لجريدة عمان:
2024-08-11@00:31:00 GMT

علاقتنا في ميزان التعاقدية والتراحمية

تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT

Your browser does not support the audio element.

قرأت مؤخرا كتابَ «رحلتي الفكرية» للمفكّر المصري عبدالوهاب المسيري الذي سرد فيه رحلته الفكرية ومذكراته المتعلقة بمساره المعرفي، ولفت انتباهي حديثُه المسهب عن التعاقدية والتراحمية في حياتنا الخاصة والعامة التي تشمل مستوى العلاقات التجارية، والاجتماعية والأسرية التي استفاض فيها بعرض مشاهد واقعية كثيرة عايشها المسيري في فترات حياته في مصر والولايات المتحدة الأمريكية.

غامرني الشعور بعمق الكينونة المجتمعية المبنية على العلاقات بأنواعها سواء العملية، أو التجارية، أو السياسة، أو المعرفية، أو الاجتماعية، أو الأسرية وبقية عموم صورها المتعددة، وأكاد أظن أننا لم نبتعد كثيرا عن تلك الكينونة المجتمعية التي تحدث المسيري عن بعض زواياها التي نغلفها بغلاف مبدأ العلاقات سواء المبني على أسس التعاقد أو أسس التراحم، وهذا أيضا ما أبدع في سرده -ولو بمنطلق وألفاظ أخرى- عاِلم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي غاص تفسيره في السلوك البشري العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص. لا يمكن أن نلغي توجهاتنا التعاقدية بشكل كلّي، ولا يمكن أن نهملَ التوجه التراحمي كذلك، وفي المقابل لا يمكن أن نُكبرَ أحدهما ليطغى على الآخر، ولعل أحد أسباب النقد الحضاري للأمم والحضارات يتمركز في نمط العلاقات المجتمعية ومناهجها؛ فيمكن أن نرى في الدين الإسلامي -منذ نشأته قبل أكثر من 1400 عام- وعبر مصدره الرئيس -القرآن الكريم- التوازن في العلاقات المجتمعية عبر المنهج التعاقدي الذي لم تغبْ مفاصله في التشريع الإسلامي وقواعده القرآنية دون أيّ تغييب للمنهج التراحمي الذي يصطف في كل مرحلة مهمة وحساسة جنبًا إلى جنب مع التعاقدية ليكون بمثابة صَمام أمان يسد كل فجوة من فجوات العلاقات المجتمعية؛ وهناك مواضع لا يستقيم أمرها إلا بالتعاقد مثل حال التجارة -البيع والشراء-، وجاءت آيات قرآنية أجزلت في وضع قاعدة للتعاقد في أمور البيع والشراء والدَّيْن لأجل إرساء العدالة وضمان الحقوق، إلا أن هذه التعاقدية يمكن أن تتخللها العلاقات التراحمية التي لا ينقطع خيطها مع كل ضرورة إنسانية، وجاءت صور المنهج التراحمي في العلاقات الأسرية التي تبدأ بعلاقة الإنسان بوالديه والعلاقة الزوجية التي تحفل بأجمل صور المنهج التراحمي الذي يحمل في الوقت نفسه سمات التعاقد الذي يحمي حقوق كل طرف ولو بصورة أقل رسمية من صور العلاقات ذات المستوى العام مثل علاقات التجارة والعلاقات السياسية.

نحن اليوم أمام مشاهد لا تختلف كثيرا عن المشاهد التي أوردها المسيري أو الوردي التي تُظهر أشكالها الكثيرة المعبّرة عن مفهوم العلاقات المجتمعية؛ فهناك العلاقات التعاقدية التي يمكن أن يتداخل معها المبدأ التراحمي الذي من الممكن أن يمتزج بنمط المجاملة أو كما يراها البعض يلبس ثوبَ النفاق، وهنا لا يمكن أن نقتحم جدار هذه العلاقات لنكشف ما وراءها ونعرف خفاياها؛ فلهذا جاء المبدأ التعاقدي متربعًا ليكون حاميًا للحقوق خصوصًا في القضايا العامة وعلاقاتها التفاعلية، ولتبسيط مفهومنا للمنهج التعاقدي والمنهج التراحمي وإمكانية تفاعلهما نأخذ مشهدًا واقعيًا يحدث في مجتمعاتنا العربية أثناء عملية البيع والشراء التي تجد فيها ثبات التاجر على سعر معيّن لبضاعة ما، وهنا يتمثل المبدأ التعاقدي الذي يحمل في طياته المصلحة المادية المتبادلة، ولكن لا تستغرب أن تجد هذا التاجر يصرُّ على إكرام المشتري الذي يعتبره ضيفا؛ فيضيّفه بضيافة قد تتجاوز تكلفتها سعر البضاعة التي باعها للمشتري، وهنا يتمثّل المبدأ التراحمي الذي ينطلق من منطلقات إنسانية ودينية وعُرفية محضة؛ إذ لا وجود للعامل المادي في الصفقة الثانية التي تتمثل في قيمة الكرم والإحسان.

