تجويد التعليم العالي.. تحدِّيات وحلول (2)
تاريخ النشر: 14th, July 2024 GMT
د. يحيى بن ربيع النهدي *
تطرقت في مقال سابق إلى الممارسات الخاطئة في اختيار الأستاذ الجامعي في مُؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي، التي أسهمت -بشكل ملحوظ- في تدني جودة التعليم في هذه المؤسَّسات، وما يُقابلها من نماذج ناجحة في الاختيار انتهجتها جامعات الدول المُتقدمة، التي أوصلت كثيرًا من هذه الجامعات إلى سلم تصنيف الجامعات العالمية.
وأورد المقال السابق مشكلة إلزام الأستاذ الجامعي بساعات تدريسية طويلة مع التزامات إدارية أخرى كالمشاركة في اللجان وتنظيم الفعاليات وغيرها.... مما يحرمه من التفرغ للبحث العلمي والإنتاج الفكري، علما بأنَّ هناك تفاوتًا في تخصيص الساعات التدريسية والالتزامات الإدارية الأخرى بين مؤسسة أكاديمية وأخرى، وسمح هذا الوضع بالمبالغة من قبل بعض هذه المؤسسات في تحديد الساعات التدريسية والالتزامات الإدارية لأعضاء هيئة التدريس؛ مما أثر سلباً في عملية استبقائهم واستمرارهم في المؤسسة وأصبح همهم الأساسي البحث عن مؤسسة أخرى تقدم عبئاً تدريسيًّا والتزامات إدارية أقل. ويكمُن الحل في الحد من هذه التفاوتات وتقنين عملية توزيع الأعباء التدريسية والالتزامات الإدارية للأكاديميين في مؤسسات التعليم العالي أراه يأتي من الجهة المشرعة لقطاع التعليم العالي في السلطنة؛ وهي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار؛ فهي من تمتلك المسوغ في إلزام مؤسسات التعليم العالي بتوزيع موحد للساعات التدريسية وغيرها من الالتزامات الإدارية للأساتذة الجامعيين، وإن لم تفعل فسوف تستمر هذه المؤسسات في الضغط على الأساتذة الجامعيين بُغية تقليل التكلفة وبالتالي التضحية بالجودة.
وفيما يخصُّ استقطاب الطلبة المُتميزين دراسيًّا ليبدأوا كمعيدين، ورغم انتقادي -في مقالي السابق- لهذه الطريقة، لكنها ما زالت هي الأفضل من بين طرق اختيار أخرى تطرق إليها نفس المقال، ومنها استقطاب أصحاب مهن خارج إطار مهنة التدريس أو استقطاب أكاديميين -غير عمانيين- ليسوا أكفاءً. والسبب في ذلك أن هذا الخريج الذي سوف يكون مُعيدًا ما زال في بداية مشواره الوظيفي، ولديه القابلية للتطوير وقبول التحدي؛ وبذلك فإنَّ الاستثمار فيه يكون مجديًا؛ لذلك على هذه المؤسسات أن تتولى تطويره وبصفة مستمرة. وتبدأ مرحلة التطوير بضمان حصوله على مؤهل الماجستير، ومن ثمَّ الدكتوراه من جامعات ذات تصنيف مرموق، وهو أمر معمول به في كثير من الجامعات، لكن الجانب التطويري الأهم في الارتقاء بهذا المعيد؛ ليكون أكاديميًّا ناجحًا هو تعويده على البحث العلمي؛ فالبحث العلمي هو قلب وظيفة الأستاذ الأكاديمي، فلا يوجد أكاديمي ناجح بدون إنتاج بحثي غزير؛ وعليه يلزم المعيد في الجامعات بإنجاز بحثي سنوي معيَن يكون مرتبطا بتجديد عقده الوظيفي، يقابله التقليل من عبئه التدريسي، وليس كما هو معمول به حاليا، كلما قلت الدرجة الأكاديمية ارتفع العبء التدريسي؛ فكيف لملتحق جديد أن يتفرغ للبحث العلمي وهو مكبل بمحاضرات من صبحه إلى مسائه، وما تبقى من وقته يذهب إلى التزامات تدريسية أخرى؛ ناهيك عن أنَه ما زال حديثا على المهنة وله من الخبرة القليل وبالتالي إمكانية إنجازه في الشقين التدريسي والبحثي بكفاءة يكون صعبا.
