لجريدة عمان:
2025-03-19@23:50:34 GMT

علاقتنا في ميزان التعاقدية والتراحمية

تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT

Your browser does not support the audio element.

قرأت مؤخرا كتابَ «رحلتي الفكرية» للمفكّر المصري عبدالوهاب المسيري الذي سرد فيه رحلته الفكرية ومذكراته المتعلقة بمساره المعرفي، ولفت انتباهي حديثُه المسهب عن التعاقدية والتراحمية في حياتنا الخاصة والعامة التي تشمل مستوى العلاقات التجارية، والاجتماعية والأسرية التي استفاض فيها بعرض مشاهد واقعية كثيرة عايشها المسيري في فترات حياته في مصر والولايات المتحدة الأمريكية.

غامرني الشعور بعمق الكينونة المجتمعية المبنية على العلاقات بأنواعها سواء العملية، أو التجارية، أو السياسة، أو المعرفية، أو الاجتماعية، أو الأسرية وبقية عموم صورها المتعددة، وأكاد أظن أننا لم نبتعد كثيرا عن تلك الكينونة المجتمعية التي تحدث المسيري عن بعض زواياها التي نغلفها بغلاف مبدأ العلاقات سواء المبني على أسس التعاقد أو أسس التراحم، وهذا أيضا ما أبدع في سرده -ولو بمنطلق وألفاظ أخرى- عاِلم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي غاص تفسيره في السلوك البشري العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص. لا يمكن أن نلغي توجهاتنا التعاقدية بشكل كلّي، ولا يمكن أن نهملَ التوجه التراحمي كذلك، وفي المقابل لا يمكن أن نُكبرَ أحدهما ليطغى على الآخر، ولعل أحد أسباب النقد الحضاري للأمم والحضارات يتمركز في نمط العلاقات المجتمعية ومناهجها؛ فيمكن أن نرى في الدين الإسلامي -منذ نشأته قبل أكثر من 1400 عام- وعبر مصدره الرئيس -القرآن الكريم- التوازن في العلاقات المجتمعية عبر المنهج التعاقدي الذي لم تغبْ مفاصله في التشريع الإسلامي وقواعده القرآنية دون أيّ تغييب للمنهج التراحمي الذي يصطف في كل مرحلة مهمة وحساسة جنبًا إلى جنب مع التعاقدية ليكون بمثابة صَمام أمان يسد كل فجوة من فجوات العلاقات المجتمعية؛ وهناك مواضع لا يستقيم أمرها إلا بالتعاقد مثل حال التجارة -البيع والشراء-، وجاءت آيات قرآنية أجزلت في وضع قاعدة للتعاقد في أمور البيع والشراء والدَّيْن لأجل إرساء العدالة وضمان الحقوق، إلا أن هذه التعاقدية يمكن أن تتخللها العلاقات التراحمية التي لا ينقطع خيطها مع كل ضرورة إنسانية، وجاءت صور المنهج التراحمي في العلاقات الأسرية التي تبدأ بعلاقة الإنسان بوالديه والعلاقة الزوجية التي تحفل بأجمل صور المنهج التراحمي الذي يحمل في الوقت نفسه سمات التعاقد الذي يحمي حقوق كل طرف ولو بصورة أقل رسمية من صور العلاقات ذات المستوى العام مثل علاقات التجارة والعلاقات السياسية.

