كيف يبني الروائيون المكان في أعمالهم؟
تاريخ النشر: 14th, July 2024 GMT
كثيرا ما يتبادر إلى أذهاننا عند قراءة رواية ما عن تفاصيلها التي ولدت من قلم كاتبها، نتوهم أحيانًا أنها ليست إلا نسجا من خياله الخصب، لا سيما إن كانت الإشارة في مستهل الرواية إلى أن «النص لا علاقة له بالواقع، وأي تشابُه في الأحداث أو الأسماء فهو محض مُصادفة»، وقد نفطن في بعض المواضع إلى أنها تُلامس الواقع لا سيما إن امتلكت قدرة الوصول إلى وجدان القارئ وعاطفته مع إشارة واضحة من الكاتب إلى أن «شخوص الرواية وجميع أحداثها هي من صُلب الواقع».
ولكن اليقين التام أن تفاصيل الأمكنة المرسومة في بعض الروايات بعناية ليست إلا مواقع واقعية عاش فيها الروائي يوما، أو هي مسقط رأسه المحفور في كل زاوية منه ذكرى، وقد تكون بقعة من بقاع الأرض وطأها فبقيت في مخيلته وأبى إلاّ أن يتخذ شخوص رواياته منها موطنًا.
ويبقى السؤال كيف يبني الروائي عالمه؟ وما العناصر المرتبطة بهذا البناء؟ وما مدى حضور الواقع والخيال في البناء المكاني والزماني في العمل الروائي؟
أسئلة خاض فيها هذا الاستطلاع، وأجاب عليها بعض الروائيين من خلال تجاربهم في الكتابة الإبداعية .
بصمة المكان
تتحدث الكاتبة شريفة التوبية عن علاقتها بالمكان في الكتابة فتقول: «للخطوة الأولى أثرها في حياة الكاتب، يرتد إليها كما يرتدّ طفل صغير إلى حضن أمه، إنها سيرة المكان والحنين إليه التي لا يخلو منها نص كاتب أو عمله الأدبي، والكاتب مهما ابتعد وهجر بيته الأول، لكنه يظل ابن المكان الذي أتى منه، وتظل روحه هائمة في تلك الأماكن التي سكنها يومًا وما زالت تسكن ذاكرته. وذلك ما اكتشفته في كتاباتي، وفي نفسي، إذ يأخذني حنين خفي إلى مرابع الطفولة الأولى، إلى قريتي «إمطي» التي تدور معظم أحداث ما أكتب على أرضها حتى دون أن أتعمد ذلك. إن «إمطي» أثرها كبير على نفسي وحياتي وتفكيري، خصوصا أعمالي الأدبية التاريخية. إنه العشق لأثر الخطوة الأولى والحب الأول، ومهما أخذنا الخيال بعيدا لكننا ننطلق من واقع نحبه ونألفه، لذلك أبطال أعمالنا يأخذون منا الكثير، يشبهوننا شئنا ذلك أم أبينا، ومهما عبرنا من مدن وعشنا من حيوات، لكن لمرابع الخطوة الأولى أثرها العميق فينا وفي أعمالنا الأدبية، وأظن أن كل من قرأ أعمالي يستطيع أن يرى الحارة القديمة فيها، يتنفس هواءها ويشم رائحة أشجارها، ويسير في دروبها، يلمس جدرانها، وكم من زاروا إمطي وقرأوا أعمالي من قبل، قالوا إنهم شعروا بأنهم رأوا هذا المكان من قبل، وليس غريبا عليهم».
ويبدو أن الروائي والكاتب محمد الشحري لا يعد المكان في الرواية إلا ذاكرة، ويقول: «المكان جزء أساسي في العمل الروائي فلا يمكن لأي حدث أن يقع أو يُقنع القبول به ما لم يحتضنه مكان يقوم عليه البناء السردي، سواء أكان المكان قرية أو مدينة أو صحراء مفتوحة، وليس بالضرورة أن يكون المكان في العمل الروائي نسخة طبق الأصل من المكان الواقعي، بالإضافة إلى ذلك فإن المكان في العمل الروائي هو ذاكرة يعود إليها الكاتب لخلق الأحداث وتطورها».
ويضيف: «شخصيا المكان عندي في الواقع حنين وليس جغرافيا وفي العمل الروائي شاهد إثبات على مجريات الوقائع التي تفتعلها شخصيات الرواية، أيضا قد يتم تغيير أسماء الأمكنة للتهرب من الرقيب الرسمي والاجتماعي الذي يعتبر الرواية تاريخا أو صورة فوتوغرافية للأمكنة».