أمَّا فيما يخص استقطاب أصحاب المهن من خارج مهنة التدريس؛ ليكونوا أساتذة جامعيين، فأرى أن تلحق هذه الفئة ببرامج طرق التدريس؛ حتى يكتسبوا المهارات التدريسية، يصاحبه إلحاقهم بالمحاضرات الاختيارية لمدة فصل دراسي كامل، مع وجود مقيِّم لهم طوال هذه الفترة؛ لاختيار الأمثل والأصلح للعمل كأستاذ جامعي، على أن يُلزم من يقع عليه الاختيار بترك وظيفته والتفرغ الكامل للتدريس. ويصاحب ذلك أيضًا إلزامهم بإنتاج بحثي سنوي يكون مرتبطا بتجديد عقد توظيفهم، مع إشراكهم في كل ما له علاقة بالتدريس، مثل المشاركة في اللجان الأكاديمية؛ حتى وإن كانوا متعاونين.
أمَّا عن الحلِّ في ضمان وجود أكاديميين -غير عمانيين- من ذوي الجودة العالية في التدريس، فعلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار أن تشدد على عملية اختيار مؤسسات التعليم العالي الأساتذة الجامعيين الأجانب، وأن يكون الاختيار تحت الإشراف المباشر من قبل هذه الوزارة؛ وذلك بتشكيل لجنة مكونة من أعضاء محايدين تُعنى باختيار هؤلاء الأكاديميين، بمعنى ألَّا يكونوا من مؤسسة التعليم العالي التي أرادت استقطاب العضو الأكاديمي؛ فترك عملية الاختيار خالصة للمؤسسات يشوبه شيء من عدم المصداقية -في بعض الأحايين- وذلك لأن بعض هذه المؤسسات يحكمها الربح كونها مؤسسات خاصة، وعليه فإنَّ مراعاة المادة – في بعض منها - يكون هو الفيصل في اختيار العضو الأكاديمي؛ ولهذا السبب نرى تكدس أكاديميين من جنسية بعينها دون الجنسيات الأخرى ممَّن لا يمتلكون أدنى ما تتطلبه وظيفة أستاذ جامعي.
وبعد أن تطرَّقت إلى كيفية الوصول لطرق مُثلى في اختيار الأساتذة الجامعيين، أودُّ أن أعرج على الجانب المادي لهؤلاء الأكاديميين الذي يجب أن يكون مجزيا فيما لو أرادت مؤسسات التعليم العالي تطوير أساتذتها ورفع جودة مخرجاتها، فحتى لو كان هناك أكاديميا ناجحا، ولم يوفّى حقه ماديا؛ فلن يستمر في تفانيه في عمله، وسوف يكون إلتزامه التدريسي محدودا بما هو مطلوب منه دون إضافة أو تجديد. لكن -وللأسف- كثير من مؤسسات التعليم العالي الخاصة لا تولي هذا الأمر اهتمامًا، وبدلا من رفع العائد المادي للأكاديميين، تقوم بتكبيلهم بواجبات إدارية كثيرة يتزامن ذلك مع ساعات تدريسية طويلة مما يقلل من عطائهم الأكاديمي؛ لذلك تأتي أهمية الحضور الحكومي في متابعة أداء مؤسسات التعليم العالي؛ لضمان جودة مخرجاتها، ومنها -بل أهمها- جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة؛ فعلى الرغم من وجود الهيئة العامة للاعتماد الأكاديمي وجودة التعليم -التي مهمتها الأساسية التأكد من كفاءة المؤسسات التعليمية أكاديميا من خلال متابعة أدائها المؤسسي والبرامجي- إلا أنَّ دور الجهاز في المتابعة المالية والإدارية لهذه المؤسسات لا غنى عنه؛ فقد نص قانون الرقابة المالية والإدارية للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 111/2011 في المادة (20) على أن تخضع "الشركات المملوكة للحكومة بالكامل أو تلك التي تسهم فيها بنسبة تزيد على 40% من رأسمالها للجهات الخاضعة لرقابة الجهاز....."