب نووية، ومع ذلك، خلال فترة حكم رئيس أناني، لم تتدهور العلاقات مع الدول المسلحة نوويًّا إلى حد يهدد بالحرب. كذلك، لم يتسبب رئيس خرف متزايد في نشوب حرب نووية خلال الأزمات الأخيرة مع روسيا والصين.
الرئيس مقيد بطرق تمنعه من بدء حرب نووية بسبب الخرف أو الأنانية، كما أظهرت تصرفات الجنرال «مارك ميلي» لتقييد خيارات الرئيس ترامب النووية. كما أن التعديل الخامس والعشرين للدستور الأمريكي يمكن أن يمنع الرئيس من استخدام الأسلحة النووية من دون سبب وجيه.
في الأزمات الأقل وضوحًا من حرب نووية محتملة، قد تكون حدة ذهن الرئيس وشخصيته أكثر أهمية، ولكن هذا غير مؤكد. في السنوات الأخيرة، تفاقمت مشاكل أمريكا بشكل مزمن وتهدد بأن تصبح حرجة، ما يجعل شخصية الرئيس وذكائه العقلي أقل أهمية مقارنةً بفترة الحرب الباردة.
فخلال الحرب الباردة، كان للرئيس دور كبير في تجنب الحرب النووية، كما في أزمة الصواريخ الكوبية. لكن في الوقت الحالي، تتفاقم المشاكل مثل إفقار الطبقة العاملة والفساد الثقافي ونمو ديون الحكومة، وهو ما يجعل الشعبويين يرون أن الديمقراطية تدهورت منذ عقود.
الناخبون الأمريكيون يدركون أن الصراع السياسي بين النخب الحاكمة والشعبويين أصبح أكثر حدة، مما يقلل من أهمية الحاكم الطيب والجذاب. بدلا من ذلك، يعتمد اختيارهم على اعتبارات أكثر إقناعًا من مجرد السمات الشخصية.
إيكابود دبلوماسي أمريكي سابق
عن آسيا تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة حرب نوویة من خلال رئیس ا لم یکن
إقرأ أيضاً:
الوضع السوري بين إدارة بايدن وترامب.. خلافات حول مستقبل القوات الأمريكية
صرّحت هبة القدسي، مدير مكتب الشرق الأوسط في واشنطن، بأن قضايا الشرق الأوسط تتصدر النقاشات الدولية في الوقت الحالي، مشيرة إلى وجود تحركات سريعة تهدف للتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس.
وأوضحت القدسي، خلال مداخلتها في برنامج "حضرة المواطن" على قناة "الحدث اليوم"، أن الوضع في سوريا يشهد تطورات معقدة، حيث تختلف وجهات النظر بين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
وأضافت أن إدارة ترامب أعلنت سابقًا عدم اهتمامها الكبير بالشأن السوري، مع احتمالية اتخاذ خطوات لسحب القوات الأمريكية من سوريا.
وتابعت أن الضغوط الدولية وتحركات الأمم المتحدة، بما في ذلك التواصل مع أحمد الشرع، تُظهر قلقًا واضحًا بشأن مستقبل سوريا، سواء في ظل حكومة شاملة كما ترغب الأطراف الغربية، أو مسارات أخرى قد تزيد من التوترات في المنطقة.