في تذّكر الدكتور فتحي غطّاس1
(01.o1.1950 – 18. o6.2024)
حامد فضل الله / برلين
تعرفتُ على فتحي غطّاس في منتصف ستينيّات القرن الماضي، عند عودتي الثانية إلى المانيا أو بالأحرى للمرّة الأولى إلى برلين الغربية. لم تجمعنا، زمالةُ المهنةِ فحسب، بل اهتمامنا المُشترك بالعمل العام.
كان فتحي يُدير عيادةً كبيرةً، مع حضورٍ كبير للمرضى، وكانت له علاقات واسعة ومتعددة مع شركات الأدوية، مما سهّل لنا الحصول على كميّاتٍ كبيرةٍ من الأدوية، كنّا نرسلها إلى السودان، لمساعدة الفقراء وأصحاب الدخل البسيط.
بمرورِ السنوات ربطتني علاقةٌ عميقةٌ بالراحل، فكان دائماً صريحاً وواضحاً في طرح آرائه، يعبّر عنها بوضوحٍ تامّ، فهو لا يضع قناعاً على وجههِ.
وفتحي لا يعرفُ الهدوء، فهو دائماً في حركة كأنّه يسابق الزمن، وعند ما يهلّ علينا، تدبّ الحياة في مجلسنا، بسخريتهِ المُحببة وعفويته المُدهشة، وهو يجمع في آن بين الجدّ والهزل، ولا يخلو أحياناً من العناد "وركوب الرأس" هذه الصورة المركّبة لشخصيته، تجعل البعض يحتار في تناقضاتها، ربما فات عليهم جميعاً، إنها الفَرَادة في شخصيته، وهذا ما أحببناه فيه، فنحن -أصدقاءه المقربين- لأننا نعلمَ تماماً نقاءَ سريرته وصفاء نيته وحبّه لفعل الخير.
وفتحي أيضاً سليل أسرة قبطيّة مصريّة سودانيّة عريقة، نزح الآباء الأوائل إلى السودان منذ سنوات طويلة، واندمجت هذه الأسرة في نسيج المجتمع، وكوّنت علاقاتٍ واسعةٍ مع جميع أطياف المجتمع السوداني. فقد كان شقيقه الأكبر الفونس عزيز، يُدير عيادةً كبيرةً "في شارع الحريّة" في الخرطوم، وكان مشهوراً جداً، ويفتح عيادته الخاصة يوم الجمعة لمعالجة الفقراء بالمجّان، وكان ينتمي سياسياً لليسار السوداني.
تعرّفت على الفونس قبل سنواتٍ طويلةٍ، عند زيارته الخاطفة إلى برلين قادماً من دبي، وأشرف الفونس في فترة ما على علاج مرتضى أحمد إبراهيم، وزير الرّي السابق في حكومة السودان، ومرتضى هو شقيق شاعرنا الكبير صلاح أحمد إبراهيم. ولا أزالُ أذكرُ المقال الذي كتبه صلاح في صحيفة "اليوم السابع"، التي كانتْ تُصدر وقتها في باريس، بعنوان لافت:
"النطاسي ال في ايدهُ بركة"
والنطاسي هو المُداوي أو المعالج. وفتحي هو النطاسي الأصغر، وال في ايدهُ بركة أيضاً.
وفتحي "هو البدّي وما بقول أديت، وفتحي هو اليدّو ديمة داخله في جيبه". وما خاب من طرق بابه، إن كان عليلاً أو رقيق الحال.
ظهر في خمسينيات القرن المنصرم الفنان عمر أحمد من مدينة ود مدني جاء مثل الوعد الصادق ومرّ كالبرق وغاب كسحابة صيف وخلّد اسمه في الوجدان السوداني بأغنية “كان بَدري عليك” كان يؤديها بعنفوان صوته الشبابي الشجي وبنبرته الحزينة الحنونة.
ونحن في هذا الجمع النبيل، في هذا الجمع الحزين، نقول لك يا فتحي :كان بدري عليك وعلى وداعك وسوف تظلّ ذكراك دائماً عَطرة نديّة في قلوب البرلينيين.
ولعلي مختتماً ومستشهداً بفقرة من مريود ــ مع تحويرٍ طفيفٍ ــ رائعة كاتبنا المبدع الطيب صالح، الذي قلّما يفلت من طيفه الأدبي كاتبٌ سوداني.
" الاِنسان يا محيميد*.... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين أثنين... الصداقة والمحبّة. وما تقول لي لا حسب ولا نسب ولا جاه ولا مال... ويوم الحساب، يوم يقف الخلق بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول:
ــ يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين فتحي ود عزيز ود غطاس، يقف بين يديك خالي الجراب، مُقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكلمة التي شارك فيها الكاتب في يوم التأبين والعزاء بتاريخ 13 يوليو 2024، بدعوة من الجالية السودانية، والنادي السوداني وجمعية المرأة السودانية في برلين.