البحث والتوثيق
قد يتعدى الروائي في اشتغاله على عمله أن يكتفي بالمكان المحيط به، ويستلزم ذلك العودة للكتب التاريخية أو البحث في الخرائط والوثائق الإرشيفية، وربما السفر كجزء من عملية الكتابة، لإعطاء صورة حقيقية وواقعية للمكان.
حول ذلك يقول الروائي زهران القاسمي: «يعتمد ذلك على العمل الروائي وتشكُّلِ المكان فيه، وهل للمكان دور كبير في العمل أم لا، ففي رواية القنّاص مثلا كان للمكان دور أساسي بسبب ارتباط شخوص الرواية بتلك البيئة الجبلية والبحث عن الوعول التي تعيش في قمم الجبال، لذلك كان لابد لي أن أذهب إلى المكان وأعرف تفاصيله حتى أستطيع كتابة كل تلك التفاصيل عنه، وأستطيع تكوين صورة بصرية لدى القارئ عن ذلك المكان، وبالتالي كنت في هذا العمل وأيضا في رواية جوع العسل قريبا من تفاصيل المكان، وخدمني كثيرا أنني من قرية جبلية وتفاصيلها تقترب كثيرا من تفاصيل العمل الروائي، لكن هذا لا يعني أن المكان المتخيل لا يشكل دورا رئيسيا أيضا في الكتابة، ولكن الاستعانة بحضور المكان ورؤية صور عنه يجعل الكتابة أسهل في وصف المكان».
ويقول الكاتب طارق المنذري: «عندما يقوم الكاتب بوصف مكانٍ مُعين فهو يحتاج إلى جميع أنواع الفنون السمعية والبصرية؛ لأنهُ كلما اقتربَ من تفاصيل المكان كان أقدر على التعبير عنه، خاصة عندما نتحدّث عن الأمكنة التي اندثرت، ولم يعُد لها وجود، وهذا تحدٍّ كبير، فالكاتب في هذه الحالة يصف بناءً على تخيُّله للمكان، لذلك قد يختلف الوصف من كاتب إلى آخر، فعلى سبيل المثال إذا أخذنا إحدى الحارات العُمانية القديمة وطلبنا من مجموعة من الكُتّاب وصفها فسنخرُج بمجموعة أوصاف مُختلفة، وكأن كل كاتب يتحدّث عن حارة مُختلفة، والسبب هو الطريقة التي يبني بها كل كاتب ذلك المكان في خيالاتِه، بناءً على ما وجدهُ من وصف في الأفلام والصور أو حتى الوثائق والمخطوطات».
الخيال والابتكار
ويصر محمد الشحري على أن المكان الذي يكتبه الروائي هو عمل خيالي سواء تشابه مع الواقع أو كان مخالفا له، ويذكر مثالا على ذلك: «كما اخترع الروائي الكولومبي جابريال ماركيز قرية ماكوندو في روايته العظيمة مائة عام من العزلة، ومثله اخترع ويليام فولكنر مدينة جيفرسون لينطلق منها في سرد روايته الضوء في أغسطس».
وحول ذلك تقول شريفة التوبي: «يعتمد العمل السردي الأدبي على المكان كعنصر أساسي لبناء النص، وتبرز عبقرية الكاتب في خلق مكان متخيّل من واقع موجود، وذلك بأن يرسمه بكفاءة عالية تجعل من القارئ قادرا على تصوّره والشعور به كما تخيّله الكاتب، وأغلب الأمكنة في الأعمال الأدبية هي أماكن موجودة سواء في ذاكرة الكاتب أو في قلبه أو ما زال يعيش فيها، الكاتب وأن أخذه الخيال بعيدًا عن واقعه ومكانه، لكن هناك خيط رفيع يربطه بما رأى وعاش وشعر، تلك محرّكات أساسية لرسم المكان المتخيّل، الذي يناسب فكرة النص وشخصياته وحبكته. أحيانا يكون المكان نفسه ملهما للكتابة، فيأتي المكان أولا ومن ثم يبدأ الكاتب رسم أحداث الحكاية المتخيلة بما يناسب بيئة المكان وطبيعته، والكاتب كلما كان شعوره بالمكان قويًا يستنطق الحجر وجدران البيوت المندثرة، ستبوح له بأسرارها وحكاياتها، وهذا ما حدث معي في ثلاثية البيرق، فالقرية وحاراتها القديمة ووديانها وجبالها، كل ذلك كان ملهمًا لي ودافعًا لأن أكتب عن أولئك البشر الذين عاشوا في ذلك المكان، في فترة تاريخية مهمّة وصعبة، لقد تخيّلت تلك الأحداث التي انبثقت من تاريخ لم يُحك ورواية لم ترو، تخيّلت أبطال الرواية يسيرون في حارة تشبه تفاصيلها «إمطي» وأسميتها «حارة الوادي».
