محمد البطاشي
تداعت الأمم المُتحدة قولاً -المُتخالفة فعلاً- مُمثلة في مجلس الخوف الدولي المُسمى زورًا وبهتانًا بـ"مجلس الأمن الدولي" الذي انعقد وبصورة عاجلة لبحث الهجوم الروسي على مستشفى للأطفال في أوكرانيا، ورغم وجاهة الدعوة وفداحة الجريمة من الناحية القانونية والأخلاقية -إنْ صحت التهمة- فإنَّ تلك الدعوى تنطوي على تناقض ونفاق صارخ للممارسات والأفعال للدول صاحبة الدعوة، والتي نصبت نفسها خصمًا لروسيا وأعطت نفسها الحق في تقرير ماهية الجرائم التي تصنف على أنها جرائم حرب أو ضد الإنسانية؛ ذلك أنَّ هذا المجلس ومن ورائه ذات الدول صاحبة الدعوة قد صَمَتت صمتَ القبور ولا تزال منذ تسعة أشهر على جرائم الاحتلال التي لم يُسجل لها التاريخ مثيلا؛ فمنذ السابع من أكتوبر عام 2023 والكيان المحتل يرتكب من الجرائم والمجازر ما لم يسمع به العالم من قبل؛ بحيث لم يسلم من جرائمه وشروره بشر ولا شجر ولا حجر، فمن قتل مباشر ومتعمد للمدنيين العزل، إلى تدمير المساكن على رؤوس ساكنيها وتدمير المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء والجامعات ودور العبادة وقطع المياه والكهرباء والحصار والتجويع والتنكيل بالناجين من المذابح الجماعية، وقتل الصحفيين وعمال الإغاثة والهلال الأحمر، وقصف سيارات الإسعاف، إلى آخر قائمة طويلة من جرائم الحرب التي لا تنتهي، ولكن العالم والأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يحركوا ساكنًا، وتعامَوا عن كل ذلك، ولم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد جلسة نقاشية.
قبل ذلك، تفجرت فضيحة مدوية مجلجلة تتعلق بالحكم التاريخي الذي أصدرته محكمة الجنايات الدولية بحق قادة وزعماء الاحتلال، وما صاحب هذا القرار من تنديد وهستيريا غربية، وصلت إلى حد تهديد القضاة الدوليين بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هم مضوا قُدما وأصدروا أوامر اعتقال بحق هؤلاء من عتاة الإجرام في العالم، في سقوط أخلاقي مدوٍّ للسردية الغربية والشعارات البراقة التي تلُوكها ألسنة السياسيين والإعلاميين الغربيين ليل نهار، ويتفاخرون بها أمام شعوب العالم، والتي انكشفت الغايات والمآرب الخفية من ورائها.
ولا تزال أمريكا وبريطانيا وألمانيا تتزعم المساعي الرامية إلى عرقلة العدالة الدولية وعرقلة عمل المحكمة الدولية وترهيب القضاة، وهذه جريمة شنعاء يندَى لها جبين البشرية ويسجلها التاريخ في صحائفه السوداء، وتستوجب جلب قادة هذه الدول إلى ساحة القضاء لتقول العدالة كلمتها.
لقد أزاح طوفان الأقصى الغشاوة عن أعين الأكثرية من شعوب العالم، وكشف الغطاء عن حجم النفاق والتمييز العالميين اللذين يمارسان ضد أغلب شعوب العالم، بينما تبقى دول وشعوب مُعينة فوق العرف والقانون وبعيدة عن يد العدالة والمساءلة، كل ذلك وغيره من التمييز والانحياز الأعمى يُنبِئك بمدى زيف الشعارات والادعاءات البراقة والأباطيل التي ترفعها الدول الاستعمارية والمنظمات العالمية العابرة للقارات، ومن يسيرون خلفهم بعيون عمشى وعقول صغيرة وقلوب ميتة.
يجتمع مجلس الشؤم لأجل شبهة قصف مستشفى في أوكرانيا، ويتعامى عمَّا يفعله الاحتلال في غزة والضفة الغربية، فأيُّ عار هذا وأي شنار يلتحف به المجلس المذكور؟ فأين شعارات العدالة والمساواة التي يتشدق بها المنافقون والأفَّاكون من الغرب والشرق؟ لقد تبخَّرت وذهبت أدراج الرياح ولم يعد لها من باقية، فهي مجرد شعارات يُراد توظيفها لمصلحة أهل الباطل، وورقة توت يستر بها النظام العالمي عوراته الكثيرة، ومخلب قط لترويض الأنظمة الوطنية وسيوف مسلطة على رقاب الشعوب الحرة التي تسعى للتحرر من ربقة الاستعمار والاستكبار العالمي، لتبقى الأنظمة والشعوب في بيت طاعة النظام العالمي المتوحش الذي لا يشبع من ثروات وخيرات الدول والشعوب الخانعة ويعدها سوقاً رائجة لبضائعه الكاسدة.
