مصطفى علوش يقرأ في مداخلة فياض: الهاجس الشيعي سياسي بامتياز والعقد الاجتماعي يبدد الهواجس
تاريخ النشر: 14th, July 2024 GMT
أمام تصاعد وتيرة الحرب في غزة والجنوب اللبناني، وكثرة السيناريوهات حول اليوم التالي ويبقى السؤال حول النظام الإقليمي الجديد وموقع لبنان في هذا النظام، والذي كان عنوان مؤتمر "التجدد للوطن" الذي عقد في البيال، وفتح نقاشا حقيقيا بعد كلام النائب علي فياض الذي اعتبر ان الجغرافيا السياسية اللبنانية ذات طبيعة منفرجة ومفتوحة، أي إن تأثيرات البيئة الإقليمية عليها حاسمة وسريعة، وغالباً ما يتمفصل الخلاف على تحديد الموقف الجيوستراتيجي وتحديد الاصطفافات الداخلية انطلاقاً من العلاقة الجدلية بينهما.
فتولد الأزمات الخطيرة التي تجمع البعدين معاً، البعد الطائفي أو السياسي الداخلي، والبعد الجيوستراتيجي الخارجي، مع الإشارة إلى أن النقاش في المؤتمر امتد إلى قضايا أخرى يختلف عليها اللبنانيون وتتصل بالهواجس والضمانات والازمة اللبنانية والصيغة والنظام، والتي تشكل كلها مواضيع إشكالية.
الحلقة السادسة وفي هذه الحلقة (السادسة) مساهمة النائب السابق الدكتور مصطفى علوش في مناقشة مداخلة النائب علي فياض:
يقول الدكتور علوش:من علامات الجنون استحضار حلول فشلت في السابق للمشكلات ذاتها"منسوبة لأينشتاين. ولا شك أن عنوان المؤتمر أعطى الفرصة المناسبة لممثل حزب الله للتملص من الخاص المحلي واللجوء إلى العام الإقليمي والدولي ليصبح دوره محللًا استراتيجيًا بدل كونه ممثلًا لتنظيم عقائدي. من هنا تركيزه على مصطلحات تقنية لإعطاء البعد الاستراتيجي لكلامه مثل "جيوسياسية" و"جيو اقتصادية" و"جيو اجتماعية" رغم أنها كلها تعني بالشأن الدولي للسياسة والاقتصاد والمجتمع، لكن استعمال هذه التعابير عن قصد يأتي عادة للإبهار الثقافي خاصة لغير المتخصصين. كما أن الحديث عن قراءة الكتب وتسميتها وتنوع مصادرها استخدمه ممثل الحزب للتأكيد على سعة اطلاعه، وعلى أن كلامه مستند إلى مصادر متنوعة وليس فقط على اليقينيات الحزبية الماورائية التي هي أساس العقيدة التي ينطلق فيها كحزبي لتحليل كل المعطيات وتوظيفها لتأكيد ودعم عقيدته كما مسارات حزبه، بنجاحاتها وإخفاقاتها.
ويقول علوش: رغم كل ذلك، ورغم أن الكلام النظري الذي ذكر في النقاش عن الكلام الصريح لا يمثل في قناعتي حقيقة ما يريده حزب الله ويسعى إليه، أكان محليًا، أم إقليميًا، أم دوليًا، لأن الحزب كما صرح أمينه العام مرارًا وتكرارًا لا يمكن حصره بلبنان كبقعة جغرافية، بل كجزء من مساحات جغرافية وديموغرافية واسعة هي بالنسبة له مئات المرات أكبر من لبنان، لكنني رأيت من الواجب التعليق على ما قاله بمعرض الدراسة الموضوعية.