ورغم أننا نلمس الواقع في كثير من الأعمال الروائية إلا أن الروائي بقدرته الفذة على تصوير الخيال بصورة أقرب للواقع تجعلنا في حيرة ما إذا كان المكان واقعا أم خيالا، ويقول زهران القاسمي: «مهما استطعنا وصف المكان كما نراه ولكنه في الحقيقة لا يعني أنه هو ذات المكان الذي نعنيه في الواقع، فالكتابة في العمل الروائي تعتمد بجلها على التخييل حتى في وصف المكان، فالكاتب لا يحتاج من وصفه لبقعة ما إلا ما يخدمه في تكوين الصورة البصرية لدى القارئ، ولكل قارئ صورته عن المكان التي تختلف بالطبع من قارئ آخر، فهو هنا ليس أمام صورة فوتوغرافية واقعية إنما أمام وصف لتفاصيل تشكل لديه تلك الصورة، والكاتب يعتمد على رسم تلك التفاصيل بكلماته ويغير فيها كما يشاء حسب مقتضيات العمل».
ويضيف القاسمي مثالًا على ذلك: «في رواية تغريبة القافر تم ذكر البئر التي غرقت فيها أم القافر وهي طوي لخطم، في حين أن التفاصيل تختلف كثيرًا عن واقع الطوي الحقيقية التي أعرفها، وفي جبل الشوع وصف القرية المأخوذة من إحدى القرى العمانية أخذتها من تفاصيل أكثر من قرية وركبتها ببعضها لصنع قرية أخرى متخيلة».
التأثيرات الأدبية والثقافية
وعن تأثير ثقافة الروائي على المكان في عمله يقول محمد الشحري: «من الطبيعي أن تهيمن ثقافة الكاتب على اختلاق الأمكنة وتقديمها للقارئ وكأنما يتجول فيها، ولذلك نجح الكاتب الاسباني كارلوس زافون في رباعياته بنقل القارئ إلى مدينة برشلونة والتجول معه في شوارع المدينة وأزقتها، وكذلك فعل الروائي الفرنسي باتريك موديانو حين يصف مقاهي باريس وتفاصيلها».
ويقول طارق المنذري: «لاشك أن الإنسان ابن بيئته، فهو أقدر على وصف المكان الذي تربّى فيه، لذلك بإمكان ابن البحر التعبير عن البحر أكثر من غيره، وهكذا، إلا أن الكاتب عليه ألا يحصر نفسه في بيئة واحدة، بل يجب عليه أن يكون واسِع الأفق في اختيار أماكن وبيئات مختلفة، وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ كبير، حيث إن على الكاتب أن ينقل المكان من الواقع إلى الورق، ويجعل القارئ يعيش أجواء المكان وتفاصيله، وهو ما يحتاج الكثير من البحث والمُطالعة، وزيارة أماكن شبيهة بالمكان الذي يختار الكتابة عنه».
الدور النفسي والاجتماعي للمكان
وقد تستخدم الأمكنة لتعكس الحالة النفسية للشخصيات أو لتوجيه الحبكة، ولكن يبدو أن المكان هو أيضا مرتبط بنفسية الكاتب ومدى ارتباطه العميق بالمكان في الواقع.