نحن اليوم أمام مشاهد لا تختلف كثيرا عن المشاهد التي أوردها المسيري أو الوردي التي تُظهر أشكالها الكثيرة المعبّرة عن مفهوم العلاقات المجتمعية؛ فهناك العلاقات التعاقدية التي يمكن أن يتداخل معها المبدأ التراحمي الذي من الممكن أن يمتزج بنمط المجاملة أو كما يراها البعض يلبس ثوبَ النفاق، وهنا لا يمكن أن نقتحم جدار هذه العلاقات لنكشف ما وراءها ونعرف خفاياها؛ فلهذا جاء المبدأ التعاقدي متربعًا ليكون حاميًا للحقوق خصوصًا في القضايا العامة وعلاقاتها التفاعلية، ولتبسيط مفهومنا للمنهج التعاقدي والمنهج التراحمي وإمكانية تفاعلهما نأخذ مشهدًا واقعيًا يحدث في مجتمعاتنا العربية أثناء عملية البيع والشراء التي تجد فيها ثبات التاجر على سعر معيّن لبضاعة ما، وهنا يتمثل المبدأ التعاقدي الذي يحمل في طياته المصلحة المادية المتبادلة، ولكن لا تستغرب أن تجد هذا التاجر يصرُّ على إكرام المشتري الذي يعتبره ضيفا؛ فيضيّفه بضيافة قد تتجاوز تكلفتها سعر البضاعة التي باعها للمشتري، وهنا يتمثّل المبدأ التراحمي الذي ينطلق من منطلقات إنسانية ودينية وعُرفية محضة؛ إذ لا وجود للعامل المادي في الصفقة الثانية التي تتمثل في قيمة الكرم والإحسان.

في المقابل من اليسير أن تجد طغيان المشهد التعاقدي على التراحمي حتى في نطاق الأسرة في دول أخرى خصوصًا الغربية، ولمنطلقات المنهج التعاقدي وهيمنته في الغرب أسبابه التاريخية المتعلقة بصراعات الدين والسياسة التي انبثقت بواسطتها المدارس الفلسفية والمادية؛ فنجد المجتمع الغربي لا يظهر غضاضة في ممارسة المنهج التعاقدي في معظم تفاصيل الحياة بما فيها الأسرية رغم عدم انتفاء المشاهد التراحمية وإن قلّ وجودها، وهذا ما يعلل غلبة المذاهب الفردانية التي ترى تحقيق المصلحة في حدودها الذاتية الواحدة، في حين نجد الألفة والتعاون أكثر شيوعا في المجتمعات الشرقية بما فيها العربية ولكن عامل التناقض ملحوظ أيضا في مجتمعاتنا التي تركز كثيرا على سطحيات الظواهر وعنواناتها دون العمق والمحتوى الداخلي؛ فمن السهل أن تجد الاحترام المتبادل في اللقاءات والمساجد في حين تتقهقر هذه السمات في مواقع أخرى مثل الشوارع التي تفتقد في كثير من الحالات لاحترام حقوق الآخر أو في وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر جانبا مروعا من فقداننا لعامل التراحم أو حتى التعاقد الأخلاقي المبني على احترام الآخر ووجهة نظره؛ ففي الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي من السهل أن تتوارى الشخصيات الباحثة عن جمال السطح وبريق العنوان؛ فتنزع قناع التراحم وتمارس أنانية تفوق في بعض حالاتها أنانية التعاقدية المادية التي لا يمكن أن نرى جميع ممارساتها بمظهر قبيح غير مرغوب، وهذا ما يوحي بوجود حالة الانفصال بين المبادئ -التي تكون بمنزلة العقد الاجتماعي الجمعي- وبين النزعات الداخلية الفطرية للفرد الداعية إلى حماية الأنا وإثبات وجودها، إلا أن ثمّة منطلقات تعاقدية حتى مع فقدانها عنصر التراحمية تظل في دائرة القبول لضرورة العلاقات وضمان استمرارها.

