لا شك أن سينما المخرج – الممثل هي من بين التجارب الملفتة للنظر التي لجأ ليها ممثلون كثير منهم ذوو شهرة واسعة لكنهم لم يكتفوا بتلك الشهرة التي سلطت عليهم الأضواء كممثلين بل ذهبوا ليجربوا حظهم في ميدان الإخراج وهي تجربة تحمل في طياتها كثير من التباينات ما بين النجاح والفشل لا سيما في حالة الممثلين الناجحين الذين ليس مؤكدا أنهم من الممكن أن يصيبوا ذات النجاح وهم جالسون على كرسي الأخراج ويديرون الأحداث من خلف الكاميرا.

تبرز هنا تجارب ممثلين – مخرجين كبار على مر تاريخ السينما مثل اورسون ويلز وكلينت ايستوود و جورج كلوني ودينزل واشنطن وودي الين وكيفن كوستنر وتوم هانكس وروبرت ريدفورد وداني دي فيتو وغيرهم.

وها نحن أمام تجربة متفردة وملفتة للنظر في الإخراج يقدم عليها الممثل البارع مايكل كيتون الذي يشكل أداؤه التمثيلي علامة فارقة وله جمهوره العريض وعرف بالعديد من الأفلام التي لمع فيها نجمه ممثلا، فقد بدأ ظهوره ممثلا منذ عام 1978 وأصبح له رصيد قرابة 40 فيلما وعرف في أفلام مهمة مثل: دوام مسائي – 1982 و فيلم الرجل الخفاش -1989 وفيلم الرجل الخفاش يعود -1992 وفيلم جاكي براون -1997 وفيلم جاك فروست -1998 وفيلم المرة الأخيرة -2007 وفيلم روبوكوب – 2014 وفيلم الرجل الطائر -2015 والذي تألق فيه إلى حد كبير وحظي بالعديد من الترشيحات لنيل جوائز كبرى من بينها جائزة أوسكار لكنه لم يوفق في الحصول عليها بينما حصل ذلك الفيلم على أربعة جوائز أوسكار في حينه لأحسن فيلم واحسن إخراج وأحسن سيناريو وأحسن تصوير وثم تلا ذلك أفلام مثل فيلم القاتل الأمريكي – 2017 وفيلم موربيوس – 2022 والفيلم التليفزيوني مباشر من بغداد -2002 والذي يحكي قصة المراسل الحربي روبرت وينر إبان حرب الخليج الثانية.

في هذا الفيلم من إخراج كيتون، سوف يقدم نفسه في إطار دراما نفسية – اجتماعية تختلط بالعنف والجريمة، فهذا الرجل النابغة جون نوكس ما هو إلا ضابط مارينز سابق كان يقاتل في حرب الخليج الثانية في وحدات الاستطلاع خلف خطوط العدو وهي وحدات تحتاج إلى مهارات خاصة، لكنه بعد تلك المرحلة من حياته يتجه إلى الدراسة والبحث الأكاديمي فيحصل على شهادتي دكتوراة في الفلسفة والأدب.

قد تبدو هذه مفارقة طريفة أن شخصية كهذه تتجه إلى الجريمة، فها هي المشاهد الأولى من الفيلم تخبرنا أنه وهو في ذروة أعماله الإحرامية فإنه يسابق الزمن مع نوع من الخرف المبكر والمتسارع الذي سوف يمحو ذاكرته بالتدريج، ويستخدم اللقطات المصنوعة مونتاجيا بشكل متميز لتلك اللحظات التي تنطفئ فيها ذاكرته إلى درجة أنه في إحدى عملياته يقدم على قتل أعز أصدقائه عن طريق الخطأ.

ويبرع نوكس في تجسيد الشخصية التي تصارع ذوبان الذاكرة، طريقة النظر إلى الأشياء، التعامل مع الآخرين وبمن فيهم صديقته المقربة آنا – الممثلة جوانا كولينك التي من خلالها يتكشف ركن آخر من أزكان شخصيته.

على أن التحول الجذري في هذه الدراما الفيلمية والذي أدى إلى بث العديد من الحبكات الثانوية في السرد الفيلمي تكمن في إقدام ابنه الوحيد ميلز – الممثل جيمس مارسدن على قتل صديق ابنته القاصر أي حفيدة نوكس التي اعتدى عليها وتسبب ذلك في حمل غير شرعي، ها هو الابن يجد نفسه في مأزق فيطرق باب الأب الذي لا علاقة له به لسنوات لكن الأب سوف يستقبله ويدله على طريقة التخلص من آثار الجريمة التي ارتكبها.