* محيميد هو الراوي.
hamidfadlalla1936@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
أمين البحوث الإسلامية: شيخ الأزهر دائما يجدِّد دعوتَه للحوار
قال الدكتور محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية: إنَّ القواعد المحورية الكليَّة لمؤتمر كلية الدعوة الدولي، هي وعاءٌ ميمونٌ يتشارك فيه مجمع البحوث الإسلامية وكليَّة الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، وهو يعبِّر في الوقت ذاته عن رؤية كل قطاعات الأزهر الشريف، وأنَّ المجمع بكل أماناته وإداراته وإصداراته وفعالياته ليُعنَى عنايةً واضحةً بالدعوة الإسلامية وعظًا وإرشادًا وإفتاءً ونشرً.
وأوضح انَّ كلية الدعوة الإسلامية المباركة بعلمائها الأجلَّاء ومجمع البحوث الإسلامية تربطهما قواعد كليَّة عبَّرت عنها محاور هذا المؤتمر، كما هو دأب سائر كليَّات الجامعة وقطاعات الأزهر الشريف؛ فهي تنسجم مع المجمع في كلِّ المسارات الدعوية والبحثية، كما تنبثق من مجلس المجمع لجنةٌ ضمن سلسلة ذهبية مِنَ اللجان العِلمية تُسمَّى: (لجنة التعاون بين المجمع وجامعة الأزهر)؛ ومِن هنا جاء هذا التشارك الميمون.
وأضاف الجندي -خلال كلمته صباح اليوم بمؤتمر كليَّة الدعوة الإسلامية، الذي يُعقد بالتعاون مع مجمع البحوث الإسلامية بمركز الأزهر للمؤتمرات تحت عنوان: (الدَّعوة الإسلامية والحوار الحضاري.. رؤية واقعية استشرافية)- أنَّ موضوع هذا المؤتمر بلغ من العناية بمكان لدى مولانا الإمام الأكبر حفظه الله تعالى، الذي دائمًا نراه يجدِّد دعوتَه للحوار في وقت ادلهمَّت فيه الصراعات، وشاعت فيه التحديات الإقليمية والعالمية، وأنَّ مفهوم الحوار لم ينسلخ في المنظور التشريعي الإلهي عن مطالبات الفطرة الإنسانية، ولم يصطدم بالحقائق الحيوية للكينونة الإنسانية، فالحوارُ خطابٌ للوجود كلِّه بمنهجٍ يتناغم مع طبيعة الحياة فيه، وقد ساق البشريَّة كلَّها إلى حياة الإِلْف والإخاء، وأنقذها من عناء التدابير الفكرية المنزلقة إلى نظام حياة الغابة، وحذَّرها من خطر السيكولوجيات المضلِّلة، وأعفى البشرية مِن تولِّي وضع التصميم الأساس لحياة الإنسان، بل لحياة الكائنات المشاركة في الإرث الأرضي والكوني على حدٍّ سواء، وتأتي رسالة رسول الله محمد ﷺ لتؤكِّد وتجدِّد نداء السماء بعدم المساس بمنهج الله سبحانه، فإنه لا اجتهاد مع النَّص.
وأشار الأمين العام إلى أنَّ خبراء الحوار قد اختصروا الغاية منه في الإسلام في عبارات جزلة، يقول الإمام الغزالي في (الإحياء) عند ذِكره علامات طلب الحق في الحوار: «أنْ يكون في طلب الحق كناشد ضالَّة، لا يفرّق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد مَن يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق»، وقال الإمام الشافعي: «ما حاورتُ أحدًا إلا تمنيتُ لو أنَّ الله أظهر الحقَّ على لسانه»، وفي ذلك إسقاط للعصبية والتعصُّب والأنا وفقدان المعيار ونشدان الانتصار.
وأكَّد أنَّ منظومة منهاج الحوار في الإسلام واحدة، ومَن كانت لهم اليد الطُّولى في التقعيد للحوار المنطقي العقلي والدعوي وآدابه، استمدوا منهجهم من الإسلام، فنرى (منهج الإسلام في الحوار) في منهج الإمام أبي حنيفة النعمان، والإمام أحمد بن حنبل، والعلَّامة إمام الحرمين الجويني، والعلَّامة أبي بكر الباقلاني، والعلَّامة أبي حامد الغزالي، والعلَّامة أبي الحسن الفارسي، والعلَّامة عبد الكريم بن محمد الدامغاني، والعلَّامة الإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، والعلَّامة الإمام البيجوري، والعلَّامة الإمام محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، والعلَّامة أحمد الملوي، والعلَّامة محمد بن عياد الطنطاوي الشافعي، والعلَّامة الإمام المراغي، والعلَّامة الإمام عبد الحليم محمود، والعلَّامة مولانا الإمام الأكبر أحمد الطيب.
واختتم الدكتور الجندي أنَّه مِن خلال هذه القواعد المسلسلة نرسِّخ للحوار الدعوي في كنف رؤية محبوكة تضمن الانسجام في المجتمعات؛ تحقيقًا لحفظ الضرورات الخمس، ونصوغ رؤيةً استشرافيةً مستنبطةً من أقيسة وقراءات عمليَّة، خصوصًا في ظلِّ التحديات الإقليمية والعالمية.
IMG-20241117-WA0007 IMG-20241117-WA0008 IMG-20241117-WA0009 IMG-20241117-WA0005 IMG-20241117-WA0004 IMG-20241117-WA0003 IMG_20241117_101855 IMG_20241117_101849 IMG_20241117_101846 IMG_20241117_101843