حول ذلك قالت شريفة التوبي: «العلاقة بين الإنسان والمكان هي علاقة نفسية، فهناك مكان نحبه ونألفه وهناك مكان لا نألفه، بحكم ما لدينا فيه من ذكريات، والشخصية الروائية التي يخلقها الكاتب على صفحات الرواية تتحرك في إطار هذا الهاجس النفسي في علاقتها بالمكان، والكاتب الجيد يستطيع ربط الشخصية بالمكان إلى درجة أن القارئ يستطيع الشعور بكآبة الشخصيات أو فرحها من تفاصيل المكان في المشهد. وعند رسم الشخصية أو تشكيلها في العمل الأدبي، على الكاتب أن يدرس المكان أولا، من حيث طبيعته وجغرافيته وحتى مناخه، هناك عادات وتقاليد تؤثر على تكوين الشخصية حتى في انفعالاتها وطريقة تفكيرها وتصرفاتها، وكذلك اللهجة والظروف التي عاشتها تلك المنطقة في الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية والتي تنعكس على الحالة النفسية لشخصيات الرواية من حيث المزاج العام أو طريقة حياتهم. لا يمكن أن يكون المكان بيئة جامدة او خلفية صامتة، بل بيئة متفاعلة وحيّة، سواء على النطاق الضيق لوجود الشخصية أو المكان الواسع المفتوح، فالشخصية الحزينة لا ترتاد أماكن بها فرح مثلاً، والمكان وحده يستطيع أن يخبر القارئ عن نفسية الشخصية حتى دون أن تتحدث تلك الشخصية عن نفسها».
ويقول زهران القاسمي: «هذا يعتمد على الحالة التي يود الكاتب أن يشير إليها أثناء الكتابة، فعندما نصف شخصا مسترخيا على كرسي أمام شاطئ رمليّ والبحر أمامه يمتد بزرقته ستتبادر في ذهن القارئ مباشرة حالة الاسترخاء والهدوء والسكينة في نفسية الشخصية، وكذلك ستنعكس الحالة النفسية للشخصية عندما نصف غرفة مظلمة قاتمة الظلال بينما الشخصية تقبع في زاوية منها وسيتبادر في ذهنية القارئ أن هذه الشخصية انطوائية أو مكتئبة وهكذا. في رواية تغريبة القافر كانت هناك شخصية انعزالية باسم الوعري، ارتبط بمزرعته النائية التي عاش فيها دون أن يختلط مع الآخرين».
وتمتزج الأمكنة بجوانبها النفسية على الشخوص وسير الأحداث، ويعتقد طارق المنذري أن المكان هو أحد أبطال العمل الأدبي، ويتماهى مع بقية الأبطال، ويصنع الأحداث معهم، ويضيف: «عندما يختار الكاتب المناطق القريبة من البحر تجِدهُ يُرسل إحدى شخصياته إلى البحر لتفريغ الهموم، أو إلى الجِبال للعُزلة وحديث النفس، وهكذا، فعلى الكاتب توثيق العلاقة بين الأبطال والأمكنة حتى يخرُج بنصّ أدبي مُتكامل، تتجانس فيه الأمكنة مع أحداث وأبطال العمل».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المکان الذی المکان فی من تفاصیل أن المکان فی روایة
إقرأ أيضاً:
خبيرة طاقة المكان: تصميم المنزل وألوانه يؤثران على الطاقة الإيجابية والراحة النفسية
أكدت سها عيد، خبيرة علم طاقة المكان، أن تصميم المنازل يلعب دورًا أساسيًا في تعزيز الطاقة الإيجابية، مشيرة إلى ضرورة اختيار ألوان هادئة وتجنب استخدام اللونين الأسود والأحمر، خاصة في غرف النوم والمطابخ.
وأوضحت عيد، خلال لقاء مع الإعلامية فاتن عبدالمعبود في برنامج صالة التحرير المذاع على قناة صدى البلد، أن الطاقة السلبية في المنازل قد تنشأ من تصميم الأثاث وشكل المنتجات المستخدمة.
وأكدت أهمية تنظيم الغرف بطريقة جغرافية منسقة، لتجنب التأثير السلبي على الحالة النفسية للسكان.
كما أشارت إلى أن الأسرة المصنوعة من النحاس تساعد في تحقيق راحة نفسية أكبر، نظرًا لعدم قدرتها على نقل الكهرباء، مما يعزز بيئة نوم مريحة.
لكنها حذرت من عادة تخزين المستلزمات أسفل السرير، إذ قد يؤدي ذلك إلى شعور بالقلق وعدم الاستقرار.
وفي سياق آخر، نبهت عيد إلى أن ظهور كميات كبيرة من النمل الأسود في المنزل قد يكون مؤشرًا على وجود طاقة سلبية أو حسد، مشددة على أهمية معالجة هذه الظواهر بوعي واهتمام.
واختتمت عيد حديثها بالدعوة إلى الثقة بالنفس والشعور بالنجاح كجزء من تعزيز الطاقة الإيجابية في الحياة اليومية، مع التركيز على تحسين تصميم المنازل ليكون ملائمًا لدعم الراحة والهدوء.