معركة القرضابية.. كفاح ونصر صنعه الأبطال الليبيون
تاريخ النشر: 14th, July 2024 GMT
جمع الطليان قوات كبيرة وأرغموا سكان السواحل التي يحتلونها على الانضمام إلى قواتهم، وكان على رأسهم رمضان السويحلي زعيم مصراتة، فالتقوا بالمجاهدين عند القرضابية (قصر بوهادي). وكان رمضان السويحلي على ما يبدو قد اتفق مع السنوسيين على أن يندس بقواته مع الجيش الإيطالي الذي كان يقوده الكولونيل الإيطالي ماني.
ويقول الشيخ الطاهر الزاوي: «وقد تواترت الأخبار عمن لهم صلة برمضان بأنه كان يعتزم الانقلاب على الجيش الإيطالي إن لم يوافق المجاهدون على الصلح، وقد صرح رمضان بهذا للشيخ محمد بن حسن حينما قال له ـ والجيش على أهبة الخروج من مصراتة ـ: كيف تحارب إخوانك المسلمين؟ فقال له رمضان: أنا ذاهب لدعوتهم إلى الصلح، فإن امتنعوا فسأنقلب معهم على الطليان، واعتزام رمضان الانقلاب على الطليان لا يشك فيه إلا مكابر».
وبدأت المفاوضات بين الجيش الإيطالي والسنوسي من أجل الصلح، وقام العقيد ماني بإرسال وفد من زعماء العرب يتكون من أربعين فارساً، ولما وصل الوفد إلى الجيش السنوسي رفض الرجوع، وكان ذلك في 11 جمادى الثاني 1333ه، ورجع بعض الأفراد إلى القوات الإيطالية.
خدعة حربية من المجاهد الكبير صفي الدين السنوسي:
أمر صفي الدين حمد بك سيف النصر بأن يعلن جهاراً بأنه سيغزو ورفلة، وسرعان ما وصل الخبر إلى العدو بواسطة الأشخاص الذين عادوا من المعسكر، وبعض الجواسيس، فاتفق رأي القائد الإيطالي وأركان حربه أن يرجع عبد النبي بالخير بقواته للدفاع عن ورفلة قبل أن يصلها سيف النصر، وبذلك خسر القائد الإيطالي هذا القسم من قواته وقائده عبد النبي، وقبل اندلاع المعركة أعلن صفي الدين بأن الليبيين الذين مع الجيش الإيطالي هم من المجاهدين، وسوف ينقلبون على القوات المعتدية، وارتفعت الروح المعنوية لدى المجاهدين السنوسيين، وعندما سمع (ماني) الخبر جرد الليبيين من السلاح، وكلَّفهم بنقل المؤن فقط، ووضع الأعيان بسيارات خاصة، وبذلك خسرت القوات العربية، إضافة إلى جيش ورفلة، وتقدمت قوات أحمد سيف النصر يقتفي أثرها خلسة، فكان يختفي بالنهار، ويقتفوا أثرها ليلاً، وكان من المؤكد عند الطليان أن أحمد سيف النصر ذهب بقواته ليغزو ورفلة، وقدر الله تعالى وصول قوات جهادية إلى المعسكر السنوسي بعث بها صالح باشا الأطيوش من جهة الخشة، كما وصل عبد الجليل سيف النصر وأخوه عمر بنجدات أخرى.
وقائع القرضابية
اشتبك الفريقان في معركة طاحنة يوم 14 جمادى الثانية 1333 هـ، وقد سيطر بادئ الأمر الطليان حتى كادوا أن يحوزوا الراية السنوسية، وعندها باغتهم أحمد سيف النصر من الخلف، واشتدت المعركة حول العلم السنوسي، فأنقذ بعد أن استشهد الكثير من المجاهدين حول البيرق السنوسي، واستطاع رمضان السويحلي في تلك اللحظات الحرجة أن يصل إلى جنوده من مصراتة، وأصدر أوامره بإطلاق النار على الطليان، فأطلقوها عليهم من الخلف، فكانت بداية النهاية، فحاص الجيش في بعضه حيصة الحمر، ورجعت أولاه على أخراه، واختلطت خيله برجله، وارتكس بعضه في ذلك الجيش، ولم ينجُ منه إلا 500 جندي، ونجا العقيد ماني إلى سرت مجروحاً مع من بقي من جيشه، وبقي في مكان المعركة كل ما كان مع الجيش من معدات الحرب وعتادها، من إبل وخيل، وبنادق ومدافع ورشاشات، ومن بين ما غنمه المجاهدون صحيحاً اثني عشر مدفعاً من مدافع الميدان، وعشرين مدفعاً رشاشاً، وسبع سيارات، وعشرون ألف بندقية، وقسماً عظيماً من الذخيرة، وقسم المستشفى العسكري بجميع معداته، وجميع المؤن.
وكان أفظع ما يقع عليه نظر الإنسان تلك الأكوام من الجثث البشرية، وبمجرد وصول ماني إلى سرت جرد جميع العرب من الأسلحة، وعقد مجلساً عسكرياً، وحكم بالإعدام على كثير من السكان ومن أبناء العرب الذين التجؤوا إلى سرت، وفي مقدمتهم من الأعيان والرؤساء: الحاج محمد القاضي من مسلاتة، والحاج محمد بن مسعود من قماطة، وحسونة بن سلطان، وأبو بكر النعاس، وأحمد بن عبد الرحمن من ترهونة، وقتل من غيرهم نحو سبعمئة، وأصدر أمراً بالقتل العام، فصار الجند يقتلون الناس في الشوارع وعلى أبواب البيوت، ويربطون العشرة والعشرين في حبل واحد ثم يقتلونهم، ورمى كثير من الناس بأنفسهم في البحر فراراً من التمثيل بهم، فكان منظراً مريعاً.