، ورغم أنَّ أغلب مؤسسات التعليم العالي الخاصة لا تقع تحت رقابة الجهاز، إلَّا أنَّ القانون كذلك أوضح صراحة بأنَّ أحد أهداف الجهاز هو "حماية الأموال العامة للدولة والأموال الخاصة التي تديرها أو تشرف عليها أي من الوحدات الخاضعة لرقابة الجهاز......". وبما أن مصدر العوائد المالية لمؤسسات التعليم العالي الخاصة في السلطنة تأتي معظمها من موازنة الدولة، ففي عام 2017 -في جريدة عُمان- تحدثت المديرة العامة للجامعات والكليات الخاصة بوزارة التعليم العالي -آنذاك- عن الدعم المقدم من الوزارة لهذه المؤسسات المتمثل في "دعم الحكومة للجامعات الخاصة بنسبة (50%) من رأس المال، وبما لا يتجاوز ثلاثة ملايين ريال عماني، علاوة على المكرمة السامية التي تفضل بها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم -طيب الله ثراه- لعدد من الجامعات الخاصة بمقدار 17 مليون ريال عماني لكل جامعة، مع حصول بعض مؤسسات التعليم العالي الخاصة -آنذاك- على العديد من الإعفاءات الضريبية والجمركية المفروضة على المؤسسات والشركات الأخرى". فضلا عن البعثات والمنح الممولة من قبل الحكومة لمؤسسات التعليم العالي الخاصة التي هي المصدر الأقوى لدخل هذه المؤسسات، ولولا هذه المنح والبعثات لما تمكنت معظم هذه المؤسسات من الاستمرار.
وقد تضاعف هذا الدعم في الأعوام الأخيرة، وآخرها تفضُّل مولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله وأبقاه- بمنح مكرمة لمؤسسات التعليم العالي الخاصة في السلطنة؛ وذلك بإعفاء بعضها من الرسوم المترتبة عليها نظير حق الانتفاع وتملك الأرض الممنوحة لها. ودعم الحكومة لقطاع التعليم العالي -سواء كان ماديًّا أو عينيًّا- مستمر، وهنا كان لا بدَّ من إيجاد مسوغ يتيح لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة لتقييم أداء مؤسسات التعليم العالي الخاصة، والتحقق من استخدام هذه المؤسسات الموارد المالية الحكومية بكفاءة ومثالية؛ ممَّا يسهم بدوره في رفع جودة مخرجات مؤسسات التعليم العالي الخاصة في السلطنة.
* أكاديمي
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزير التعليم العالي يشارك في جلسة حوارية عن "بنك المعرفة المصري – الدولي" بالكويت
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
شارك الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في الجلسة الحوارية ضمن فعاليات المؤتمر العام السابع والخمسين لاتحاد الجامعات العربية، المنعقد بدولة الكويت الشقيقة، حيث تم استعراض مسيرة نجاح “بنك المعرفة المصري – الدولي” من مشروع قومي إلى منصة إقليمية رائدة في مجال البحث العلمي والتعليم.
وشهدت الجلسة حضور كل من الدكتور عمرو عزت سلامة، الأمين العام لاتحاد الجامعات العربية، والدكتور عبد المجيد بن عمارة، الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية، والدكتورة جينا الفقي، القائم بأعمال رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا والمشرف العام على بنك المعرفة المصري، والمهندس ماجد الصادق، الأمين العام لبنك المعرفة المصري والقائم بأعمال رئيس الشبكة القومية للمعلومات العلمية والتكنولوجية.