إنَّ ما يجري في غزة لم يكن ليحدث ويستمر لولا مشاركة ما يُسمى بـ"المجتمع الدولي" الظالم في هذه الجريمة المستمرة مشاركة مباشرة بالمقاتلين والسلاح والمال وكافة أنواع الدعم اللوجستي، عبر جسور لا تنقطع بحرا وجوًّا وبرًّا، في مقابل صمود خارق لأصحاب الأرض فاق الخيال رغم الحصار والتجويع وسياسة الأرض المحروقة، واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، ووسط خذلان عربي يُحير أفكار العقلاء، وما وقف وثبت مع غزة وأهلها إلا ثلة من الأحرار الشرفاء من جبهة المقاومة وأحرار شعوب العالم وقادته، الذين أبصروا الحقيقة وسقطت الغشاوة عن أبصارهم، فطفقوا يجوبون الشوارع في مظاهرات حاشدة وهم اليوم يقودون تحولا فكريا عميقا ضد هذا الظلم والطغيان والتوحش الذي تمارسه الصهيونية العالمية وأتباعها على الأنظمة والحكام والسياسيين والمثقفين، وكل المؤثرين -إلا من رحم ربك- تحركٌ نَرَاه بدأ يؤتي ثماره عبر تزايد المشاركين فيه، وتحول قناعاتهم وتحررهم من غسيل الدماغ الذي مارسته عليهم وبشكل مكثف وممنهج المنظمات والمؤسسات الصهيونية والماسونية عبر عشرات السنين من التضليل والتزييف وقلب الحقائق وتزيين الباطل، وإلهاء الناس والضغط عليهم وتغييب وعيهم وإفسادهم وإشعال الفتن والحروب ونشر الأمراض الفتاكة والأوبئة، وتخريب الذوق العام وتمكين كل فاسد وجاهل ومجرم وموال لهم.
تحوُّل نراه الآن جليًّا في نتائج صناديق الانتخابات؛ تمثل في سقوط أنظمة وأحزاب عتيدة، وتبدل سياسات راسخة ظالمة استمرت لسنوات طويلة، وصعود تيارات فكرية متنورة وأحزاب تحررية ظلت حبيسة الظل لسنوات طويلة، كل هذا حدث بفعل "طوفان الأقصى"، وما كشفه من عورات النظام العالمي والتوحش الغربي والنفاق العالمي الفج، وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين والعنصرية البغيصة المترسخة في نظام القطبية الواحدة، تحول ينبئ بمستقبل مغاير سيسفر عن وجهه عما قريب، تتغير معه معالم الخارطة السياسية الحالية للعالم ويبزغ معه فجر جدبد يميل إلى العدالة والمساواة، عالم فيه مسحة من الإنسانية والعقلانية ويسعى إلى خير البشرية ورفاهها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ربيع السنوار
د. إبراهيم بن سالم السيابي
لا ندري إذا كان البعض يتذكر ما أطلق عليه الربيع العربي وثورات الربيع العربي، وهي حركات احتجاجية سلمية ضخمة انطلقت في بعض البلدان العربية خلال أواخر عام 2010 ومطلع 2011، وما تبعها من أحداث وسقوط لبعض الأنظمة العربية، وكذلك إجراء بعض الإصلاحات في بعض الدول والتي قوبلت بالاستحسان من شعوب بعض الدول، ولسنا هنا بصدد تقييم نتائج هذه الأحداث ولا حتى الخوض في أسبابها.
نحن اليوم بصدد الحديث عن ربيع آخر ولكنه ربيع سنطلق عليه ربيع السنوار، السنوار هذا القائد الفلسطيني، الذي ينسب إليه التخطيط والتفنيذ لطوفان الأقصى ، والذي قضى شهيدًا وهو يدافع لآخر رمق عمَّا أعتقد أنه لن يناله إلّا بالقوة، كما أخذ بالقوة، استشهادًا بقول الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر عندما قال "ما أحذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة"، في خضم كفاحه ضد إسرائيل.
السنوار، لم يفاوض لأجل العيش مرفهًا في إحدى العواصم هو وأسرته مع حصوله على الأرصدة الضخمة من النقود في حسابه، ضامنًا لحياته وحياة أسرته؛ بل ظل على خط النار يقود المعارك في مقدمة الصفوف طالبًا للحرية والكرامة مهما كلف الأمر، ورحل عن هذه الدنيا جسدا وبقي رمزا، ليس لأبناء بلده فحسب، ولكن للعالم اجمع، خاصة عندما تناقلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي اللحظات الأخيرة لاستشهاده وهو يرفع يديه معلناً بأن الأبطال تظل أيديهم مرفوعة مع الحق والشرف والأمانة.
فما هو ربيع السنوار؟
1- وضع للعالم أجمع معادلات جديدة للعلاقات بين الشعوب، فلم يعد ينطوى على أحد كلام العلاقات المنمق عن العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة بين البلدان، فجميع العلاقات تبنى من أجل مصالح الشريك الأساسي والمصلحة معه ولتترك العلاقات والمصالح المشتركة جانبا فلم يعد لها قيمة في هذه المعادلات.