ها هما الشخصيتان تلتقيان في نقطة جوهرية وهي الاشتراك في عالم الجريمة، بالطبع خلال ذلك لا يتوانى نوكس عن الاستعانة بصديق عمره وعرابه الذي يكلفه بالعمليات الإحرامية كزافي – الممثل آل باتشينو وهو دور ربما كان تكريما لهذا الممثل الكبير وذا التاريخ الطويل ربما من باب الصداقة التي تربط ما بين كيتون وباتشينو، وهو هنا بمثابة التلميذ أمام المعلم وهو يتدخل أكثر لسد فجوات الذاكرة المعطوبة التي تتهاوى بالنسبة لنوكس.

وفي هذا الصدد تعلق الناقدة جانيت كاتسولس في صحيفة نيويورك تايمز على الأحداث قائلة إن متعة هذا الفيلم تكمن في نقطة التوتر بين القدرات العقلية المتدهورة بسرعة لنوكس وخطته الملتوية الدقيقة لحل مأزقين، مأزقه هو نفسه وإقدامه على ارتكاب جرائم قد تكتشف ومأزق ابنه وكل ذلك في حين يخدع المحققة الماكرة (سوزي ناكامورا) التي تتبعه بدقة، ومع ذلك فإنه يقدم لنا أداءً ملفتا في الاسترخاء والسيطرة على الأحداث.

أما الناقد كاسيمير هارلو من موقع اف فورومس فيذهب إلى أن كيتون يستحق الثناء على منجزه هذا الذي جاء ربما من لا شيء ومن نقطة التلاشي الذهني مع ضرورة البقاء على المسار الصحيح، الحفاظ على الذات وإنقاذ الابن في مقابل توريطه بالجريمة لكن الحيلة المركزية التي لجأ إليه نوكس مقنعة إلى حد كبير، حيلة تبقيك في الظلام باستمرار مع إنه ليس فيلمًا كلاسيكيًا، أنه فيلم في شكل مفاجأة لطيفة للغاية بالفعل، وجهد إخراجي لائق بتاريخ كيتون، إنه يستحق المشاهدة من أجله وحده.

هذه الحصيلة النقدية وغيرها كثير مما كتب حول الفيلم تكرس إشكالية دراما الجريمة والتحولات الدرامية المصاحبة لها والتي درجنا على مشاهدتها في العديد من الأفلام من النوع نفسه هذا، والملاحظ هنا هو تلك العمليات الغامضة التي كان نوكس يقدم عليها وهو يخفي آثار جريمة ابنه، لكي ينتهي به الأمر إلى السجن ويعتقد الابن أن أباه هو الذي انتقم منه والصق به تهمة قتل الرجل الذي كان على علاقة من ابنته.

على أن نظرتنا للفيلم بصفة عامة أنه قام على موازنة موضوعية ممتعة ما بين ما تقوم به سلطات التحقيق التي ترأسها ايميلي – الممثلة سوزي مكنمارا وفريقها، وبين الذاكرة التي تتشظى وتتهشم وتنطمس التفاصيل أمام نوكس وهو يسجل ما حوله في دفتر ملاحظات، وتخيل أنه يدير جرائمه بتلك الطريقة حتي ينتهي به الأمر في تلك الزاوية الغامضة ما بين الذكاء المفرط والاختباء وراء الخرف والنسيان.

وإذا اقتربنا أكثر من نسق المعلومات التي تتسرب من بين ثنيا الأحداث فإن قسوة نوكس واردة بسبب قطيعة الابن مع والده وكذلك قسوته في التعامل مع صديقته التي جلبت عصابة لقتله فأجهز عليهم جميعا وصوب المسدس إليها ثم لتعتم الشاشة حتى لا نعلم هل إنه انتقم منها أم أخلى سبيلها وبالطبع لا نريد هنا حرق الأحداث في قضيتي الفتاة والابن تاركين للمشاهد الوصول إلى تلك النهايات.

...