كما شهدت الجلسة حضور نخبة من رؤساء الجامعات العربية، الذين شاركوا في الحوار المثمر حول سبل الاستفادة من تجربة بنك المعرفة المصري وتوسيع نطاق خدماته على مستوى العالم العربي.
الكويت تحتضن جلسة حوارية حول دور بنك المعرفة المصري في نهضة البحث العلمي العربيوتناولت الجلسة رحلة نجاح بنك المعرفة المصري، حيث استعرض وزير التعليم العالي، كيف تحوّل البنك من مبادرة قومية طموحة إلى منصة إقليمية فاعلة، مشيرًا إلى الإشادة الدولية التي تلقاها البنك من منظّمتي اليونسكو واليونيسيف، حيث نظمت المنظمتان في مايو ٢٠٢٤ زيارة دراسية للمشروع في إطار مبادرة “بوابات التعلم الرقمي العام”، بمشاركة وفود من ٢١ دولة لدراسة عوامل النجاح التي حققها البنك.
هذه الزيارة الدراسية التي حضرها ممثلون من دول عدة، سلّطت الضوء على النجاح الملحوظ لبنك المعرفة المصري، والذي تم تبنّيه كنموذج رائد في دعم التعليم والبحث العلمي في المنطقة.
بنك المعرفة المصري – الدولي: قصة نجاح مصرية تتحول إلى منصة إقليمية رائدةكما تم التأكيد على أن تجربة بنك المعرفة المصري لاقت تقديرًا خاصًا من المنظمتين الدوليتين اللتين وصفتهما بأنه مثال للتعاون الدولي في مجال التعلم الرقمي ودعم التعليم المفتوح. في هذا السياق، تم الإعلان عن توقيع اتفاقية استراتيجية بين بنك المعرفة المصري واتحاد الجامعات العربية واتحاد مجالس البحث العلمي العربية في ١٩ يناير ٢٠٢٥، والتي تهدف إلى توسيع نطاق خدمات البنك لتشمل الدول العربية تحت مسمى “بنك المعرفة المصري – الدولي”.
وقدّم المهندس ماجد الصادق، الأمين العام لبنك المعرفة المصري، عرضًا تفصيليًا حول الخدمات المتنوعة التي يقدمها البنك، والتي تشمل حزم التدريب المتخصصة ومنصة “مؤشر المعرفة المصري” لقياس الأداء البحثي الوطني، بالإضافة إلى “فهرس الاستشهادات العربي (ARCI)” الذي يعزز مكانة المخرجات البحثية العربية على الساحة الدولية.
وتحدّث الدكتور عمرو سلامة، الأمين العام لاتحاد الجامعات العربية، مؤكدًا على دور بنك المعرفة المصري في دعم البحث العلمي والجامعات العربية، وداعيًا الأعضاء للاستفادة من خدماته لتعزيز التعاون المعرفي بين الجامعات العربية.
كما أشاد الدكتور عبد المجيد بن عمارة، الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية، بتجربة البنك ودعا المؤسسات البحثية العربية إلى الاستفادة من حزمة الحلول التكنولوجية التي يقدمها.
وفي ذات السياق، تحدثت الدكتورة جينا الفقي، القائم بأعمال رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا والمشرف العام على بنك المعرفة المصري، مشيرةً إلى دور “مؤشر المعرفة المصري” في قياس الأداء البحثي الوطني، ودعمه للتميز العلمي وتحقيق التحول نحو اقتصاد المعرفة.
اختتمت الجلسة بحوار تفاعلي بين المشاركين من رؤساء الجامعات العربية، حيث تم طرح أسئلة حول سبل الاستفادة من تجربة بنك المعرفة المصري وتوسيع نطاق خدماته على مستوى الوطن العربي، مما يعكس الاهتمام الكبير بهذه المبادرة الريادية.
IMG-20250424-WA0079 IMG-20250424-WA0077 IMG-20250424-WA0078 IMG-20250424-WA0076