ركز ممثل الحزب،بحسب علوش، على أنه أعاد قراءة التاريخ اللبناني القريب والبعيد، من دون الحديث عن المصادر، مع العلم أن القراءة لا تكفي للاستنتاجات الصائبة، خاصة عندما يكون القارئ يحلل بناءً على يقينيات حزبية. يقول إن لبنان ذو تركيبة خاصة، وأنه لم يبن على تقاطع مساحات مشتركة، ومن هنا تولد الأزمات. يضيف علوش: هذه المقولة قد تكون عامة لكل الكيانات الافتراضية المسماة أوطانًا في أيامنا هذه، وهي تعالج أزماتها عادة بالعقود الاجتماعية والدساتير القابلة للتطوير، أما إذا لجأ بعض مكونات الكيانات إلى منطق موازين القوى، فإن الأزمات ستتحول حتمًا إلى صراعات غير قابلة للحل السلمي، وبالتالي ستؤدي إلى تفجير الكيان كمؤسسة جامعة، وتحويله إلى كيانات عدة كحل لاستعصاء الأزمات خاصة إن تحولت إلى صراع مدمر. هذه المساحات غير المشتركة ولدت حروبًا مستمرة، لم تبدأ في سنة 2005، ولكنها استمرت منذ سنة 1958، عندما ذهبت الأطراف المتنازعة إلى حلها خارج إطار العقد الاجتماعي، واللجوء إلى الدعم الخارجي لتأمين الغلبة بالقوة المسلحة. وهذا ما حصل سنة 1958 ومن ثم كان سببًا للحرب الأهلية الطويلة والمتقطعة من سنة 1969 حتى اتفاق الطائف، ومن ثم استمرار الاستقواء بالوجود السوري ومن بعدها لمعسكر الممانعة التي تقوده ولاية الفقيه. ويقول علوش: كيان من هذا النوع هش بالتأكيد لكونه يستند إلى مجموعات ومراكز قوى ولا تستند إلى انتماء الأفراد إليه كمواطنين، وعدم قدرة أي مجموعة من السيطرة لم يكن عنصر قوة للكيان لأنه لم يمنع المجموعات من المغامرة لفرض سيطرتها بالقوة خارج نطاق العقد الاجتماعي. بالطبع فإن كون الديموغرافيا مفتوحة على هذا الأساس على الواقع الجغرافي السياسي، لكن هذا الواقع الجغرافي ليس منفرجًا لكون لبنان محصورًا ومأسورًا بين كيان غاصب وعدواني هو الكيان الصهيوني الذي تسبب وجوده بمعظم الأزمات المستعصية الحل، من جهة، وكيانات أخرى إقليمية لم تقتنع بالتخلي عن فكرة ضم لبنان، أكان في سورية الكبرى بعد الاستقلال، أم للإمبراطورية ولاية الفقيه منذ قيام الثورة الخمينية. لكن الأمر هنا مرتبط بتفاعل المجموعات الداخلية وهواجسها مع المعطيات الإقليمية. من هنا فإنه من المنطق التعامل مع الهواجس، بغض النظر عن صحتها، لكونها تمثل السبب الأكثر مباشرة لتهديد الكيان، لكن تبديد هذه الهواجس لا يكمن في تأمين مصالح المجموعات، ولا بتأمين مصادر القوة لتعديل الهواجس، بل بالعودة إلى العقد الاجتماعي الذي يعطي الفرصة للأفراد لتخطي الهواجس لتحريرهم من العسكرة ، وهذا يعني أن علاج الهواجس يكمن في توجه الكيان إلى الأفراد وليس إلى المجموعات، لكون المجموعات تستغل الهواجس الفردية لتأمين التماسك الداخلي واستمرار السيطرة السياسية بمواجهة المجموعات الأخرى. أما بخصوص نوعية الهواجس وتصنيفها بين الطوائف، فإن ممثل حزب الله أخطأ بالتصنيف ما بين سياسي ووجودي، فكل الهواجس تصورها أو تتصورها المجموعات كوجودية لكي تؤمن أقصى التضامن الداخلي معها بمواجهة المجموعات الأخرى، مما يضع الأزمة في حلقة مفرغة من الهواجس المتبادلة، ويصبح عندها الغلبة أو الانفصال المخرجين الوحيدين لتفادي الصراع الدائم لتكون فترة السلام مجرد هدنة ما بين حربين. ولا ينفع تجميل الهاجس الشيعي بكونه