2- أسقط كبرياء بعض الدول التي كانت تتغنى بقيادة العالم، وأن كلامها هو الفصل في العالم وأنها تهيمن بقوتها وجبروتها على هذا العالم، فالأحداث والعدوان على غزة بعد طوفان الأقصى، فضح هذه الدول ومن في صفها، فا هي دولة العدوان تمضي في غيها وجرائمها التي لم يسبق لها مثيل وعلى مرأى من العالم أجمع، دون حتى الاكتراث برأيها؛ بل إنه ألزمها بتقديم كافة وسائل الإسناد والمساعدة بالتالي المشاركة مع هذا الكيان في جرائم حرب الإبادة التي تتنهج قتل المدنين العزل من الأطفال والنساء العزل.
3- اظهر حالة الانفصام بين القيادة والشعوب الذي يعيشه هذا العالم الذي يدعى التقدم والديمقرطية، والذي طالما اتهم بلدان العرب بهذه التهم، حيث تتظاهر شعوب هذه الدول ضد حرب الإبادة وتتطالب بإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المتمثلة في إقامة دولة مستقلة على أراضيه، بينما تقف قيادات هذه الشعوب مع هذا الكيان رغما عن إرادة هذه الشعوب.
4- وأد حلم التطبيع مع هذا الكيان الغاصب بدون حداد، فهذه الرغبة كانت لا تخص الشعوب بل كانت بعض القيادات السياسية، وحتى في رغبة هذه القيادات الآن في المضي في هذا الأمر فإنهم لن يجدوا أي متطبع من هذه الشعوب فقد قضي الأمر والشعوب العربية مع فرقتها مع تنوع أفكارها وأختلاف توجهاتها لن تضع يدها مرة أخرى مع هؤلا القتلة المجرمين.
5- أعاد للشعوب العربية روح القومية العربية التي ربما، قد كانت نائمة في قلب كل عربي ولكنه لم يمت بالرغم الفرقة بالرغم التشرد، بالرغم ما يحاط به من مؤامرات من الداخل والخارج، ولكن يبقى العربي الأصيل ودمه ووجدانه يثور، عندما يتعرض أخوانه إلى الظلم أو تتعرض مقدساته للتدنيس، فيعود ثائرا، فلمدة عام كامل وهو يتسمرون أمام شاشات التلفاز يتابعون الأحداث في كل وسيلة، ولسان حالهم يلهج بالدعاء بأن ينصر الله المقاومة ويخفف عن أهل غزة معاناتهم.
6- أطلق آخر رصاصة في نعش، من كان يروج لاختلاف المذاهب والفرقة وفضح أمر أولئك الذين كانوا يعزفزن على وتر التفرقة، فظهرت لأول مرة أقوال المشايخ وقادة هذه المذاهب وهم ينبذون الفرقة ويدعون الى توحيد الصف والجماعة، وأن صراع هذه الأمة صراع الحق ضد الباطل وهو صراع وجود وصراع عقيدة.
7- أعاد اسم دولة فلسطين إلى العالم أجمع، وليس اعترافاً بدولة فلسطين في الأمم الممتحدة وكذلك اعتراف عدة دول أخرى بدولة فلسطين إلا نتائج هذا الربيع، حيث كان اسم هذه الدولة وقضيتها العادلة ليست في طي النسيان.
8- السنوار وهو يرفع في آخر لحظات حياته يده اليسرى يقاوم ويرمي طائرة العدو، بينما اليد الأخرى مضرجة بدماء طلبِ الحرية، أعاد صياغة مفاهيم هذا العالم وذكر شعوبها، بقيمة الأوطان وتراب الأوطان وأن لاقيمة لحياة الإنسان دون وطنه واستعادة أرضه المحتلة من الغير.
9- نبه السنوار في ربيعه بضررورة مراجعة الموسسات الدولية، وإعادة قراءة القانون الدولي مرة أخرى؛ بل إعادة تدريسه في المؤسسات الأكاديمة بصيغة مختلفة وإعادة صياغة بنوده من جديد.
10- أخيرًا كتب السنوار آخر رسائله للعالم العربي، بأن العربي مهما بلغ من الضعف، ومهما بلغ من قلة الحيلة، فإنه قد يسترجع أيامه وتاريخه عندما يتذكر بأنه يدافع عن شرفه وعن كرامته وأن التاريخ لا يسجل في صفحاته ولا يتذكر إلا من يدافع عن أمته وشعبه ووطنه، فعليكم قراءة التاريخ من جديد.
في الختام.. نكتب، وأقلامنا تقطر دمًا على الشهداء في غزة ولبنان، شهداء هذا العدوان الوحشي الغادر، وتنفطر قلوبنا على أولئك المشردين والمحاصرين في غزة بلا طعام أو شراب أو مأوى أو علاج.
ندعو الله أن يكون في عونهم ويشد من أزر أولئك المقاتلين الذين يقاتلون من أجل الشرف والحرية وضد قوى البغي والعدوان، ويؤيدهم بنصره وليس ذلك على الله بعزيز.