إخراج/ مايكل كيتون

تمثيل/ مايكل كيتون، ال باتشنو، جيمس مارسدن، جوانا كولينك

سيناريو / غريغوري بوريير

التقييمات /

أي ام دي بي 7 من 10، روتين توماتو 7 من 10، ميتكريتيك 8 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما بین

إقرأ أيضاً:

إدارة بايدن تسابق الزمن لإنجاز «إرث الأيام الأخيرة»

دينا محمود (واشنطن، لندن)

أخبار ذات صلة روسيا تسقط 36 مسيرة أوكرانية.. وانفجارات تهز كييف واشنطن تفرض عقوبات على كيانات وشخصيات «حوثية» انتخابات الرئاسة الأميركية تابع التغطية كاملة

في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار غالبية وسائل الإعلام الأميركية والدولية صوب الترشيحات التي كشف عنها تباعاً الرئيس المنتخب دونالد ترامب لأسماء أركان إدارته المقبلة، كثفت الإدارة الديمقراطية بقيادة الرئيس جو بايدن، جهودها لإحداث انفراجة حيال عدد من القضايا الرئيسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، قبل الخروج من البيت الأبيض في يناير المقبل.
وبحسب مصادر مطلعة في واشنطن، تتركز هذه الجهود خارجياً، على ملفات مثل الحرب في غزة، بجانب الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن إحراز تقدم على الصعيد الاقتصادي في الداخل الأميركي، بالرغم من أن توفير مزيد من فرص العمل خلال فترة حكم بايدن، لم يضمن لنائبته كامالا هاريس، تحقيق الفوز على ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وأشارت المصادر إلى أن هذه الملفات تحديداً، أثقلت كاهل الإدارة الديمقراطية، خلال السنوات القليلة التي قضتها في الحكم، لا سيما وأن الجهود التي بذلها بايدن وفريقه للسياسة الخارجية، للتعامل مع الصراعات الناشبة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، لم تُكلل بأي قدر يُذكر من النجاح.
وفي الوقت الحاضر، تسعى إدارة بايدن لتحقيق أي إنجاز على صعيد تلك القضايا الداخلية والخارجية، من أجل تأمين «إرث مشرف» لها في التاريخ السياسي الأميركي، قبيل تسليم مهامها بعد نحو شهر، وهو ما حدا بها لتسريع وتيرة محاولاتها لطي صفحة التصعيد العسكري في لبنان.
أما فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، فحرص الرئيس الديمقراطي وكبار مساعديه على اتخاذ خطوات تستهدف مساعدة كييف، على تعزيز موقفها على الأرض، في مسعى لتحسين فرصها في أي مفاوضات مستقبلية مع موسكو، وذلك على ضوء التعهد الذي قطعه الرئيس الأميركي المنتخب على نفسه، بإنهاء المعارك بشكل سريع، من خلال دفع طرفيْ الصراع إلى العودة إلى طاولة التفاوض.
وتشمل جهود إدارة بايدن على الصعيد الداخلي، كما ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، اغتنام فرصة الهيمنة الديمقراطية الحالية على مجلس الشيوخ، لتمرير أكبر عدد ممكن من التعيينات القضائية، قبل أن يتسنى للرئيس الجمهوري المقبل، إدخال موجة جديدة من القضاة المحافظين إلى المحاكم الفيدرالية الأميركية، بعدما يهيمن الجمهوريون على المجلس، اعتباراً من يناير 2025.
وأشار التقرير إلى أنه سبق لترامب، أن نَصَّب خلال فترة ولايته الأولى بين عاميْ 2017 و2021، أكثر من 200 قاضٍ فيدرالي، كما عزز الأغلبية التي يحظى بها القضاة ذوو التوجهات المحافظة في المحكمة العليا، عبر تعيين ثلاثة قضاة، على مدار السنوات الأربع نفسها.

مقالات مشابهة

  • بالأحمر الناري.. ملك أحمد زاهر تخطف الأنظار في احدث ظهور
  • رشحتها جريدة "إندبندنت" لجائزة أفضل رواية!
  • تجربة استثنائية تكشف سر شباب البشرة.. هل يُوقف البوتوكس عقارب الزمن؟
  • دوري أبطال أفريقيا.. الأهلي يصارع شباب بلوزداد على صدارة المجموعة
  • سوق الغزل.. رحلة عبر الزمن ومزيج من التراث والتجارة في قلب بغداد
  • منى زكي درة تاج مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي
  • رد مفاجئ من عفاف شعيب بعد سؤالها عن تقديم سيرتها الذاتية.. ماذا قالت؟
  • إدارة بايدن تسابق الزمن لإنجاز «إرث الأيام الأخيرة»
  • ميلاد عام جديد ورحيل آخر !
  • سائق توك توك يصارع الموت بعد طعنه من مجهولين بأكتوبر