مرتبطًا بالمخاطر الإسرائيلية، فكل استطلاعات الرأي أكدت أن الهاجس الأعظم لدى الشيعة في لبنان هو ذاته للسنة والدروز والمسيحيين، وهو سياسي بامتياز مبني على حصة المجموعات في السلطة. وبهذا الوضع، فإن تفاعل لبنان مع المتغيرات الإقليمية والدولية سيكون حتمًا سلبيًا على وحدة الكيان، بغض النظر عما كتبه إيمانويل تود وغسان سلامة حول السياسات والتموضعات الدولية المتحولة دائمًا. ويقول علوش: يهرب المحلل إلى ألفاظ تقنية حول العناصر الجاذبة والطاردة، على طريقة الفلاسفة اليونانيين ما قبل سقراط، ليعتبر أن الوضع المرتبط باستقرار مصادر الطاقة المستجدة في بحيرة الغاز الطبيعي في التوسط بكونه عنصر جذب واستقرار يمنع الجنوح نحو الحرب، كما اعتبر التواصل بين السعودية وإيران في الموضع ذاته. لكن التجارب المرة خلال المئة عام الماضية أكدت أن استقرار مصادر الطاقة والسيطرة عليها كان سببًا لاندلاع الحروب أيضًا، كما أن التفاهم السعودي الإيراني بقي محصورًا بمسائل التخفيف من أسباب العنف مع استمرار مسبباته من قبل سياسة إيران المرتبطة بدعمها للميليشيات المسلحة في مجمل المنطقة. وهذا يعني أن هشاشة هذا التفاهم مستمر بحكم السياسة الإيرانية المستمرة. لكن المتغيرات الحاصلة في الانتخابات الإيرانية الأخيرة قد تكون عنصرًا جاذبًا للاستقرار إن تمكنت إيران من التحول إلى دولة بدل السعي لتكون إمبراطورية. العناصر الطاردة تبقى بالتأكيد، وفق علوش، مرتبطة بالسياسة الصهيونية والغربية بخصوص فلسطين، وهي التي كانت المدخل الدائم منذ مئة عام تقريبًا للاستغلال في التدخلات والصراعات واستمرار الكيانات الاستبدادية، ومن ضمنها إيران الشاه وولاية الفقيه، بالتحكم باستقرار المنطقة واستمرار التدهور الاقتصادي والإنمائي وتدمير الكيانات الهشة التي كانت قائمة. ومع قناعتي بأن حل الدولتين أصبح أنشودة بائدة، فإن السياسات التي يتبعها محور المقاومة ساهمت في تأخير الحلول الممكنة وقسمت الشعب الفلسطيني بقراره السياسي، ودفعت بعضه إلى الانبطاح في سلطة وهمية وفاسدة، والآخر إلى الانتحار في مغامرات عنيفة لا أفق لها، وفي الحالتين دفع ويدفع شعب فلسطين الفاتورة من دمه ورزقه ومستقبله. من هنا فإن الاستنتاج بأن ما يسمى بمحور المقاومة متقدم على محور آخر يبدو واهمًا ولا يستند إلى حجج دقيقة إلا إذا قام على معطيات افتراضية ماورائية، مثل عودة المهدي واقتراب معركة "حر مجدو". وبالتالي نفتقد هنا إلى استنتاج ما هو منتظر بعد هذا التقدم الافتراضي من حلول غير المزيد من الصراع والدمار. كما أن تحديد محور المقاومة مطاط، فهل يشمل نظام بشار الأسد الساعي إلى التملص من الهيمنة الإيرانية بأي طريقة ممكنة، أم النظام القائم في العراق والساعي إلى أفضل العلاقات مع المعسكر الغربي أم اليمن المقسم الذي تستعمله إيران كمنصة لإطلاق الصواريخ بعد تخزين القات. وما هو دور روسيا والصين وفنزويلا مثلُا في هذا المحور... وإذا كان خروج المعسكر الغربي الممقوت من العراق وأفغانستان أدي إلى حكم الحشد الشعبي وطالبان، فلست أدري كيف يمكن ترجمة هذا الخروج كمصلحة للمواطنين في تلك البلاد؟ ويضيف علوش: ما هو غير ظاهر في الكلام هو تحديد دور حزب الله وسلاحه ضمن المحور. فالكلام التأسيسي والعقائدي لحزب يؤكدان أنه دور مرتبط بالكامل بأمة "حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران مع الثورة الخمينية" وأن لبنان هو جزء من هذه الأمة، ولكن ليس كدولة مستقلة، بل كإقليم فيها. وتأكيد أمين عام الحزب أن ولاءه هو للولي الفقيه، قائد الثورة في إيران لا يخدم بالضرورة مبدأ الدفاع عن لبنان، بل على العكس فهو وضعه في قلب معادلة أبعد بكثير من حدوده الجغرافية وجعل منه موقعًا آخر لإطلاق الصواريخ لحساب إيران، وهو رؤيا استراتيجية للمحور، وجعل من سكانه الشيعة أولًا والآخرين ثانية متراسًا لمصلحة المحور. هنا يؤكد ممثل حزب الله أنه يرفض البحث في موضوع سلاح حزبه لأنه يمثل حماية للطائفة التي تمتلكه، أي لتبديد هاجس طائفي شيعي الطابع. والاستنتاج، بحسب علوش، هو أن هذا الهاجس لا علاقة له بإسرائيل، بل بالدور والموقع الذي سيكون للشيعة في المعادلة القادمة، على أساس أن لبنان كيان قيد الدرس. لكنه يعود ويقول إنه على الطوائف أن تضع هواجسها على الطاولة لتحصل على ضمانات، في حين أن هاجس الطوائف الأخرى الأكبر هو سلاح الحزب الذي يرفض البحث به، ولكنه مستعد للبحث في دوره. أي استمراره في خدمة المشروع المرتبط بولاية الفقيه. قد يكون ضيق الوقت أو الهروب إلى التعميم ما جعل ممثل حزب الله يغفل الآثار الثقيلة على المواطن في لبنان بسبب جره قسرًا إلى محور الممانعة، وأغفل أيضًا كيف أدى هذا الأمر إلى تدهور الوضع المعيشي والإداري والاجتماعي للبنان، وكل ما وعد به هو المزيد من التدهور ودفع فواتير المغامرات الممانعة. لكن، يمكن اختصار الشأن اللبناني بالنسبة لممثل حزب الله بأن لبنان مؤلف من مجموعة قبائل طائفية تجتمع متى دعت الحاجة في مجلس زعماء القبائل على طريقة "اللوياجرغا" الأفغانية، يتصدرها ويتحكم بها الزعيم الأقوى بالرجال والسلاح، فيما على القبائل الأخرى أن ترضخ أو تسعى لتقية شأنها، إما بالمزيد من استحضار عناصر القوة المسلحة، أو التحالف مع قبيلة أخرى لتأمين الغلبة، أو اللجوء إلى قوة خارجية لتأمين الغلبة. وهكذا دخل لبنان على مدى تاريخه القديم والحديث في دوامة صراع القبائل والتدمير الذاتي، بحيث أصبح السلام مجرد هدنة تحضر فيها قبيلة مستضعفة مصادر القوة للانتقام. ويقول علوش: ما نراه هو محصور في العودة إلى الاهتمام بهواجس المواطن بدل الطوائف، والبحث عن محور المصالح المشتركة بالتكامل مع نظام المصلحة العربي، والالتزام بالدستور مع الانفتاح على الإصلاحات من دون التهديد بالسلاح، كما جعل القرارات الدولية مظلة تحمي لبنان بدل أن يكون مجرد ساحة لإطلاق الصواريخ. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: من هنا
إقرأ أيضاً:
الصرخةُ.. سلاحُ الوعيِ الذي أرعبَ الأساطيلَ
حينَ صرخَ الشهيد القائد السيدُ القائدُ حسين بدر الدين الحوثي ـ رضوانُ الله عليه ـ في وجهِ المستكبرين، لم تكنْ صرخةً عبثية، ولا شعارًا لحظيًّا، بل كانت استبصارًا قرآنيًّا عميقًا لطبائعِ الصراعِ، واستشرافًا استراتيجيًّا لمآلاتِ الهيمنةِ الأمريكية.
لم يكنْ مجردَ هتافٍ، بل إعلانُ تموضعٍ حضاريٍّ في معسكرِ المستضعفين، وبدايةُ مشروعٍ قرآنيٍّ متكاملٍ يواجهُ الهجمةَ العالميةَ بكلِّ أدواتِ المواجهةِ الممكنةِ: النفسيةِ، والعسكريةِ، والسياسيةِ، الاقتصاديةِ، والثقافيةِ.