وبعثوا إلى روما نحو ألف أسير أكثرهم من السكان والحمالين الذين استأجروا جمالهم، وبدأت قوات المجاهدين في تطهير البلاد من الأنجاس المعتدين، وتركت الحاميات الإيطالية حصونها بسهولة وهامت على وجهها عبر التلال والسهول المحرقة الجافة، وحررت مزدة، والقصبات، وسرعان ما وصل المجاهدون إلى ابن غشير، على بعد 15 ميلاً من طرابلس، وصدرت الأوامر للإيطاليين بالانسحاب الكامل إلى الساحل، وقضي على حامية ترهونة كلها أثناء هروبها إلى البحر، واستسلم ألف إيطالي في بني وليد دون مقاومة، وانسحبت حامية غريان إلى العزيزية، ثم أجبرت على الانسحاب بسرعة إلى طرابلس، وأخليت مصراتة وزوارة. لقد كانت القيادة الفعلية لمعركة القرضابية للسيد المجاهد الشهير صفي الدين السنوسي، والقادة السنوسيين الذين معه، وقد ساندهم مساندة فعالة المجاهد رمضان السويحلي بجنوده، وانضمَّ معهم في الوقت المناسب.
المراجع:
1- علي محمد الصلابي، الثمار الزكية في تاريخ الحركة السنوسية، ج2، ص 302.
2- الطاهر الزاوي، جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، ص. ص 153-172.
3- محمد الطيب وأحمد إدريس الأشهب، برقة العربية الأمس واليوم، القاهرة، مطبعة الهواري، ص 300.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: الجیش الإیطالی صفی الدین سیف النصر ما وصل
إقرأ أيضاً:
معركةُ الوعي
غيداء شمسان
في متاهات الحياة، حَيثُ تتشابك المصالح وتتصارع الأفكار، تظل معركة الوعي هي المعركة الأبدية، هي شرارة لا تنطفئ، ونار لا تخمد.
ليست معركة بالسيوف والرماح، بل هي حربٌ تخاض في عقولنا وقلوبنا، حرب تحدّد مساراتنا وقراراتنا، حرب ترسم ملامح مستقبلنا، إنها معركة مُستمرّة لا تتوقف، معركة تستنزف طاقاتنا، ولكنها في الوقت ذاته، تشحذ هممنا وتوقظ فينا طاقة التغيير.
الوعيُ هو البوصلة الداخلية التي توجّـهنا في بحر الحياة المتلاطم هو النور الذي يبدد ظلام الجهل والتضليل، هو السلاح الذي نحارب به الأفكار المغلوطة والقيم الزائفة، الوعي، هو القدرة على التفكير النقدي، هو التساؤل والبحث، هو عدم الاستسلام للجاهز والمسلم به هو أن نرى الواقع بعيون مفتوحة، وأن نفهم القوى التي تحَرّك هذا العالم.
معركة الوعي لا تنتهي؛ لأَنَّها معركة ضد الذات، ضد ميولها نحو الراحة والاستسلام، إنها معركة ضد القوى التي تسعى إلى تضليلنا، وتشويه الحقائق، وغرس الأفكار التي تخدم مصالحها، إنها معركة ضد التلقين الأعمى، وضد الخرافات والأوهام، وضد كُـلّ ما يقيد عقولنا ويحد من حريتنا.
في هذا العصر الذي تتسارع فيه وتيرة الأحداث، وتتزايد فيه وسائل الإعلام والتواصل، أصبحت معركة الوعي أكثر أهميّة من أي وقت مضى نحن نعيش في عالم مليء بالمعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، عالم يسعى فيه الكثيرون إلى التحكم في أفكارنا وآرائنا في هذا العالم، يصبح الوعي هو الدرع الواقي، هو السلاح الفتاك، هو الأمل في غد أفضل.
معركة الوعي، هي معركة فردية وجماعية في آن واحد، إنها معركة تبدأ في ذواتنا، عندما نختار أن نكون واعين، وأن نفكر بأنفسنا، وأن نرفض الاستسلام للقطيع وهي معركة جماعية عندما نتحد معًا، ونتبادل الأفكار، ونعمل؛ مِن أجلِ بناء مجتمع واعٍ، مجتمع يؤمن بالحرية والعدالة والمساواة.
إن طريق الوعي ليس سهلًا، فهو يتطلب جهدًا وتضحيةً وتفانيًا، ولكنه الطريق الوحيد نحو التحرّر الحقيقي، والتقدم الحضاري، والعيش الكريم، إنها معركة تستحق أن نخوضها بكل قوة وإصرار؛ لأَنَّها معركة؛ مِن أجلِ المستقبل، ومستقبل أجيالنا القادمة.
معركة الوعي لا تنتهي، ولكنها تستمر وتتجدد مع كُـلّ جيل جديد، ومع كُـلّ شرارة أمل تنبعث في الظلام هي معركة مُستمرّة، لا تعرف الهزيمة؛ لأَنَّها معركة؛ مِن أجلِ الإنسانية ذاتها.