في خضّم هذه المشاهد والظواهر الإنسانية، من الضرورة أن نعيد فهم معادلة التوازن بين التعاقدية والتراحمية، وأن نعيد نصابها إلى دائرة الحركة المجتمعية بكل تفاصيلها دون الإضرار بالمصالح الخاصة والعامة وطغيان إحداها على الأخرى وفق قواعد الضرورة الأخلاقية التي تعمل بمثابة البُوصلة العقلانية المُنظِمة لحركة المجتمعات الإنسانية وحضاراتها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلاقات المجتمعیة لا یمکن أن

إقرأ أيضاً:

البترول تناقش البنود التعاقدية لاستئجار وحدة تغييز عائمة ألمانية

في إطار استراتيجية وزارة البترول والثروة المعدنية لضمان إمدادات الغاز الطبيعي لتلبية احتياجات قطاع الكهرباء والسوق المحلى من الغاز الطبيعي واستكمالاً للمباحثات مع وزارة الشئون الاقتصادية والعمل المناخي الألمانية لاستغلال طاقات التغيير الفائضة لدى الجانب الألماني وذلك على هامش مشاركته في أسبوع سيراويك 2025 الذي تم عقده خلال الشهر الجاري بمدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية.


أجرى المهندس كريم بدوي وزير البترول والثروة المعدنية زيارة إلى برلين رافقه خلالها المهندس يس محمد العضو المنتدب التنفيذي للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، وكان في استقبال  أوليفر رينشلر، المدير العام لدبلوماسية المناخ والاقتصاد الجغرافي في وزارة الخارجية الألمانية وكبار المسئولين بالوزارة.  

وتناول اللقاء مناقشة البنود التعاقدية لاستئجار وحدة التغييز العائمة (Energos Power). 

وزير البترول يستعرض إستراتيجية مصر الشاملة في قطاع الطاقةمصر وألمانيا تناقشان التعاون في مجال تخزين وتجارة وتداول الكربون

بحث الأمور الفنية

وكان الجانبان قد شرعا في المفاوضات وبحث الأمور الفنية المتعلق باستئجار وحدة التغييز العائمة بنهاية شهر فبراير الماضي  خلال الاجتماعات التي تم عقدها بالقاهرة بين مسئولي شركة إيجاس والرئيـس التنفيذي لشركـة Gasfin Development  ممثلاً عن الشركة ومفوضاً من قبل وزير الاقتصاد والطاقة والشئون المناخية الألماني للتفاوض بشأن تأجير وحدة التغييز العائمة (Energos Power) التابعة لشركة نيوفورتس الأمريكية والقائمة حالياً في ميناء Mukran على بحر البلطيق بألمانيا، وذلك بعد قرار وزير الاقتصاد والطاقة والشئون المناخية الألماني إنهاء عقد إيجارها وفتح باب المجال لتأجير الوحدة لطرف ثالث.

وجدير بالذكر أن التعاقد يأتي في إطار تفعيل بنود إعلاني النوايا اللذين تم توقيعهما في نوفمبر 2022 بين وزارتي البترول والثروة المعدنية والكهرباء والطاقة المتجددة في مصر ووزارة الشئون الاقتصادية والعمل المناخى الألمانية للتعاون في مجالات الغاز الطبيعي المسال والهيدروجين الأخضر.

مقالات مشابهة

  • قرار صادم من واتساب .. تعيين حدود الرسائل التي يمكن إرسالها
  • البترول تناقش البنود التعاقدية لاستئجار وحدة تغييز عائمة ألمانية
  • علماء يسبرون أغوار نجم الموت الذي يمكن أن يدمر الأرض
  • عاجل | "التعليم" تمدد فترة التقديم على الوظائف التعليمية التعاقدية المكانية حتى 24 مارس
  • في القولد التقيت بالصديق !
  • التعليم تمدد فترة التقديم على الوظائف التعاقدية المكانية
  • وزير خارجية السودان للجزيرة نت: علاقتنا مع واشنطن ليست على حساب الفلسطينيين
  • تعزيز الزراعة التعاقدية.. مبادرات تمويلية وتسويقية لدعم الفلاحين في بني سويف والمنيا
  • بالصور.. ندوات إرشادية عن دور التعاونيات في تفعيل الزراعات التعاقدية وتسويق المحاصيل
  • ميزان المدفوعات الإسرائيلي ومدى تأثره بالحرب