الصرخةُ كفعلٍ عسكريٍّ ونفسيٍّ:
قال رضوان الله عليه: «دعوا الشعبَ يصرخْ في وجهِ الأمريكيين، وسترون أمريكا كيف ستتلطف لكم… هي الحكمة، ألسنا نقول: إن الإيمانَ يماني، والحكمةُ يمانية؟».
لقد وعى الإمامُ القائدُ طبيعةَ الصراعِ ومفاتيحَه النفسية والسياسية والعسكرية، فحوّل شعار
«الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام» إلى سلاحٍ نفسيٍّ ووجدانيٍّ وميدانيٍّ، غيّر موازينَ الوعي في الأمة.
لقد أثبتتِ التجربةُ أنَّ الحربَ اليومَ لم تَعُدْ حربَ ميادينَ فقط، بل هي حربُ عقولٍ وأعصابٍ وإرادات.
ولأنّ أمريكا وحلفاءَها يدركونَ أن الهيمنةَ تبدأُ من كسرِ العزائمِ وتطويعِ النفوسِ، كانت الصرخةُ ـ بما تحملهُ من شحنةِ وعيٍ وعقيدةٍ وثبات ـ حربًا معاكسةً تضربُ في العمقِ النفسيّ للعدو، وتفكّكُ بنيتَهُ الإعلاميةَ والمعنويةَ.
فمنذ أن رفعت الصرخةُ، لم تستطعِ الدعايةُ الأمريكيةُ أن تُقنعَ الشعوبَ بعدالةِ مشاريعها، ولا أن تصِمَ أنصارَ الله بالإرهاب، رغمَ سيلِ التهمِ والتضليلِ، لأنها أمامَ جدارِ شعارٍ نقيٍّ، لا يشوبهُ تطرّفٌ ولا يَقبلُ مساومة.
أن بُنيةِ الشعارِ ومفاعيلهِ العسكريةِ والنفسيةِ على ساحةِ الصراعِ الكونيِّ، أهان الاستكبار العالمي في فضح هشاشة القبة الحديدية.
الصرخةُ ومعادلةُ الردعِ البحرية:
في خضمِّ معركةِ الفتحِ الموعود، تحوّل الشعارُ من هتافٍ إلى تكتيك، ومن صوتٍ إلى صاروخ.
أغلقتِ الموانئُ، توقّفَ ممرُّ إيلات، وارتبكتْ حاملاتُ الطائرات، وسُحقتِ الهيبةُ الأمريكيةُ في البحرِ الأحمرِ وخليجِ عدن. ولأولِ مرةٍ في التاريخ، تقفُ البوارجُ الأمريكيةُ عاجزةً عن حمايةِ السفنِ الإسرائيليةِ، وتضطرُّ لمواجهةِ طائراتٍ مسيّرةٍ يمنيةٍ وصواريخَ باليستيةٍ ومجنحةٍ، بعضها فرطُ صوتيّ، انطلقتْ باسمِ الشعارِ، وبروحِ المشروعِ القرآنيّ.
الصرخةُ ومنظومةُ الدفاعِ الجوّي والمعركةُ النفسية:
معركة الثقافة والمصطلحات:
حينَ تحوّلتْ المعركةُ إلى السماءِ، وإسقاط 18 طائرة “إم كيو 9” أمريكي،22 طائرة أمريكية نوع (MQ-9 ) والأف-١٥ والأف-١٦، وسجّلَ أرقامًا غيرَ مسبوقةٍ في التصدي لطيرانِ العدوّ، كانت الصرخةُ هي الموجهَ الأخلاقيّ والعقائديّ للمقاتلِ اليمنيّ. هذا المقاتلُ لا يقاتلُ بدافعِ الأجرِ أو الثأرِ، بل بدافعِ الإيمانِ بالله، والبراءةِ من أمريكا، والولاءِ لمحورِ الحقّ. ومن هنا، فإنّ شعارَ الصرخةِ ـ كما أشار السيد القائد عبد الملك الحوثي، يحفظه الله، أنّ “الشعار” ليس مجرّد هتاف، بل سلاحٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ وعسكريٌّ في وجه قوى الاستكبار.