في المقابل من اليسير أن تجد طغيان المشهد التعاقدي على التراحمي حتى في نطاق الأسرة في دول أخرى خصوصًا الغربية، ولمنطلقات المنهج التعاقدي وهيمنته في الغرب أسبابه التاريخية المتعلقة بصراعات الدين والسياسة التي انبثقت بواسطتها المدارس الفلسفية والمادية؛ فنجد المجتمع الغربي لا يظهر غضاضة في ممارسة المنهج التعاقدي في معظم تفاصيل الحياة بما فيها الأسرية رغم عدم انتفاء المشاهد التراحمية وإن قلّ وجودها، وهذا ما يعلل غلبة المذاهب الفردانية التي ترى تحقيق المصلحة في حدودها الذاتية الواحدة، في حين نجد الألفة والتعاون أكثر شيوعا في المجتمعات الشرقية بما فيها العربية ولكن عامل التناقض ملحوظ أيضا في مجتمعاتنا التي تركز كثيرا على سطحيات الظواهر وعنواناتها دون العمق والمحتوى الداخلي؛ فمن السهل أن تجد الاحترام المتبادل في اللقاءات والمساجد في حين تتقهقر هذه السمات في مواقع أخرى مثل الشوارع التي تفتقد في كثير من الحالات لاحترام حقوق الآخر أو في وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر جانبا مروعا من فقداننا لعامل التراحم أو حتى التعاقد الأخلاقي المبني على احترام الآخر ووجهة نظره؛ ففي الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي من السهل أن تتوارى الشخصيات الباحثة عن جمال السطح وبريق العنوان؛ فتنزع قناع التراحم وتمارس أنانية تفوق في بعض حالاتها أنانية التعاقدية المادية التي لا يمكن أن نرى جميع ممارساتها بمظهر قبيح غير مرغوب، وهذا ما يوحي بوجود حالة الانفصال بين المبادئ -التي تكون بمنزلة العقد الاجتماعي الجمعي- وبين النزعات الداخلية الفطرية للفرد الداعية إلى حماية الأنا وإثبات وجودها، إلا أن ثمّة منطلقات تعاقدية حتى مع فقدانها عنصر التراحمية تظل في دائرة القبول لضرورة العلاقات وضمان استمرارها.

في خضّم هذه المشاهد والظواهر الإنسانية، من الضرورة أن نعيد فهم معادلة التوازن بين التعاقدية والتراحمية، وأن نعيد نصابها إلى دائرة الحركة المجتمعية بكل تفاصيلها دون الإضرار بالمصالح الخاصة والعامة وطغيان إحداها على الأخرى وفق قواعد الضرورة الأخلاقية التي تعمل بمثابة البُوصلة العقلانية المُنظِمة لحركة المجتمعات الإنسانية وحضاراتها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلاقات المجتمعیة لا یمکن أن

إقرأ أيضاً:

موقع أمريكي: التصعيد الغربي سيشعل أكبر حرب في الشرق الأوسط

الثورة نت/..

أكد تقرير لموقع “كاونتر بنج” الأمريكي، أن عمليات التصعيد التي قام بها الكيان الصهيوني وحلفائه في المنطقة ضد إيران ولبنان يمكن أن يتسبب بإشعال أكبر حرب إقليمية في منطقة الشرق الأوسط.

وذكر التقرير الذي نشر اليوم الخميس، أنه “إذا هاجمت “إسرائيل” قوة حزب الله الصاروخية والباليستية الضخمة، والتي تقدر بنحو 150 ألف صاروخ، فمن غير المحتمل أن تتمكن من تدميرها وبالتالي يستطيع حزب الله أن يطلق آلاف الصواريخ يومياً على “إسرائيل”، مما يتسبب في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات”.

وتساءل التقرير “ما هو نوع الانتقام الذي ستتخذه أي من هذه الأطراف ضد “إسرائيل”، وكيف قد ترد “إسرائيل”، قد لا يكون معروفاً لبعض الوقت، ولكن هناك شيء واحد يجب على جميع الأطراف أن تأخذه في عين الاعتبار ألا وهو عدم قدرتها على السيطرة بشكل كامل على التصعيد الذي يمكن أن ينفجر إلى حرب مدمرة وواسعة على عدة جبهات وقد تتدخل الولايات المتحدة فيها لحماية حليفتها المدللة”.

وأوضح التقرير أن “المشكلة هي أن الحروب قد تنجم عن حسابات خاطئة، ومن خلال محاولة ردع بعضهم البعض عن التصعيد، فإنهم يخاطرون بارتكاب حسابات خاطئة تؤدي إلى عكس ما كانوا يقصدونه”.

وأشار التقرير إلى أن “المحاولات الاستفزازية الصهيونية تمثل أحدث مأساة في الشرق الأوسط، وهي تنذر بعدم الإفراج الوشيك عن الرهائن أو السجناء، وعدم تراجع الكارثة الإنسانية في غزة، وعدم التحرك نحو وقف دائم لإطلاق النار وإقامة الدولة الفلسطينية”.

مقالات مشابهة

  • عادل حمودة: إسرائيل لا ترى الخطر في إيران وإنما بالعراق
  • مجزرة الفجر.. وحقيقة السلام مع إسرائيل
  • طرق جديدة لعلاج مشاكل النظر وتحسين الرؤية
  • فنزويلا تحظر X وسط نزاع مع إيلون ماسك
  • ‎المالية النيابية: العراق بحاجة إلى إيقاف التعيينات لمدة 10 سنوات لتعديل ميزان النفقات
  • باحث: توسيع رقعة القتال أولولية حتمية لـ نتياهو
  • الأخلاق ميزان الأمم
  • موقع أمريكي: التصعيد الغربي سيشعل أكبر حرب في الشرق الأوسط
  • انفجار نجمي باهر يمكن أن نراه يلمع في السماء قريبا
  • الكونجرس الدولي للمسؤولية الاجتماعية .. توظيف التقنية لتعزيز المبادرات المستدامة