فهو يفضح الهيمنة الأمريكية، ويُعبّئ الأمة وعيًا ورفضًا للتبعية، ويُمهِّد لموقف عمليٍّ يُثمرُ في ميادين التصنيع العسكري والمواجهة.
ومن الشعار بدأت المسيرة، وبالشعار تستمر حتى تحرير القدس.
مكاسبُ الصرخةِ:
وضوحُ العدوِّ، وكشفُ العملاء، لقد كشفتِ الصرخةُ زيفَ الديمقراطيةِ الغربية، وأظهرتْ أنظمةَ التطبيعِ على حقيقتِها، وأسقطتِ الأقنعةَ عن وجوهِ التبعيةِ السياسيةِ والثقافيةِ والاقتصادية.
فضحتْ الحركاتِ التكفيريةَ التي تحرّكت في سورية وصمتتْ في فلسطين، وعرّتْ العقيدةَ القتاليةَ الغربيةَ التي لا تعرفُ الشرفَ ولا تعرفُ القدس وعندما نقضت أمريكا الفيتو في مجلس الأمن، طبقت الصرخة الفيتو في البحر الأحمر.
الصرخةُ والبراءةُ:
من شعائرِ الحجِّ إلى شعائرِ الجهاد من رميِ الجمراتِ في منى، إلى قصفِ السفنِ في بابِ المندب، تتجلّى الحكمةُ اليمانيةُ في أوضحِ صورِها. فالصرخةُ ليستْ إلا امتدادًا لشعيرةِ البراءةِ التي أُمرنا بها في التوبةِ:
(براءةٌ من اللهِ ورسولِه إلى الذين عاهدتم من المشركين).
وكما نرمي الجمراتِ إعلانًا للعداءِ مع إبليس، نرمي الصواريخَ والمسيراتِ براءةً من الشيطانِ الأكبر، لقد جاءَ هذا الشعارُ متّصلًا بشعائرِ الله، تمامًا كالرجمِ في مِنى، حيثُ يرمي الحجيجُ الشيطانَ رمزًا للبراءة والمواجهة، وهكذا هي الصرخة، رجمٌ للشيطانِ الأكبرِ أمريكا، وقطعٌ لعهدِ التبعية، وإعلانُ سخطٍ دائمٍ في وجهِ الطغيان.
إنها صلةٌ إيمانيةٌ باللهِ تجعلنا أقوياء، وتجعلُ عدوَّ اللهِ ضعيفًا ومرتبكًا أمام ثباتنا.
الصرخةُ والقضيةُ المركزية:
حينَ ارتبطَ الشعارُ بفلسطين، دوَّى في أصقاع الكوكب لتصبح صرخة عالمية.
عندما ارتبطتِ الصرخةُ، شعارُ المشروعِ القرآني، بالقضيةِ المركزيةِ للأمةِ ـ فلسطين ـ تحوّلتْ من مجرّدِ شعارٍ يمنيٍّ إلى صرخةٍ أمميةٍ تتردّدُ في مساجدِ طهران، وساحاتِ بغداد، وجبالِ لبنان، وأزقةِ غزّة، ومدنِ الجنوبِ الأفريقي، وبلدانِ أميركا اللاتينية.
لقد أصبحتِ الصرخةُ رايةً تحتمي بها قلوبُ المحرومينَ، ويتسلّحُ بها كلُّ مستضعفٍ في وجهِ الطغاةِ والمحتلين.
فحيثُ وُجِدَ الظلمُ، يجبُ أن تُرفَعَ الصرخة، وحيثُ وُجِدَ الاستكبارُ، لا بدّ أن يُسمَعَ صوتُ البراءةِ في وجهِه.
وهكذا، لم تعُد الصرخةُ ملكًا لجغرافيا محددة، بل صارتِ الميثاقَ الثوريَّ للأحرار، والدستورَ الأخلاقيَّ للمقاومين، والبوصلةَ التي تُشيرُ دومًا إلى القدسِ، مهما حاولَ المطبّعونَ تشويهَ الطريق.